حديث الاسبوع

التطورات تكشف زيف الادعاءات و مع ذلك لا يخجلون

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

يندر أن تتحرك العديد من المنظمات الدولية مجتمعة للاشتغال على قضية واحدة، وحينما يحدث ذلك، فإن هذا المعطى يؤشر على الأهمية البالغة التى تميز القضية موضوع الاشتغال، وعلى الخطورة البالغة التى تكتسيها، وعلى حجم الأخطار المحدقة بالبشرية جمعاء.

حدث هذا الأمر هذه المرة حينما سارعت منظمات دولية متخصصة، أو لها علاقة بالموضوع من قبيل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) والصندوق الدولى للتنمية (إيفاد) وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، إلى إصدار تقرير دولى جديد يرصد أوضاع المجاعة وانعدام الأمن الغذائى واستفحال سوء التغذية فى العالم، فى ضوء التطورات الكبيرة والمؤثرة التى عاشها ولا يزال يعيشها العالم.

أهم ما يمكن الوقوف عنده فى هذه الوثيقة الأممية الجديدة قبل الغوص فى التفاصيل الصادمة، يتمثل فى أن هذه المنظمات الدولية المتخصصة تكشف عن معطى يكتسى خطورة بالغة، لأنه يجرد الكثير من الالتزامات الدولية من أية مصداقية أو شرعية، ويقدم الوعود الدولية التى انعقدت من أجلها اجتماعات متخصصة ورفيعة المستوى، وصرفت من أجلها ميزانيات مالية ضخمة مجرد شعارات خطت فوق أوراق بيضاء، مما يجيز القول بأن كل ذلك لم يكن الهدف منه غير إلهاء شعوب العالم، ومغالطتها بوعود عارية من أية مصداقية أو شرعية. وهكذا فإن التقرير الجديد ينبه بقوة إلى أن الأوضاع المتعلقة بالمجاعة وبالأمن الغذائى وبسوء التغذية فى العالم تسير فى الاتجاه المعاكس لما يتم الالتزام به، ذلك بيد أن (خطة أهداف التنمية) التى تم الإعلان عنها فى سنة 2015، والتى تم التسويق لها لفترات طويلة فى المنتديات وفى المؤتمرات وفى الدراسات والأبحاث حددت سنة 2030، كموعد نهائى للقضاء على المجاعة وانعدام الأمن الغذائى فى العالم وتحسين جودة التغذية، وتبعا لذلك كان من المفروض أن تتجه جميع المؤشرات المرتبطة بهذه المعضلات نحو التحسن ويجب أن يتجسد ذلك بإنقاذ ملايين الأشخاص من وضعية الجوع وسوء التغذية وصعوبة الحصول على الغذاء، إلى وضعية بديلة تمكنهم من تحسين جودة الغذاء والعيش، إلا أن ما يكشف عنه التقرير الجديد يؤشر غير ذلك تماما بالتأكيد من خلال الإحصائيات والوقائع أن الأوضاع تزداد استفحالا، وأن ملايين الأشخاص يفدون، بل تدفعهم التداعيات المترتبة عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى العالم، إلى منطقة الجياع فى العالم ليلتحقوا بملايين آخرين من الأشخاص تم وعدهم فى السابق بأنهم سيتخلصون من هذه الوضعية.

وبذلك فإن النتيجة صارت عكسية، فبينما إعلان التنمية المستدامة يتحدث عن التخفيف التدريجى من أعداد الجياع وضحايا انعدام الأمن الغذائى وسوء التغذية فى العالم فى أفق إفراغ منطقة الجياع فى العالم بحلول سنة 2030، فإن الواقع يشير إلى أن العملية تتم بصفة معكوسة، إذ تزداد أعداد الجياع فى العالم مع اقتراب موعد سنة 2030.

من حيث التفاصيل الصادمة التى حفل بها التقرير تشير إلى أن سنة 2021 ألقت بـ 46 مليون شخص إضافى فى العالم إلى منطقة المجاعة ليلتحقوا بـ 150 مليون شخص وجدوا أنفسهم فى وضعية جوع فى السنة السابقة لها، ليصل مجموع الجياع فى العالم إلى مستويات قياسية غير مسبوقة فى التاريخ الحديث، حيث إن ما مجموعه 150 مليون شخص فى العالم لا يجدون لقمة يسدون بها رمقهم. و ليس هذا فقط، بل إن 2٫3 مليار شخص فى العالم (أى ما نسبته 29٫3 بالمائة من سكان المعمور) يعانون من انعدام الأمن الغذائى بشكل معتدل أو شديد، وأن 924 مليون شخص من بينهم يواجهون ضعفا فى أمنهم الغذائى مما يجعلهم فى تماس مباشر مع المصنفين فى خانة المجاعة، ويرشحهم للالتحاق بهم فى أية لحظة من اللحظات.

وأن 45 مليون طفل دون سن الخامسة فى العالم يعانون من الهزال، وهو أكثر مظاهر سوء التغذية تجليًا بسبب النقص الفادح فى العناصر الغذائية الأساسية لما يدخل أفواههم وبطونهم من غذاء. ويقدم التقرير دليلا قويا على عدم صدقية (خطة التنمية المستدامة فى أفق سنة 2030) حينما يؤكد أن 670 مليون شخص (بما يمثل 8 بالمائة من سكان العالم) سيظلون يواجهون الجوع وانعدام الأمن الغذائى فى سنة 2030، وهو الموعد الذى حددته الخطة للقضاء على هذه الآفات، حتى وإن تم أخذ الانتعاش الاقتصادى العالمى بعين الاعتبار، أما إذا لم يحدث ذلك، وهو الأقرب إلى الحقيقة، إن لم تكن الحقيقة نفسها، فإن أعداد الجياع وضحايا انعدام الأمن الغذائى وسوء التغذية ستزداد بأعداد غفيرة جدا.

و فى تقديرنا، فإن التقرير الجديد يجانب الصواب حينما يحصر أسباب استمرار استفحال جميع أشكال المجاعة وانعدام الأمن الغذائى وسوء التغذية فى بعض التطورات التى عاشها العالم خلال الفترة الوجيزة الماضية. فسواء تعلق الأمر بتداعيات الأزمة الصحية العالمية التى خلفتها، ولاتزال تخلفها، جائحة كورونا، أو ما تراكمه الحرب الروسية الأوكرانية التى أضرت كثيرا بسلاسل الإنتاج والتصدير والتسويق، و سواء فيما يخص التغيرات المناخية، فإنه لا يمكن حصر الأسباب الحقيقية للمجاعة وسوء التغذية فى هذه الدائرة المغلقة، وإلا سنكون بصدد تبرير ما لا يمكن تبريره، وتقديم صك الغفران للجهات المسئولة بصفة مباشرة. والدليل على ذلك أن ضحايا المجاعة وما يرتبط بها يوجدون فى مناطق معينة من العالم، و أن شعوبا أخرى لا تقترب منها هذه الآفات، وهى ليست معنية بها، بمعنى أنه ليست هناك عدالة مجالية ولا إنسانية فيما يتعلق بتعميم، ما يدعون أنه ناتج عن عوامل صحية ومناخية وسياسية طارئة. بل إنه من الغريب والعجيب أن تنحصر تداعيات تلك الأسباب فى مناطق جغرافية محددة فى العالم وعلى شعوب معينة دون سواها.

و الحقيقة التى لا يمكن أن ينكرها رأى يوجد به عقل، أن أسباب المجاعة وانعدام الأمن الغذائى وسوء التغذية، سياسية واستراتيجية بصفة رئيسية مرتبطة بصفة مباشرة بطبيعة النظام العالمى السائد، وبمسئولية القوى العظمى المتحكمة فيه، و بالتالى فإن الأزمات الاجتماعية الطارئة والحروب المستجدة وتدهور مؤشرات المناخ، هى مجرد عوامل و أسباب مكملة، وهى بدورها من إفرازات نظام عالمى يتطاحن فيه الكبار على حساب الصغار، نظام عالمى يحسد نظام العبودية بصيغته العالمية الجديدة التى تختلف عن سابقتها من حيث الشكل والمظهر، ولكنها هى نفسها من حيث الجوهر.

 < نقيب الصحافيين المغاربة