إمبريالية الخيال وفخ كتابة «الآخر»

شيهان، سارا، وليد، آنجل
شيهان، سارا، وليد، آنجل

ناقشت هذه الندوة موضوعا هو بالضرورة نتاج مصطلح الصوابية السياسية والذى يتغول ليطوى كل المجالات وفق مفاهيمه بما فى ذلك الفن. عنوان الندوة كتابة «غير الذات»، أو «الآخر» والمقصود أن الكتاب، بطريقة أو أخرى، غالبا ما يصنعون شخصيات مختلفة عن أنفسهم. والسؤال: عندما يتم تصوير مثل هذه الشخصية على أنها «تنتمي» إلى مجموعة مميزة ومعروفة - ربما أقلية، ما هى مسئولية الكاتب، إن وجدت، تجاه تمثيل «الآخر» بدقة؟ وهل توجد تحديات مماثلة لمن يكتب من موقع مهمش؟

تحت عنوان «تجربة الآخر» طرح آنجل يجوف تساؤلات يقرب من خلالها مفهومه للفن: ماذا لو أنى كنت شخصا آخر؟ ماذا لو عشت فى مكان آخر، فى وقت آخر؟ ماذا لو كان بإمكانك تصوير نفسك كشخصية فى رواية؟

 أعتقد أن هذا النوع من «ماذا لو» هو ما يجعلنا نقرأ الروايات فى المقام الأول، وفى كثير من الحالات - ليس بالضرورة فى جميع الحالات - هذا هو ما يدفع الكتاب إلى إنشاء عوالمهم الخيالية، مع «الآخر» الذى نصل إليه عن طريق الخيال والتعاطف.


 هذا ما يدور حوله الأدب، بالنسبة لى على الأقل: تجربة الآخر. أولاً، كقارئ، الشروع فى ألف رحلة مختلفة إلى أماكن أخرى أو حتى عوالم أخرى لمقابلة أشخاص مختلفين تمامًا أو قد لا يكونون بشرًا بل حيوانات أو كائنات فضائية أو آلهة أو أشجارًا أو أنهارًا.

بعد ذلك، كمترجم، من خلال التعريف، نقل، تحويل، ترميز، نتاج عقل شخص آخر إلى لغة وثقافة ووقت آخر. أخيرًا، ككاتب، يتبنى حرفياً صوت شخص آخر، ويتخيل الآخر على أنه هو، ويمكننا أن نفهم كم هذا التخيل حاجة إنسانية أساسية إذا نظرنا إلى لعب الأطفال. فى هذا، يشبه الكتاب الأطفال إلى حد كبير، ومع ذلك فإن لعبهم يتميز بكونه مثيرًا للاهتمام للآخرين.


أنا لا أقول إن كتابة اللاذات (الآخر) هى احتلال برىء. ليس هناك ما هو برىء - ولا حتى لعب الأطفال. إنه بالطبع نشاط يحتوى على بذور ما نسميه إمبريالية الخيال. يستعير الكاتب صوت شخص آخر دون طلب الإذن. تقع على عاتق المؤلف المسؤولية الأخلاقية للتحدث نيابة عن الآخرين وليس بدلاً عنهم. وبالتالى، إقامة ديمقراطية بدلاً من إمبراطورية على مستوى الخيال.


اختارت سارة جاراميلو فى ورقتها «عبور النهر» الاقتراب من الموضوع من خلال سرد قصة تحكى عن مؤلفة شابة نشرت روايتها الأولى فى كولومبيا أشاد بها النقاد واصبحت من أكثر الكتب مبيعًا. تدور حول رحلة امرأة يريد ابنها بالتبنى مقابلة والدته البيولوجية. عاشت المرأة التى كانوا يزورونها فى منطقة غابة منعزلة لا يمكن الوصول إليها إلا بالسفر فوق النهر على متن قارب. 


عقدة الرواية تأتى من أن القصة مستوحاة من حدث حقيقى فى منطقة جرت فيها مذبحة والمشكلة تمكن فى أن معظم سكان المنطقة (تشوكو) من السود، والمؤلف أبيض.تعرف الكاتبة المنطقة جيدًا لأنها عاشت هناك لمدة عشر سنوات. الشخصية الرئيسية فى الرواية هى امرأة بيضاء تبنت طفلاً أسود اللون وتروى القصة من وجهة نظرها. المذبحة هى الشيء الحقيقى الوحيد فى الرواية. الباقى خيال. ومع ذلك، شعب شوكو لم ينس ما جرى والذى أعاد روايته كاتب أبيض. ذهب العديد من القادة الثقافيين السود إلى أبعد من ذلك واتهموا الرواية بالعنصرية!


تقول سارة: الرواية خيال، لذا فأنا أعطى رأيى ليس كصحفى بل ككاتب روائي. أعتقد أن كاتب الخيال يجب أن يهتم بسرد القصة بأفضل طريقة ممكنة حتى تكون جذابة ومثيرة للاهتمام للقراء. هل هذا يعنى أنه لا حدود عند الكتابة؟ نعم، هناك حدود. ولكن يمكنك دائمًا عبور النهر مدركًا أن مسئوليتك ككاتب تحددها عن طريق سؤال نفسك عما إذا كنت فى وضع يسمح لك بالكتابة عن هذه المجموعة أو تلك المجموعة العرقية أو تلك المنطقة دون الوقوع فى الصور النمطية أو التحيزات الثقافية. هذا يسمى: أن تكون محترفًا.


شيها نكاروناتيلاكا فى محاضرته «قبعات الآخرين - كتابة غير الذات» كان واضحا فى رؤيته على أنه: ما لم تكن تكتب مذكرات، فإن معظم الكتابة هى استكشاف «غير الذات». نقرأ لنخرج من رءوسنا ونكتب، لنصل إلى الآخرين. يتمثل العمل الخيالى فى استجواب الخيال، وطرح أسئلة مثل: «كيف يبدو أن تكون قاتلاً، أو غشاشا، أو سجينًا، أو عبقريًا؟» يمكن للكاتب الماهر أن يجعل القراء يتعاطفون مع شخصيات مختلفة تمامًا عن أنفسهم. يمكن للكاتب الصادق أن يرتدى قبعات مختلفة وأن يرى من خلال عدسات مختلفة وأن يبلغ بأمانة عما يجده.


وقاده هذا إلى أنه: فى العقود الأخيرة، واجهت حرية التجول فى خيالنا ضوابط حدودية ومتطلبات تأشيرة تتمحور حول قضية شائكة. هل يسمح لنا بتجربة أى قبعة نحبها، أو التحدث بلسان أى شخص، أو ارتداء ملابس شخص آخر؟ 
ويضرب مثلا بنفسه ككاتب سنهالى من سيرلانكا قائلا: تحد هائل الذى قد يواجهه رجل سنهالى من كولومبو فى التحدث بصوت فتاة التاميل فى منطقة الحرب. قد يقول البعض أن الأمر لا يستحق المحاولة. وأنا أسأل: هل هناك حقاً حدود لا يمكن تجاوزها فى أحلامنا؟

هل يمكننى أن أكتب كسيدة عجوز، أو ضحية تعذيب، أو عالم أعمى، أو نصف إسرائيلى، ونصف فلسطينى، ثنائى الروح؟


إجابتى دوما هى لماذا لا؟ أنا أتعاطف تمامًا مع الأشخاص الذين يقولون إنه ليس لى الحق فى القيام بذلك. وعذرى الوحيد هو أننى أفعل ذلك بشكل جيد. وهذه هى القاعدة الوحيدة هنا. إذا كنت ستكتب، خاصةً آخر معيب أو أقل امتيازًا، يجب عليك فهم الصوت وأن تكون صادقًا مع ما يخبرك به.


وتحت عنوان «هل تبقى أى سحر؟» تناول وليد الراشدى الموضوع من زاوية كونه كاتبا فرنسيا من أصول جزائرية متسائلا: هل يمكن للمرء أن يكون فرنسياً من أصل شمال أفريقى فى الأعوام 2010-2020 ولا يتكلم من هذا الموقع؟»


ويكمل: مخطوطتى الأولى «الكراسى الموسيقية» أثارت اهتمام العديد من الناشرين المشهورين، لكن لم يمنحها أى منهم فرصة حقيقية. أخبرنى البعض أن أقوم بتطوير المزيد من الشخصيات من خلفيات مهاجرة كما لو كنت غير قادر على كتابة أى شيء آخر. الأسوأ - بدت قصصى تتعرض لانتقادات أكثر شدة عندما اشتملت على شخصيات بيضاء من الطبقة الوسطى. ذات مرة، قال لى مدير دار نشر شهيرة بصراحة: هل هناك سوق لذلك؟


مع مرور السنين، أصبح الموقف الذى كنت أكتب منه أكثر صعوبة. بعد أن عشت بضع سنوات فى الخارج، عندما عدت إلى فرنسا، شعرت بالانفصال عن الحقائق التى صورتها فى البداية. لقد أصبحت أيضًا «الآخر» للآخرين.


لكن فى عام 2015، فى أعقاب هجمات شارلى إبدو وباتاكلان، شعرت بالحاجة إلى الكتابة. فهمت أن الصدمة التى سببها الإرهاب الإسلامى أدت إلى الخوف من الإسلام. علمت أيضًا أن غالبية المسلمين الفرنسيين وجدوا السمو والكرامة والهدف من خلال ممارستهم الدينية. هذه القصة بحاجة إلى أن تحكي. هكذا ظهرت قصة مالك، الشخصية الرئيسية فى «ماذا قد أفعل فى الجنة؟» روايتى الأولى التى نشرت هذا العام. 


فى هذه الرواية، على الرغم مما يمكن للمرء أن يتخيله، فإن البعد ليس له علاقة كبيرة بمسألة الهوية الفرنسية الجزائرية بل بالأحداث الشخصية والوجودية: الخسارة، والحداد، واستحالة إعادة بناء الأشياء بشكل متماثل، وعدم القدرة على إيجاد رواية جديدة عن النفس والعالم...

وأعتقد أن هذا هو ما يربطنا سواء أتينا من باريس أو كابول أو لندن أو الجزائر العاصمة أو أيوا سيتى، وهذا ما يسحرني.

اقرأ ايضا | كل يوم جمعة ندوة