حكايات العائدين من الحرب في ديوان «الغيم والدخان» للدكتور محمد حلمي حامد

الشاعر الدكتور محمد حلمي حامد
الشاعر الدكتور محمد حلمي حامد

صدر للشاعر الدكتور محمد حلمي حامد ديوانه الجديد المعنون (الغيم والدخان) ، وهو سيرة شعرية، حيث لم يعد الشعر لغزا غامضا يفرض على المتلقى أن يبحث عن المعنى الساكن بطن الشاعر، بل يمكن للشعر أن يعود كما كان الى  الحياة بأسرها من ذكريات ووسرد ومعاناة أفراد وشعوب.

 

في هذا المشهد أيضًا نتلمس مزاجًا شعوريا شفافًا يسيطر على شاعرنا بقوة وذلك من خلال مجموعة المعاني الواضحة والأفكار التى لا تحتمل تأويلا ولا فراغات نصية، بحثا عن التعبير الصافي والتواصل الحقيقي الصادر من القلب والذي يستهدف قلوب القراء أيضا ،وهذا دور الشعر وتأثيره في الحياة وفي الناس.

 يقول ميشيل مانويل: "إن الحل لكي تعود الثقة بين القارئ والشاعر هو أن يصبح للشعر ما يكفي من الشفافية والوضوح ليغري أي فرد بقراءته" وهذا ما يقوم به محمد حلمي حامد ببراعة واحترافية فهو يبتعد عن الغموض، بل ويتعمد ذلك فهو يريد أن يصل إلى القارئ من أقصر الطرق بلا تعب، ودون معاناة، والعقل هو الفيصل أيضاً بين ما هو أدبي وما هو عقلي وما هو ممتع وما هو مفيد وما هو ممتع ومفيد معاً.

 

واللغة الشعرية التي يستخدمها الشاعر المعاصر هي العمود الفقري الذي تقوم عليه قصائده، وبها يحقق استقلاليته وشخصيته وتميزه، لأن كل تعبير عن الإحساس والانفعال والتفاعل مع القصيدة تفرض عليه استخدام نمط معين من اللغة.

واذا كان الديوان بعنوان (الغيم والدخان)، فيصعد كل من الغيم والدخان من الأرض إلى السماء صعود الروح من الجسد،  يصعد الغيم بالطيب فيحمل الماء وقد يعود به إلى الأرض بالبرق والرعد، أما دخان  الحرائق والحروب فقد يقتل مثلهما، بينما يقبع الرماد بلا حراك، إنهما كالخير والشر، يصعدان ويتحركان حتى يختفيا بلا أثر.

 

حيث يستعيد الشاعر صور وأخيلة ومواقف مر بها  وشاهدها في طفولته وصباه بدايه من قصيدته (لعنة الأبواب المفتوحة) التي تصف أحوالا مرت به البلاد في فترة الستينيات، حتى قصيدته ( عاد جارى بالهزيمة) ثم (نحن نرفض الهزيمة) فى حوالى عشرين قصيدة تمثل ربع الديوان تقريبا، ون القصائد التى اهتمت بالقاء الضوء على فترة الحرب مع العدو الاسرائيلى والتى عايشها الشاعر من طفولته الى صباه :

لعنة الأبواب المفتوحة - عاد جارى بالهزيمة  - نحن نرفض الهزيمة    مشهد الموت القادم   - لماذا أشرب البول؟ -  ميدان التـحرير نوفمبر    ومشينا خلفهم  - فى صحبة الجمال  - زواج معلقٌ   نتف من الضوء البريء -  الأسر فى الحفر البعيدة -  ورقاء فى كف أسير -  ضائع فى ركبتيها  - إنه يشبه زوجى -  أَهَذَا أَبِي ؟   - من أحوال المنتكس  - إنما العائد غيرى  - الـميتون يدخلون غرفتى  - من العار الى الانتصار   وَمَرّ الْخُلُودِ عَلَى بَابُنَا

 

حيث أتت النكسة وهو دون الثامنة ثم قامت حرب العاشر من رمضان وهو فى المدرسة الثانوية العسكرية ، وحتى نصل الى نصر العاشر من  رمضان يعبر بنا الشاعر آفاقا اجتماعية هامة مرت بها الأسر المصرية  فيما بين النكسة والنصر، فالأسير الذى عاد من حربه مهزما  حزينا، كيف يراه ابنه وكيف يعامل زوجه، وما هو شعور هذه الزوجة، وماذا ينغص ويكدر عيش هذا الجندى المهزوم عندما يدخل الميتون غرفته ونومه، حتى تقول الزوجة :

إنَّهُ يُشْبِهُ زَوجى

يَرتَدى نفسَ المَلابسِ فى السريرْ

عَينُه فَجٌّ عَميقٌ .. بلْ كأنَّهُمَا عُيونٌ لضَريرْ

لا يرانىْ

إن أطَأ خَجْلى بَلاطَ الأرضِ .. أو حتى أطيرْ

لا يَرى الأشياءَ تزَّيَّنُ

مَنْ كانَ حينَ أَمُرُّ يُغْريهِ العبيرْ

ويراه ابنه مختلفا عما ألفه من أبيه :

أَهَذَا أَبِي ؟

مَا لَهُ لَا يُحِسُّ ابتسامي !

وَكَيفَ يَمُرُّ وَلَا يَلْتَفِتْ لِكَلَامِي

وَكَيفَ ألاعبُ أُمِّي

وَلَيْسَ يُلاحِقُني بِالطَّعَامِ

تَرَاهُ تَغَيَّرَ فِي الْحَرْبِ أَمْ غَيَّرَتْهُ الْحَيَاةُ !

أما هو فيقول عن نفسه بعدما عاد من حربه منتكسا :

لا تَسَلْنى كَيفَ عُدْتُ

إنما العائدُ غيرى .. والذى في البيتِ غيرىْ

والذي تَأخذهُ الـمرأةُ بالـحضنِ سواىْ

وعندما يتعلق الأمر بالحرب والهزيمة ، نراه يشهد عبثية صورة الجندى اللاهى المشاغب الذى كانت تصدره افلام الراحل العظيم اسماعيل ياسين  فى الجيش والطيران والبوليس الحربى ، فيراه مقتولا فوق رمال سيناء:

الـميتونَ يَرقدونَ فى الـمَساءِ جانبىْ..

أرواحُهم تَصَاعَدتْ من سِدرة العذابِ

ووردتى تذوبُ مثلَ الثلجِ .. فى الهجيرْ

وكلـَّما أطلَّ (إسماعيلُ) ضاحكاً يقودُ طائرة..

أو يـحملُ الـمخلاةَ فوقَ ظَهرِ باخرةْ

أراهُ فى سيناءَ .. حاثياً حباتِ رَملِها .. مَقتولا

الموتُ بَاقرٌ ضُلوعَهُ  فى ضِحكةِ الطفولةْ

كأنَهُ هَوامٌ ... لا يُعالُ أو يَعولا ..

ثم نمر أيامنا من العار الى الانتصار:

وَكَانَ فَوْقَ تَبَّةٍ فِي أَرْضِنَا شدوانْ

وَوَحْدَهُ إمَام الرَّتَلِ كَانَ صَامِداً

يَرُدُّ عَنْ بُيُوتِنَا الْعُدْوَانْ

وَوَحْدَهُ يُصَابُ ثُمَّ يَخْتَفِي فِي سُتْرَةِ الدُّخَانْ

يَلمُّ الرَّمْلُ رُوحَهُ الْمُبَعْثَرَةْ

يُعِيدُهَا قَوِيَّةً مُحَرَّرَة

لَهَا كَفَّانِ أَو عَيْنَانْ

حَتَّى يُرَى مُقَاتِلًا بِالنَّارِ

زاحفاً فِي عَابرىُ رَمَضَان

يَمُدُّ بِالدِّمَاءِ نَصْرَهُم وَيَقْرَأُ الْقُرْآن.

وَفِي سَواترِ التُّرَابِ يَحْمِلُونَ الزَّادَ والأكفانْ

ويَنْشرُونَ رَعَبَهُم كَأَنَّهُم مِنْ يَوْمِ خَلْقِهِم عَصْفٌ عَلَى الطُّغْيَانْ

إعْلَامُهُم تَحُوْمُ كالطُّيُورِ بَيْنَ الشَّطِّ وَالْمَكَانْ

فَمَنْ يَرُدُّ عَنْ كَتِيبَةٍ بِجِسْمِهِ النِّيرَانْ

وَمَن يَطِيرُ مُلْقِيًا بِالرُّعْب فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا وَقُود بالخزان

وَلَا يَهُمُّ مَنْ يَعِيشُ أَوْ يَمُوتُ

إنَّمَا حَيَاتُهُمْ فِي نَصْرةِ الْأَوْطَانْ.

حتى يَمَرّ الْخُلُودِ عَلَى بَابُنَا  :

وَمَرَّ الْخُلُودُ عَلَى بَابِنَا ذَات يَوْمْ

أَقَمْنَا لَهُ حَفلَنَا فِي الظَّهِيرَة

عَبَرْنَا بِهِ دُونَ خَوْفٍ وَلَومْ

عَبَرْنَا كَأَنَّا نُسورٌ صَغِيرَة

كَطَيْرِ الْأَبَابِيلِ جِئْنَا فُرَادَى

جُيُوشًا تَفُضُّ نُعوْشَاً غَفِيرَة

     وكأنه حين يصف حياته التي عبر عنها شعراً يجد محصلتها قد طارت في الفضاء بلا أثر، كغيمة أصابت أو كدخان عبر، هذه حكاية قلب تفتحت عيناه وعايش المد الاشتراكى والنكسة وتنحي عبد الناصر وعبور رمضان وحروب لبنان، تنامي المد الديني، سطوة الحب ورسائله، رثاء الأباء وصحبة الاصدقاء حتى ثورة25 يناير، سيرة شعرية مضت بين الغيم والدخان.