يوميات الأخبار

الجزائر .. ستون عاما من الحرية

أسامة عجاج
أسامة عجاج

استقلال بطعم الدم والدموع، تجاوز ثمنه مليون شهيد أو أكثر من الجزائريين، مر عليه ستون عاما، سيتم بالاحتفال به فى الخامس من الشهر القادم، نتوقف خلالها على أهم محطاتها.


إنها الجزائر، هذا البلد العظيم بتاريخه وقدراته، بصموده ومقاومته للاحتلال الفرنسي، الجزائر التى عانت من استعمار، أعتبرها كما لو كانت امتدادا جغرافيا له، وهو الأخطر، بين تجارب الاحتلال التى عانت منها العديد من دول العالم، حيث سعى إلى تغيير الهوية واللغة والثقافة والانتماء، وهو الأطول من حيث المدة، فقد استمر ١٣٢ عاما، وقد كان من حظى أثناء مسيرتى الصحفية زيارتها مرات عديدة، والتعرف على تجربتها خلال عقود ومتابعتها عن بعد بحكم التخصص، وهذه قراءة سريعة فى محطات مفصلية فى تاريخ الجرائر الحرة. 

مد وجزر 

المحطة الأولي، لعل من الغرائب فى هذه المناسبة، أنه على الرغم من مرور ست حقب زمنية، فإن العلاقات الثنائية بين فرنسا دولة الاحتلال والجزائر، مازالت ملتبسة فى ظل وجود (جراح عميقة غير ملتئمة، وأخرى لاتزال تنزف)، ولهذا فهى تمر بحالة مد وجزر، تشهد هدوءا نسبيا، وأزمات فى أغلب الأحيان، فقط لرفض باريس (الاعتذار) عن سنوات الاحتلال رغم (اعترافها بالمسئولية) عنه، وارتكبها أحد الجرائم ضد الإنسانية، حيث نفذت حكم الإعدام فى عشرات الآلاف من الجزائريين عام ١٩٥٤، وقد اكتفى الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا هولاند، أمام البرلمان بالاعتراف (بالمعاناة) التى عاشها الشعب الجزائري، وآخر ما تم فى ذلك المجال هو إعلان الرئاسة الفرنسية فى يناير من العام الماضي، اعتزامها بالقيام بخطوات رمزية لمعالجة ملف احتلال الجزائر، دون تقديم اعتذارات، على خلفية التقرير الذى أعده المؤرخ بنجامين ستورا المكلف من الرئاسة الفرنسية، حيث قامت ببعض الخطوات الرمزية لهؤلاء الضحايا ونقل رفات بعضهم الى الجزائر.

وكانت آخر جولات ذلك الخلاف فى فبراير الماضي، بمناسبة الاحتفال بالعيد الستين لتوقيع اتفاقية إيفيان، التى مهدت لإعلان الاستقلال، عندما أكد الرئيس عبدالمجيد تبون بأن جرائم الاستعمار الفرنسى لا تسقط بالتقادم، وحدد مطالب الجزائر بالمعالجة المنصفة والنزيهة لملف الذاكرة الوطنية والتاريخ، فى أجواء من المصارحة والثقة، والقائم على اعتراف فرنسا النهائى والشامل بجرائمها، وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة، مع استرجاع الأرشيف كاملا، واستجلاء مصير المفقودين من الجزائريين، وتعويض ضحايا التجارب النووية التى أجرتها فرنسا فى صحراء الجزائر، والغريب فى الأمر أن المحتل الفرنسي، ظل فترات طويلة يتعامل مع الجزائريين كما لو كانوا جنسا مختلفا، أو بشرا درجة ثانية، لا حقوق لهم، ووصل الاستفزاز الفرنسى المستمر حتى الآن إلى قيام الرئيس ماكرون فى فبراير الماضي، بتكريم عدد من الأفراد الذين يطلق عليهم (حركيين)، وهم مجموعة الجزائريين الذين تعاملوا مع الاحتلال الفرنسي، وغادروها بعد الاستقلال، للعيش فى فرنسا، وأعلن صدور قانون للاعتراف بدورهم وتقديم التعويضات، بينما هم فى العرف الجزائرى هم مجموعة من (الخونة)، يضاف الى ذلك التصريحات المستفزة للرئيس الفرنسى فى أكتوبر الماضي، عندما اتهم الحكومة الجزائرية بالاستثمار فى قضية الذاكرة وتنمية الكراهية لفرنسا، مما استلزم موقفا حاسما من الرئيس تبون، والذى اعتبرها شتائم غير مقبولة وخطيرة، ورفض الرد على اتصال ماكرون لدعوته إلى مؤتمر استضافته باريس، للبحث فى الأزمة الليبية، ورفضت الجزائر بيان الإليزيه للاعتذار عن التصريحات، وقام بسحب السفير الجزائرى من باريس، وحظر تحليق الطيران العسكرى الفرنسي، ولم يعد السفير لممارسة عمله سوى فى مطلع هذا العام ،وبعد زيارة قام بها وزير الخارجية الى الجزائر، فى اطار خطوات فرنسية للسعى الى تهدئة الأزمة، وكانت أحد أبرز مظاهر تلك التهدئة، فى الاتصال الأخير بين الرئيسين تبون وماكرون، للتهنئة بإعادة انتخابه لرئاسة فرنسا، ومع ذلك فإن العلاقات بين البلدين ستظل محكومة بالملفات التى سبق أن تحدثنا عنها.  

 
العشرية السوداء 

المحطة الثانية، وبدأت فى تسعينات القرن الماضي، حيث عاشت الجزائر أزمة هى الأخطر فى تاريخه، وعنوانها (العشرية السوداء) حيث شهدت الجزائر احتجاجات غير مسبوقة فى أكتوبر ١٩٨٨ فى عهد الرئيس الشاذلى بن جديد، وبدأت لأسباب اقتصادية بحتة، نتيجة تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على انخفاض أسعار النفط، وفى مواجهة تلك الاحتجاجات كان على السلطة والرئيس بن جديد، تقديم برنامج للإصلاح، عبرإجراءات، منها فتح المجال أمام العمل العام، والعمل بالتعددية الحزبية، وتوسيع هامش حرية الرأى والتعبير، وحرية الصحافة، ووصل عدد الأحزاب إلى ٦٠، وفى أول انتخابات محلية تعددية فى يونيو ١٩٩٠، كانت المفاجأة فى تصدر الإنقاذ وبعدها القوى الاشتراكية، ليحل بعدها جبهة التحرير، وهو ما تكرر فى الانتخابات البرلمانية، فى يناير ١٩٩١، وفى ظل هذه الأجواء ألغى الجيش الجزائرى الانتخابات، بعد استقالة الرئيس الشاذلى بن جديد، وتولى الحكم مجلس أعلى للدولة، حيث أعلن حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ وسجن قادتها، وفرض حالة الطوارئ لتدخل البلاد فى أتون مواجهات مسلحة، ومذابح على مدى عشر سنوات كاملة،  وتسببت الأزمة فى مقتل أكثر من ٢٥٠ ألف جزائري، وخسائر اقتصادية قدرت بـ ٤٠ مليار دولار، وكانت بداية الانفراجة، مع وصول الرئيس عبدالعزيز بو تفليقة إلى الحكم عام ١٩٩٩، بعد أن حصل على ٧٤ بالمائة من أصوات الناخبين، وأتذكر أننى زرت الجزائر خلال الفترة، التى عمل فيها الدكتور مصطفى شريف سفيرا لبلده فى القاهرة ما بين ١٩٩٤ حتى عام ٢٠٠١، لتغطيات مختلفة ومنها انتخابات برلمانية، والوضع فى الجزائر أثناء العشرية السوداء، وأتذكر هنا تحقيقات عديدة تم نشرها فى صادرات أخبار اليوم سواء آخر ساعة أو أخبار الحوادث، وفى أخبار اليوم حيث احتفى الكاتب الصحفى الراحل إبراهيم سعده فى أخبار اليوم بتقرير كتبته عن زيارتى لفندق خصص لإقامة وحماية الصحفيين المستهدفين من الجماعات الإرهابية، داخل غابة الصنوبر الشهيرة، كما كان مجرد تحركى كصحفى فى أى شارع بالعاصمة، يحتاج إلى مرافقة من عدد من رجال الأمن.

حراك جديد

المحطة الثالثة، فى عام ٢٠١١، حيث لم تكن الجزائر استثناء من رياح الربيع العربي، التى اجتاحت دول عربية عديدة، وشهدت نفس الأحداث والمظاهرات، وأطلق عليها احتجاجات السكر والزيت، مع مطالبات بإصلاح اقتصادى وسياسي، ولكن هذا لا يمنع من اندلاع احتجاجات بشكل أكبر وأوسع، بعد ذلك بتسع سنوات، وتحديدا فى أكتوبر ٢٠١٩ بعد إعلان الرئيس عبدالعزيز بو تفليقة البالغ من العمر ٨٢ عاما، ترشحه لولاية خامسة، فخرجت المظاهرات فى فبراير عام ٢٠١٩ بمئات الآلاف وكانت الأضخم فى تاريخ البلد، رفضا للفكرة، صحيح أن الجزائر شهدت فى سنواتها العشرين، استقرارا وتوسعا فى المشاريع، وإنجازات على المستوى الاقتصادى وغيرها، ولكن فكرة (العهده الخامسة) كما يطلق عليها الجزائريون، لم تكن مقبولة، خاصة وأنه مارس عمله فى السنوات الأخيرة، على كرسى متحرك، وترك إدارة أمور البلاد للحلقة الضيقة التى تحيطه مستخدمة اسمه، مع زيادة معدلات الفساد، وتضييق المجال العام، ولم يكن وراء الحراك الجزائرى أى انتماءات سياسية، مما دفع الرئيس الراحل الى الخروج إلى الشعب، معلنا عددا من الخطوات، منها سحب ترشحه، وإجراء تغيير وزاري، وبدء حوار وطنى لإعداد دستور للبلاد، وعرضه على الاستفتاء الشعبي، مع تحديد اللجنة المكلفة بإدارة الحوار، لموعد إجراء الانتخابات الرئاسية، بإشراف لجنة مستقلة للانتخابات، والتزمت السلطة بإشراف الجيش الجزائرى بكل تلك الخطوات، حتى إجراء الانتخابات، التى فاز بها الرئيس عبدالمجيد تبون، وهو ليس غريبا عن المشهد السياسي، حيث تبوأ العديد من المناصب، ومنها رئاسة الوزراء فى مدة بسيطة أقل من شهرين عام ٢٠١٧، وتم إقالته سريعا لأنه كان جادا فى مقاومة الفساد الذى استشرى فى الدائرة المحيطة بالرئيس السابق، فلم تحتمل وجوده طويلا، ورغم أنه من قيادات حزب جبهة التحرير، إلا أنه فضل الترشح مستقلا فى الانتخابات، التى جرت فى ديسمبر من عام ٢٠١٩، تحت شعار (بالتغيير ملتزمون وعليه قادرون)، حيث فاز بـ ٥٨ بالمائة من أصوات الناخبين. 

جزائر تبون مختلفة

وقام الرئيس الجديد تبون بتنفيذ كل تعهداته، واختلفت الجزائر خلال العام ونصف تحت ولايته، حيث استكملت البلاد، كافة الاستحقاقات الدستورية، تشريعية ومحلية، وتحولت الجزائر إلى دولة مؤسسات، وواجه الفساد الممنهج، مع تشجيع واسع للاستثمار، وإنهاء الإجراءات البيروقراطية، وإتاحة الفرصة واسعة لمشاركة جدية من القطاع الخاص والأجنبي، وزيادة معدلات التصدير بـ٨ مليارات دولار، بعيدا عن المحروقات، والتى كانت المصدر الوحيد للتصدير، وأعاد الاعتبار لقيمة الجزائر عربيا وإقليميا ودوليا، من خلال سياسة خارجية نشطة، وزيارات قام بها الرئيس تبون لدول خارجية محورية ومهمة، ومنها مصر، وخلال الأسابيع الماضية، طرح الرئيس عبدالمجيد تبون مبادرة جديدة تحت عنوان (لم الشمل)، تتعلق بالمتهمين بنهب المال العام، والمعارضة فى الخارج، بعد إجراء مشاورات موسعة مع كل الأحزاب السياسية، استعدادا لعقد حوار عام يضم الجميع.

الجزائر بلد كبير، قد يتعثر، وقد يتأخر ولكنه أبدا لا يفقد قيمته الاستراتيجية وقدراته على النهوض والانطلاق.