كنوز | من أجل نصف قدم

د. يوسف إدريس
د. يوسف إدريس

بقلم: د. يوسف إدريس

تسمَّرت فى مكانى أتأمل الرجل وهو يجرى

عينى على محطة أوتوبيس فى شارع الجلاء يقف عليها مئات الرجال والنساء والأطفال.


صفُّ أوتوبيسات يقف الواحد وراء الآخر، الأوتوبيس الأخير الذى وصل وقف بعيدًا عن المحطة.. اندفعتْ للركوب فيه مجموعة كبيرة من الناس، من بينها ذلك الرجل.


أفندى عجوز فى الخامسة والستين، تقريبًا نفس السن التى مات فيها أبى، وله تقريبًا نفس الملامح.


فى الخامسة والستين يصبح للرجل بطءُ سَيْر الأطفال، ليس عن قصر فى الأرجل، وإنما عن قصر فى الطاقة والمجهود.


وكان أبى وهو يسير بجوارى فى سنواته الأخيرة، أحسُّ بكثير من الحرج وأنا أضطر للتمهل حتى يستطيع ملاحقتى والسير بجوارى.


هذا الرجل حين انطلق مع الآخرين تجاه الأتوبيس، كان يجرى، ليس مثل جريى أو جريك، ولكنه جرى إنسان يريد أن يلحق بقارب النجاة فى خضم محيط!
الجو حارٌّ قاتل.


ومحطة الأوتوبيس كأنها مجمَّع لجهنم موقدة من الشمس، إلى جانب الذباب والعرق ورائحة الصيف البَشِعة فى شارع الجلاء.


يجرى الرجل بكل ما بقى فيه من طاقة وحياة، يجرى، يلهث، يموت، بصعوبة يستنشق الهواء، ولكنه يجرى ويجرى، وأنا مُسمَّر مكانى أتصوَّر أبى وقد اضطر إلى جرى كهذا، جري إفلاتٍ من الموت أو لحاقٍ بالحياة، بحر العرق كساه، وجهه أحمرَّ حتى يكاد الدم ينفجر من عينيه، شعر صدره الأبيض ناخر عرقان من قميصه.


لم تكن المسافة طويلة، وأيضًا لم تكن بالقصيرة.


دقائق قليلة من الجرى، ولكن المهم ليس الجرى، المهم نوعه، جرى الشيخ الذى من الممكن أن يقتله جرى كهذا.


وقفت أتأمل الرجل، وفجأة وجدت نفسى تحتقن عيناى بالدموع وأكاد لولا الحياء أبكى! أحسستُ أنى أريد أن أندفع كالصاروخ أحمل الرجل فوق أكتافى، أجفِّف عرقه، أقبِّل يده وجبينه وقدميه وأعتذر له، أعتذر له أننا مصر!


وأننا بعدُ فى سِنه نضطره أن يقتل نفسه جريًا ليركب، مجرد يركب!


لا، بل حتى لم يركب !


حين وصل الأوتوبيس كان الأقوياء قد سبقوه وملأوه، حتى بابه ملأوه !


فتشبَّث بيد واحدة وبنصف قدم وبجسد بارز تمامًا معرَّض أن تصدمه وتبقره أية عربة مارَّة أو أى عمود.


أُقبِّل قدميه ويديه ووجنتيه وأبكى وأعتذر!


يا آباءنا الذين لايزالون يحيون هذه الحياة، ويجرون هذا الجرى، فقط من أجل قبضة يد ونصف قدم.


ماذا يا إلهى نصنع من أجلهم ومن أجل غيرهم؟


يا إلهى، ماذا بحقك نصنع؟!


من كتاب «أهمية أن نتثقف»