مجتمعات تحكمها المرأة؟

مجتمعات تحكمها المرأة؟
مجتمعات تحكمها المرأة؟

ج.ر. ماكاليستر ت: مجدى عبد المجيد خاطر

نُنصح نحنُ الكُتّاب بتأزيم الصراع والضغط ورفع حِدّة المخاطر قدر الإمكان؛ فبطلة مثل بطلة رواية نامينا فورنا «المكسوات بالذهب» أو بطلة رواية زيران جاى تشاو «أرملة حديديّة»، لا تُقاتل من أجل حقوقها فحسب، بل دفاعًا عن حياتها ودفاعًا عن مُجتمع كامل- غاصب وقاسى وأبوي- تأسس لاحتوائها وإنكار وجودها. وكلّما زادت العقبات أمامها أصبح انتصارها النهائى أشدّ روعة. وفى هذه الحالة تُسفر مُقاومة شكل متطرف من المجتمعات الأبويّة عن رواية أمتع وأشدّ تشويقًا
 

الأدب القصصى وليد الخيال دائمًا، أمّا الرواية التأمّليّة؛ مثل الفانتازيا والخيال العلمى، فهى النوع الّذى نستطيع فيه بحقّ أن نُطلق العنان لمُخيلاتنا. تنانين تنفث نيرانًا وكنوز مخبوءة وسفوح تلال تنيرها المشاعل وفوضى تامّة؟ ما المانع! جنود آليون عمالقة يقودها مُراهقون؟ بالتأكيد. مُجتمعات ما بعد نهاية العالم تُشيّد وجودًا جديدًا عقب كارثة عالميّة؟ الأمثلة تفوق الحصر.  


لِذا لِم لا نرى مزيدًا من روايات الخيال العلمى والفانتازيا التى تدور فى عوالم تُديرها نساء؟
من الواضح أنّ هذا القصور غير ناجم عن عجز يشوب المُخيّلة؛ ففى خلال السنوات القليلة الماضية وحدها أدمجت روايات فانتازيّة ملحميّة مثل روايتى سامانثا شانون «دير شجرة البرتقال»، ورواية ريبيكا روانهورس «شمس سوداء»، العوالم الأموميّة مع بنية عوالمها الشاسعة، ووضعت رواية ناعومى ألدرمان الصّادرة فى العام 2016: «القُدرة»، تصميمًا مُتخيّلًا للكيفيّة التى قد يولد بها مُجتمع أمومى. 


وإذا تبعنا هذا الخيط الأمومى سنكتشف أنّه يعود إلى أسلاف أقدم بكثير، عبر أولى روايات الخيال العلمى لنيكولا جريفيث «أمونيت» (2002) إلى رواية شيرى تيبر عمّا بعد نهاية العالم «بوابة بلاد النساء»(1988)، وصولًا إلى رواية «ورق حائط أصفر» التى أصدرتها شارلوت بيركنز جيلمان مؤلِّفة رواية اليوتوبيا «هيرلاند» فى العام 1915. وليس من الصّعب حصر عشرات الروايات التى تدور أحداثها فى عوالم أو مُجتمعات تحكمها المرأة،  حتّى إذا استبعدنا الأعمال الصادرة من دون دور نشر؛ وهى كثيرة وخصبة الخيال.  

لكن يظلّ عدد هذه الروايات لا يتجاوز العشرات مُقارنة بآلاف أو مئات الآلاف من روايات الفانتازيا والخيال والعلمى، رغم قدرتنا الواضحة على تخيّل عوالم تحكمها المرأة أو الكتابة عنها، لذلك تُرى ما سبب ضآلة عدد هذه الكُتب؟  
السبب- أو العُذر؛ بحسب منظورك للمسألة- الأسهل هو احتفاظ الرّجال بالسلطة فى كل حقب التاريخ المدوّن تقريبًا؛ إذْ يحكم «الملوك/ Kings» الممالك التى لا تزال توصف بأنّها «ممالك/ Kingdoms» حتّى إن حكمتها «ملكات/ Queens». ومن ثمّ فإنّ أى مؤلِّف يؤسس عالمه الفانتازى على عالم حقيقى موثّق جيدًا؛ من أوروبا القروسطيّة إلى الهند المغوليّة، ينطلق من هذه النقطة. 


لكن لنتأمّل ذلك الجانب المُزعزع، وهو أنّ التاريخ المدوّن ليس هو التاريخ الحقيقي. فهل كانت الحضارة المينويّة [ إحدى أقدم حضارات اليونان وأوروبا التى ازدهرت فى جزيرة كريت بين العامين 3000 و1100 ق.م.] تحكمها المرأة؟ وهل كانت مجتمعات الصيد الباليوثيّة [العصر الحجرى القديم] مساواتيّة؟ ما من أدلّة وافية تُثبت أى من الأمرين؛ ذلك أنّ الآثار التى تركتها المجتمعات القديمة عثر عليها فى الغالب أركيولوجيون ذكور، وفسرها مؤرخون ذكور. ولذلك عليك الحذر والانتباه لهويّة من دَوَّن التاريخ إذا كنت تميل لتصديق التاريخ المدوّن. وعلى أى حال فالتاريخ نقطة تنطلق منها الفانتازيا؛ وليس سورًا، إلا إذا كانت رؤيتك للتاريخ المدوّن تشمل تنانين وعفاريت وأشباحًا.  


تظل هذه خيارات يتمتّع المؤلفون بحريّة الاختيار بينها، لكن سُلطة النشر ليست قطعًا فى أيدى المؤلفين، ما يؤدّى إلى نظرية ثانية تفسِّر نقص العوالم الأموميّة فى الرواية. ربّما تُكتب هذه الروايات ولا تُنشر. فرغم أنّ أغلب الكُتب عمومًا تشتريها نساء وتقرأها نساء، إلا أنّ الأرقام تختلف حسب النوع الأدبى، ويحظى الأدب القصصى التأمّلى بسمعة مفادها اتّساع جمهور قراءه بين الذكور مُقارنة بأى أنواع أدبيّة أخرى. ومن ثمّ يُمكن استنتاج أنّ المُحررين يختارون الكُتب وفق جاذبيتها المُنتظرة بالنسبة للقراء الذكور، وما دام أولئك الرجال يرغبون القراءة عن عوالم يحكمها رجال؛ إذًا فليكن الأمر.  

لكن من الصّعب الحصول على أرقام تدعم هذا التقسيم المُفترض بين القرّاء إلى ذكور وإناث؛ وحتّى لو كانت هذه القِسمة حقيقيّة بالنسبة لفانتازيا الرّاشدين، فماذا عن فانتازيا الشباب البالغين؟وهذه فئة تُهيمن عليها الكاتبات بصورة واضحة وتستهلكها أيضًا القارئات، بل تتصدرها البنات باعتبارهنّ شخصيات رئيسة فى أغلب الأحيان. وكل مؤلِّف/مؤلِّفة يؤسس روايته من هذا النوع فى عالم أبوى/ بطريركى وفق اختياره الخاص، وهو اختيار ليس ردئيًا بالضرورة! 


نُنصح نحنُ الكُتّاب بتأزيم الصراع والضغط ورفع حِدّة المخاطر قدر الإمكان؛ فبطلة مثل بطلة رواية نامينا فورنا «المكسوات بالذهب» أو بطلة رواية زيران جاى تشاو «أرملة حديديّة»، لا تُقاتل من أجل حقوقها فحسب، بل دفاعًا عن حياتها ودفاعًا عن مُجتمع كامل- غاصب وقاسى وأبوي- تأسس لاحتوائها وإنكار وجودها. وكلّما زادت العقبات أمامها أصبح انتصارها النهائى أشدّ روعة. وفى هذه الحالة تُسفر مُقاومة شكل متطرف من المجتمعات الأبويّة عن رواية أمتع وأشدّ تشويقًا. 


ويُفسِّر ذلك أيضًا ميل المؤلفين عندما تنطوى رواياتهم على مجتمعات أموميّة إلى التفسيرات الجامحة؛ إذْ يرغب المؤلفون فى جذب أقصى اهتمام. ذلك أنّ المجتمعات التى تحكمها المرأة حين تكون يوطوبيا: «تولّى النساء زمام الأمور جعل كل شيء على ما يُرام!»، أو ديستوبيا: «النساء تتولى المسؤولية وساءت الأمور عن ذى قبل!» تُصبح بيانًا أقوى وأجرأ. فما أندر أن يظلّ مُجتمع تديره النساء مُجرّد خلفية عاديّة للأحداث. 


تدور رواية لورين بيوكيس «أفترلاند» التى صدرت فى العام 2020(وصدرت فى بعض الأسواق تحت اسم «ماذرلاند») فى المستقبل القريب حيثُ أجهز وباء على تسعة وتسعين بالمائة من الرجال، من دون أن تُفرد صفحة واحدة تتعرض بها لبنية السلطة فى العالم الجديد، بل هى لُعبة «استغمّاية» بين أمّ وابنها الطريد، حتّى وإن تنكّر ذلك الابن فى هيئة فتاة كى يُخفى هويته. 


ولكم يسترعى الانتباه؛ بالنظر إلى مدى ندرة ظهور العوالم التى تُديرها المرأة فى الرواية، أنّ أغلب تلك العوالم أبادت أو قضت على السكان الذكور من خلال كارثة اجتاحت الكوكب بالكامل. إذْ يتبدّى أنّ تلك الكُتب تفترض ضمنيًّا أنّ المرأة لا يُمكن أن تحكم إلا إذا خرج الرجل من المُعادلة. وقد شهدت السنوات الثلاث الفائتة حوالى ستة سيناريوهات مماثلة فى الرواية، إضافة إلى رواية بيوكيس والمُعالجة التلفزيونيّة المُنتظرة «واي: الرجل الأخير».  


حيثُ شهد العام الماضى بمفرده صدور رواية سيمون ديمونوز «إنفلونزا الرجال»، ورواية كريستينا سوينى بيرد «نهاية الرجال»، إلى جانب رواية كرستين هول «آكلة النجوم» التى تُضفى أجواء الخيال العلمى على سيناريو تحكم به راهبات يأكلن لحوم البشر أحد الكواكب. ورواية الرعب الصادرة مؤخّرًا لجريتشن فيلكر مارتن «اصطياد الرجال» التى تغيّر الفرضيّة على نحو درامى، من خلال التركيز على شخصيات متحوّلة جنسيًّا فى أعقاب ظهور فيروس يستهدف هرمون الذكورة؛ التستوستيرون. ورواية ساندرا نيومان الوشيكة «الرجال» التى يختفى بها كل من يحمل الصبغى المسؤول عن جعل الجنين ذكرًا، وهى بذلك تمزج بين الفكرة المألوفة الآن عن طاعون يستهدف نوعًا بعينه وبين ظلال رواية توم بيروتا «الباقون».  

 تُرى ما السبب؟ ولِم يتبدّى أنّ هذا الشطر من ذلك النوع الفنّى فى سبيله للهيمنة؟ لديّ نظرية، وهى تنسجم مع ندرة المجتمعات الأموميّة فى النوع الأدبى ككل، مفادها أنّ المجتمعات الأبويّة- أو المساواتيّة من باب الفضل- لا تستوجب التبرير فى الرواية لأسباب أجملتها فى السابق(مثل التاريخ المدوّن)، وسيتبدّى أى عالم فانتازى قائم على السلطة الذكوريّة مقبولًا ووجيهًا لأنّه على شاكلة العالم الذى نحيا فيه الآن. عالم مألوف. أمّا لو اختار مؤلِّف ما بناء عالم أمومى فسيخضع لا ريب للاستجواب ويُطلب منه مُبرر ومسوغ اختياره.  


بكلمات أخرى، العالم الأمومى خيار، أمّا العالم الأبوى ففرض. على أنّ مُساءلة المفروض هو بالضبط ما يُضفى قوة وبأس على الأدب التأمّلي. وثمّة متّسع هائل فى هذا النوع الأدبى للمقاربات المُختلفة للعوالم الأموميّة، حتّى التى لا يقتضى بعضها استئصال المنافسة.  


بعضُ أسباب تجنّب بناء عوالم تحكمها المرأة حصيفة ومتينة، وبعضها الآخر سطحى وهزيل. لكن هاكم ما أرجوه: ليت كل الكتّاب لا يُعرضون عن سنّ نظرياتهم داخل مجتمعات تحكمها المرأة بسبب اعتقاد مفاده أنّ تلك النظرية أو هذه قد سبق التعرّض لها. فحتّى فى حفنة الروايات المذكورة سالفًا ما من عالمين أموميين متشابهين؛ إذْ تراوح العوالم الأموميّة التى تصفها تلك الكُتب بين الوحشيّة التامّة والشّاعريّة الرعويّة اللافتة، كما تتصدّى الشخصيات فى تلك القصص لكثير من العقبات التى تحول بينها وبين سعادتها كحال الشخصيات فى أى كتاب آخر. فهَهى روايتى «سكوربيكا» تدور فى عالم يتألف من خمس ممالك تحكمها وتقطنها نساء، منهن البطلات والمداويات، الضحايا والأوغاد، السياسيات والمُحاربات، الراعيات والكاهنات. فهل حيواتهن أفضل لأنّ من يحكمهن نساء؟ كلا، وما كان السؤال ليطرأ ببال أغلبهن.  


لشدّ ما كان أمرًا مسلّمًا به عندما كنت أقرأ الروايات الفانتازيّة فى طفولتى، والتى كنت أنتقيها من بين الخيارات المُتاحة فى مكتبة بلدتى الصغيرة، أنّ الرجال سيلعبون كافّة الأدوار فى أحداث تلك الكُتب. أمّا الآن فثمّة مزيد من الخيارات المتاحة أمام قُرّاء اليوم سواء كانوا شبابًا أو غير ذلك. لكن تُرى هل يُمكن أن تتسع تلك الخيارات لتشمل نماذج مُختلفة من المجتمعات الأموميّة تعرض أطيافًا من طرائق ممارسة النساء للسلطة؟ ومن دون حاجة لمبرر. 


رغم اشتهار النشر بأسلوب التفكير الذى يزعم: «لدينا كتاب يحمل نفس الفكرة من قبل»، تمكّن قرّاء اليوم من الدّفع بروايتين اثنتين حول اختفاء أجاثا كريستى فى العام 1926 إلى قائمة النيويورك تايمز للكتب الأعلى مبيعًا فى عامين متتاليين، ومن ثمّ يُمكنهم قطعًا قراءة أكثر من كتاب واحد عن المجتمعات الأموميّة خلال سنوات أعمارهم.  

*عن ليترارى هب

اقرأ ايضا

عيد القراءة والقراء