يوميات الأخبار

الشرق الأوسط الجديد.. فك وتركيب

أسامة عجاج
أسامة عجاج

مشروع السلام الإبراهيمى والشرق الأوسط الجديد، وجهان لعملة واحدة، وهذه محاولة للبحث فى البدايات، ومراحل الوصول إلى هذا المشهد الجديد للمنطقة.
 

اهتمامى الشخصى بصورة المنطقة العربية، وعلاقاتها مع دول الجوار، ليس  وليد اليوم، ولكنه بدأ مبكرا منذ منتصف التسعينات القرن الماضي، أثناء دراستى للحصول على زمالة كلية الدفاع الوطني، أكاديمية ناصر العسكرية الدورة ٢٤ فى يونيه ١٩٩٥، حيث اخترت قضية المفاوضات المتعددة الأطراف، التى مثلت أحد مراحل إرساء القواعد لشرق أوسط جديد، على أنقاض المشروع العربي، موضوعا لبحث التخرج، وكان مادة كتابى الذى خرج إلى النور بعد عام فى أغسطس ١٩٩٦، بعنوان (الوجه الآخر للسلام … المفاوضات متعددة الأطراف)، حيث كشفت فيه الدور المتوقع لإسرائيل المحورى فى المستقبل.     
البداية 


أحد دروس التاريخ بأن خرائط العالم ومشروعاتها الكبري، يتم التفكير لها فى أضابير مراكز الدراسات والبحوث والأجهزة العديدة المعنية، أما التنفيذ فيعتمد على الظروف، وفى نفس الإطار يأتى مفهوم الشرق الأوسط الجديد والسلام الإبراهيمي، الذى ظهر فى نفس التوقيت، مع إقامة المشروع الصهيونى فى فلسطين، حيث تم التخطيط له كصيغة تعاون إقليمي، يهدف إلى طمس الهوية وتذويب العربية، عبر استيعاب العرب فى إطار إقليمي، يضم قوميات أخري، لتثبيت إسرائيل وتطبيع وجودها، وإفساح المجال لتفردها بالدور الريادي، وهناك دراسة أعدتها وكالة التنمية الدولية الأمريكية تحت عنوان (التعاون الإقليمى فى الشرق الأوسط)، تم تقديمها إلى الكونجرس  بمشاركة ثمانى وزارات وعشرة مراكز بحثية، وهناك رؤية قدمها وليام كوانت، والذى عمل عضوا فى مجلس الأمن القومى الأمريكى فى إدارتى نيكسون وكارتر، وشارك بنشاط فى مباحثات كامب ديفيد، ويعمل باحثا مهما فى قسم السياسة بجامعة فيرجينيا، تتضمن رغبة واشنطن فى تحقيق سلام بين العرب وإسرائيل، هدفه ليس فقط فى وقف الصراع، ولكن حدوث تغيير حقيقى فى بنية نظام الشرق الأوسط. 
وتبلورت الفكرة بشكل أكبر وأوضح، وتم التعبير عنها فى كتاب شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي، الذى حمل نفس الاسم (الشرق الأوسط الجديد). 


دور جيمى كارتر 


وقد احتاج خروج مشروعى الشرق الأوسط الجديد والسلام الإبراهيمية حقبا زمنية، وخطوات مدروسة، مرتبطة بأحداث محورية فى المنطقة بدأت خلال عدة مراحل، الأولى بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل بإشراف الرئيس الأمريكى جيمى كارتر فى مارس ١٩٧٩، والذى طرح رؤيته التى مثلت اللبنة الأولى لمشاريع المستقبل، حيث سعى إلى (تغيير طبيعة الصراع  العربى الإسرائيلي)، من صراع وجود، إلى صراع حدود، ومن مواجهة بين قوة احتلال ومقاومة، إلى (إضفاء صبغة دينية) عليه، باعتباره تصفية حسابات قديمة بين أبناء سيدنا إبراهيم، إسماعيل أبو العرب من جهة، وإسحاق وجاء من صلبه اليهود، وتولى الرئيس الأمريكى جيمى كارتر هذه المهمة، عبر كتابين، الأشهر (دم إبراهيم) والذى صدر فى عام ١٩٨٥، والآخر تحت (عنوان السلام .. لا الفصل العنصري)، وعزا كارتر الصراع فى الشرق الأوسط بين العرب واليهود الى ظلم سيدنا إبراهيم لابنه إسماعيل وأمه –وفق زعمه - وحرمانهما من الميراث، وهى رؤية مغلوطة ومتعسفة للتاريخ، الذى يكشف عن حقيقة العلاقة فاليهود تمتعوا بكافة حقوقهم فى عهد الدولة الإسلامية حتى العصر الحديث، وكانوا قبل قيام دولة إسرائيل جزءا من شعوب المنطقة، والمواجهة لم تكن أبدا بين المسلمين أو العرب واليهودية، كإحدى الديانات السماوية الثلاثة، ولكن مع المشروع الصهيونى الاستيطاني.     


إنهاء مقاطعة إسرائيل 


المرحلة الثانية والأهم جاءت فى أكتوبر ١٩٩١، مع بدء الجلسات الأولى لمؤتمر مدريد للسلام، والذى أعاد (هندسة عملية التفاوض العربى الإسرائيلي) والتى تمت بشكل مباشر بين وفود إسرائيلية وأخرى سورية ولبنانية وأردنية فلسطينية مشتركة، قبل الإقرار بفصل المسارين، وبرعاية أمريكية، لم تكتف واشنطن بذلك المسار، ولكنها أضافت إليه المباحثات متعددة الأطراف، وكانت أحد الحوافز الأمريكية لتل أبيب لخوض غمار المباحثات الثنائية، وتم تشكيل خمس لجان لبحث قضايا ضبط التسلح والأمن الإقليمي، والتعاون الاقتصادى واللاجئين والمياه والبيئة، وشاركت فيها حوالى ٤٠ دولة من بينهم معظم الدول العربية، وقد حظيت اللجنة الثانية باهتمام استثنائى من الوفد الإسرائيلي، والذى تقدم منذ الجلسات الاولى بقائمة مقترحات للتعاون، فى مجالات الزراعة وتكنولوجيا الغذاء والطاقة والربط الكهربائي، والطاقة الشمسية والسياحة والنقل، والتى تتوافق مع رؤية شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي، وهى لا تختلف عن المشاريع الجارى الإعداد لها فى تلك الأيام، بعد إقرار السلام الإبراهيمى والقبول بمشروع الشرق الأوسط الجديد، ومنها مشروع نقل نفط الخليج عبر ميناء حيفا الإسرائيلى على البحر المتوسط، وفى الاجتماعات طرح البنك الدولى ١٨ مشروعا، كلها تسعى لدمج إسرائيل فى المنطقة. 


فشل هنا وتقدم هناك 


وتوارى الاهتمام بالمفاوضات الثنائية، خاصة بعد التوصل إلى اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل فى سبتمبر ١٩٩٣، بحضور الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات وإسحاق رابين، وبرعاية بيل كلينتون، وقد فتح ذلك المشهد سرعة التوصل إلى ا اتفاق وادى عربة بين الأردن وإسرائيل، خوفا من استبعاده من اللعبة الكبرى وفقا لوصف إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت، بينما تعثر مسار التفاوض السورى واللبنانى مع إسرائيل.

يضاف إلى ذلك اكتشاف السلطة الفلسطينية الوليدة، أن كل حرف فى اتفاق أوسلو يحتاح إلى اتفاق آخر، ولكن ظهر أن قطار الشرق الأوسط الجديد قد يتعطل أو يتوقف، ولكنه مستمر، بدأت المنطقة عقد مؤتمرات اقتصادية لمناقشة تفصيلية لمشروعات التعاون الاقتصادي، وهو ما شاهدته الدار البيضاء والعاصمة الأردنية عمان فى أكتوبر ١٩٩٥، وقد -قمت بتغطيته صحفيا.


وتجمدت الأمور  الخاصة بالتعاون الإقليمي، مع مارثون جولات التفاوض الفلسطينى الإسرائيلي، لإزالة العقبات أمام مسار السلام بينهما، دون تحقيق أى نتائج رغم جهود كلينتون وبوش الابن وحتى أوباما فى إحراز أى تقدم. 


وجاءت الحقبة الأولى من القرن الحالى لتشهد المنطقة عواصف الربيع العربي، والتى اجتاحت العديد من العواصم، مع تصاعد الشعور بالخطر الإيرانى الذى اعترفت قياداته، بأنها تتحكم فى خمس عواصم عربية، وصلت إلى البحر المتوسط عبر وجودها فى لبنان وسوريا، ناهيك عن مسئوليته عن حالة عدم الاستقرار فى منطقة الخليج العربى ودوله. 


مرحلة الإحياء 


ويبدو أن اللحظة الحاسمة فى مشروع الشرق الأوسط الجديد والسلام الإبراهيمي، جاءت مع تولى ترامب الرئاسة فى أمريكا فى يناير ٢٠١٧، خاصة مع تعيين صهره جاريد كوشنر مستشارا له، وتوليه ملف عملية السلام فى المنطقة، وهو يهودى أرثوذكسي، وهما معا من أكبر المسئولين انحيازا لإسرائيل تاريخيا، حيث نجحا فى إقامة جسر من العلاقات الاقتصادية مع قادة المنطقة، والذى تجسد فى مؤتمر البحرين للسلام فى يونيو ٢٠١٩، تحت رعاية كوشنر، بهدف معلن تشجيع الاستثمار فى أراضى السلطة الفلسطينية، وحقيقته خطوة باتجاه التعاون الاقتصادى الإقليمي، والذى لم يلق اهتماما كبيرا، حيث رمى  ترامب بكل ثقله فى مؤتمر صحفي، عقده مع  رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو فى يناير ٢٠٢٠، للإعلان الرسمى عن (صفقة القرن)، والتى تشمل إنشاء صندوق استثمار عالمى لدعم اقتصاديات المنطقة والفلسطينيين، عبر مشروعات محورها وهدفها، تعزيز قيادة إسرائيل للمنطقة، ووصفها نتنياهو بأنها (فرصة القرن) بينما قال عنها الرئيس الفلسطينى محمود عباس (إنها فضيحة القرن)، وقرر ترامب تنحية الجانب الفلسطينى جانبا، وبدا تنشيط التعاون مع جهات عربية أخري، كانت اللحظة الفارقة فى سبتمبر ٢٠٢٠، حيث تم التوقيع على وثيقة (اتفاقيات إبرهيم) بمشاركة وزراء خارجية إسرائيل والإمارات والبحرين بحضور ترامب، لترسيخ التعاون الاقتصادى الإقليمي، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل إلى اتفاق على تطبيع العلاقات بين تل أبيب والسودان، ووصولها إلى مستوى غير مسبوق مع المغرب.

 
الأمل فى مصر 


وهنا أقر وأعترف ، بأن مصر قد تكون هى العقبة الأبرز فى تمرير المشروع، صحيح أنها صاحبة أول اتفاق سلام مع إسرائيل، ولكنها من خلال وعى بالأوضاع بالمنطقة، وطبيعة الخلافات فيها، كانت (رمانة الميزان) (وضابطة الإيقاع) تجاه الهرولة باتجاه التطبيع، أو أى مشروعات تستهدف النيل مع النظام العربي، لحساب آخر شرق أوسطي، وظهر هذا من مواقفها فى المفاوضات المتعددة الأطراف، أو فى المؤتمرات الاقتصادية، والتحفظ الذى تعاملت به فى مؤتمر المنامة، وإفشال مشروع الناتو العربي، وهو أحد أفكار إدارة ترامب، بمشاركة دول الخليج ومصر والأردن مع إسرائيل، بهدف مواجهة إيران، وهو نفس ما حدث خلال الأسابيع الماضية من اجتماعات النقب، حيث تحفظت على المشاريع  التى طرحت للتنسيق الأمنى والعسكري، أو الدخول فى حلف عسكرى عربى إسرائيلى ضد إيران، صحيح أن القاهرة ضد سياسات طهران فى المنطقة، ولكن لها رؤيتها الخاصة فى التعامل مع ذلك.


وبعد، هذه المشاريع ليست قدرا مكتوبا، ورفضها ومقاومتها وإفشالها وارد، وببساطة، إذا توافرت الإرادة السياسية فى إعلاء مصالح المنطقة العربية وفى القلب منها إقرار سلام عادل وشامل، يضمن حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة الموحدة.