مذكّرة إلى كوفى أنان

للفنان: نبيل العنانى
للفنان: نبيل العنانى

بقلم: محمود شقير

عبد الغفّار، صاحب أعلى بناية فى الحى، البناية التى ثَمّرها من عرق جبينه كما يدّعى باستمرار، يتمشى فوق سطح البناية وهو يفكر مهموماً بأمر الكلاب الضالّة التى تقضّ مضاجع الحى بنباحها، الذى لا ينقطع طوال الليل، وهى تزعج بنباحها عبد الغفار أكثر من سواه، لأنه يسكن فى أعلى موقع فى الحى، ما يضطره إلى سماع نباح الكلاب من كل الجهات ولا ينام. عبد الغفار مشغول البال: قلت لأهل الحى تعالوا نشكّل لجنة للنظر فى أمر هذه الكلاب، إنّها ثلاثمائة كلب! لو تعلّق الأمر بكلب واحد أو كلبين، لقلنا الأمر هيّن، لكنها كلاب كثيرة، هربت من الأحياء التى يقوم جيش الاحتلال بإطلاق القذائف على بيوتها دون انقطاع، وجاءت إلى حيّنا الهادئ لتقيم فيه! (هادئ بفعل الصدفة أو لسبب آخر لا يعرفه عبد الغفّار) تشاورتُ فى الأمر مع ابن عمّتى عبد الستّار، قلت له يا ابن الحلال ومالها اللجنة، إذا كان بولمرت (المقصود إيهود أولمرت رئيس بلدية القدس) يريدنا أن نشكّل لجنة لحيّنا، تمهيداً للنظر فى أمر الكلاب، فلماذا لا نشكل اللجنة ونريح رؤوسنا؟ لماذا يا عبد الستّار؟. 


العبيط الجاهل يسألنى لماذا؟ أهذا سؤال يُسأل يا عبد الغفّار؟ ألم أحذّرك منذ أن صادر الإسرائيليون أرضنا وبنوا عليها مستوطنة لليهود القادمين من بلاد الروس؛ ألم أقل لك من يومها: لا تفكّر يا عبد الغفّار بتشكيل لجنة بناء على طلبهم الذى لا يخلو من أغراض خبيثة؟ ألم أقل لك ذلك يا عبد الغفّار؟ 


كم هو متشدّد ابن عمتى عبد الستّار، يتباهى علينا لأنه يفهم فى السياسة. الكلاب الضالة جعلت عيشنا مثل الهباب، وعبد الستّار يرفض تشكيل اللجنة. قال يا سيدى، هذا معناه الانصياع لرغبات المحتلّين، والظهور بمظهر المتعاون معهم، الراضى عن كل تصرّف من تصرفاتهم. ابن عمتى عبد الستّار متناقض فى سلوكه، يرفض التعامل مع البلدية بخصوص تشكيل اللجنة، ويتعامل مع وزارة الداخليّة بهذا الشكل أو ذاك. منذ سنوات وهو يجلس فوق كرسيّه وأمامه الآلة الكاتبة فوق الرصيف المقابل لوزارة الداخلية، يطبع الطلبات لمن يريدون أن يجدّدوا بطاقات الهويّة، أو يرغبون فى الحصول على تصاريح السفر، أو فى استخراج شهادات ميلاد لأطفالهم. أنا لدىّ تحصيل علمى أفضل من عبد الستّار، أنا حصلت على المترك وعملت مدرّساً طوال ثلاثين سنة، وعبد الستّار لم يدرس فى المدرسة أكثر من ستّ سنوات، يعنى تحصيله ابتدائى، ومع ذلك، فهو يتباهى بنفسه ويدّعى بأنه يعرف فى السياسة أكثر منّي! أيْ طُزْ فى هيك معرفة. منذ أن صادروا أرضنا وعبد الستّار يرفض التوجّه إلى رئيس البلدية، منذ ذلك الوقت وهو يتوجه إلى الأمم المتحدة، يعنى لكى يؤكّد لى أنه يعرف فى السياسة أكثر منّى، يرسل إليها المذكّرة تلو الأخرى، وعليها مئات التواقيع، تواقيعنا نحن بطبيعة الحال، للتدخّل ولإعادة أرضنا المصادرة إلينا. فلم تقم الأمم المتحدة بأيّ جهد ملموس، مذكّراتنا ذهبت عبثاً، ذهبت أدراج الرياح. 


عبد الغفّار يعيّرنى دائماً بهذا الأمر، يقول: مذكّراتنا ذهبت أدراج الرياح، عبد الغفار ما زال يتذكّر (أدراج الرياح) هذه منذ أن كان يعلّم الإنشاء لتلاميذه قبل سنوات طوال، لكنه لا يستطيع أن يخدعنى لمجرّد أنه ملمٌّ ببعض المصطلحات اللغوية، إنّه ليس مثقفاً. أنا مثلاً، لم أتمكن من إتمام دراستى بسبب سوء أحوال أبى، لكنّنى ثقّفت نفسي؛ أقرأ الجريدة كلّ يوم تقريباً، عبد الغفار لا يقرأ الجريدة، يعتبر ذلك مجرّد تضييع للوقت، وهو يعيّرنى دائماً: (ضاعت الأرض، ولم تنفعنا الأمم المتحدة يا عبد الستار، والمستوطنة تمدّدت فوق أرضنا، وجعلت نعمان ابن أختى بنصف عقل، ولولا أن الله سلّم لكان نعمان الآن بين الأموات).


فعلاً، لولا أنّ الله كتب لى السلامة لكنتُ الآن بين الأموات، لكنّنى لستُ بنصف عقل كما يدّعى خالى عبد الغفار وبقيّة أبناء هذا الحى الملعون. هل الذهاب إلى المستوطنة حرام؟ قولوا لى يا عباد الله. أنا لا أذهب إليها لأيّ هدف خاص؛ أذهب إليها للتمشّى فوق أرض أبى التى صادرتها سلطات الاحتلال، أتمشّى فوقها  وأقول لكلِّ من أراه: هذه أرض أبى وهى لى، ومن يقول غير ذلك فهو قوّاد. وأهل الحيّ، يقولون: آه منك يا ضَلالى، تذهب للتلصّص على بنات المستوطنين وللتفرّج عليهنّ وهنّ يخلعن ثيابهن قبل النوم، ولم تتوقّف عن ذلك إلى أن خرجوا إليك بالعصىّ والبنادق! مَليح أنّهم ما طخّوك يا مهبول! مليح أنهم اكتفوا بضربك بالعصىّ حتى فقدت نصف عقلك.


أنا فقدت نصف عقلي؟! فَشرتُم. أنا ذهبت للتلصّص على البنات؟! فشرتُم. أنا لى فتاة فى الحى، وهى تنتظرنى وأنا أنتظرها، لكن؛ الحقّ على أمّى وأبى اللذين ما زالا يرفضان خطبتها لى، ويرفضان زواجى منها على سنّة الله وسنّة رسوله. أنا لا ألوم أمّى وأبى فقط، أنا ألوم خالى عبد الغفار كذلك.


الولد نص بنى آدم وحيلُه كبير؛ قال يا خالى عبد الغفّار اخطب لى نهلة، بنت تاجر الأعلاف. قلت له يا نعمان، هذى بنت رجل ميسور الحال، وهى تدرس فى الجامعة، ولا يمكن أن تقبل بك زوجاً لها، هذى يمكن عينها على مهندس أو دكتور. ابن أختي؛ نعمان، قال: «عبّود والربّ المعبود لن أتزوّج إلا نهلة». قلت له امشِ انقلع، وخلّينى فى همّى، الواحد ما عاد يعرف كيف ينام من النباح، وأنت قرقعت لى رأسى، حِلْ عنّى يا ولد، لازم أفكّر فى حلّ لمشكلتنا مع الكلاب.


وفى ليلة ما فيها ضوء قمر، تذكّرتُ الأمين العام، وقلت أين أنت يا ابن عمتى عبد الستّار؟! 
ضَرب لى تلفون وقال تعال لى فى الحال يا عبد الستّار. قلت: فى هذا الليل الأغبر يا كافى البلاء يا الله! رُحت عنده ومعى عدد من أبناء الحى، رآنا نعمان ونحن نمشى بعجلة فى الطريق، تَبعنا مثل ظلّنا، ولم نُعره أىّ انتباه. قلت: ربّما وقع شجار بين عبد الغفّار وبعض الجيران، أو ربّما مرض شخص عزيز فى بيت عبد الغفّار. وصلنا الدار، قلت خير يا عبد الغفار! قال: أىّ خير وهذه الكلاب لا تجعلنا ننام يا عبد الستّار؟! انجذب أبناء الحى الذين جاءوا معى فوراً إلى هذا الكلام:


- والله الواحد قرف حياته من كثرة النباح!
- والله الواحد اشتهى يسمع المسلسل مثل الناس. نباح، نباح، طيّب بدنا نسمع المسلسل، دخيل الله!
- الواحد مع مرته واولاده بطّل يعرف يحكى. نباح، نباح، وَلْ، شو هاظ!


قال نعمان:
- أى بطّلت أقدر أسمع صوت نهلة وهى تغنّى خلف الشبّاك.
- دير بالك لتروح نهلة ترمى لك حالها من الشبّاك.


لم يقل نعمان شيئاً، اكتفى بتحريك سواد عينيه ذات اليمين وذات الشمال، كأنّه يقول لنا: آه منكم يا أوباش. قلت وأنا أضرب أخماساً فى أسداس غير عارف ما يجول فى رأس عبد الغفّار: 
- والنتيجة، ماذا تقترح يا عبد الغفار؟! 
- نرسل مذكّرة إلى الأمين العام، لعلّه يتدخّل ويخلّصنا من هذه الكلاب. 
- على الأقل خلّينى أقدر أسمع صوت نهلة وهى تغنّى خلف الشبّاك.
-أسكت يا ولد، نهلَتك علّة. ما رأيكم فى هذا الاقتراح؟


- والله إنّه اقتراح معقول. 
- أيْ خلّى الواحد يعرف يسمع كويس لمّا يفتح التلفزيون.
أنا قلت بينى وبين نفسى: هذا عبد الغفّار شطّب وما ظل فى رأسه عقل مثله مثل نعمان. اعتقدت أنّه يمزح، لكنّه كان جادّاً تماماً، ثمّ انفتح الكلام على مصراعيه لأبناء الحىّ الذين جلبتُهم معى، للتحدّث عن مآثر الأمين العام.


- اسمه كوفى عنان، والله إنّه ابن حلال. هيك، من منظره على التلفزيون أنا أقول إنّه ابن حلال.
- شكله تقول انّه عربى، بَسْ ليش اسمه كوفى، وَلْع الشيطان، أى هى الأسامى مشترى. لو أن والده سمّاه  مصطفى، مصطفى عنان! أو، لو انه سمّاه عبد الرحمن!
- يا خيى، الرجل مش عربى. بدّك تقْلِب طاقيتى انت؟ مش عربى.


- مش عربى، معناه مسلم.
- يا آدمى ولا هو مسلم.
- لَعَاد، نُرسل له رسالة ندعوه فيها إلى الإسلام.
- يا آدمى، لا تَهدِ من أحببت، إن الله يهدى من يشاء.
- أنا سمعت ان الرجل رايح يعلن إسلامه عن قريب.


- يا أوادم، خلّونا نركّز على موضوعنا. وبعدين يعنى؟!
- أحلف بعيون نهلة، إنّى امبارح فى الليل، شفته ماشى فى الحى، ماشى ومتخفّى عشان يشوف شو فيه عندنا مشاكل.
- يا ولد يا نعمان، اسكت، اسكت، والله غير تخلّيه مثل عمر بن الخطّاب.


- وحياة نهلة، قلت له مسا الخير يا عمّى كوفى عنان. تطلّع فى وجهى وظل ماشى من دون كلام.
- شُفت عاد يا خسيس؛ هذا مش كوفى عنان.
- أنا بقول كوفى عنان.
- اسكت بلا هَبل، اسكت.


قلت فى سرّى: والله ما فيه أهبل غيرك يا عبد الغفّار. ماذا جرى لعقلك؟ قلت:
- يا عبد الغفّار، كوفى عنان رجل محترم، يعنى فكرك إنّه ما عنده مشكلة غير الكلاب الضالّة التى لا تجعلك تنام!
- يا عبد الستّار، خلّى عندك شويّة عقل، إذاً، لماذا سمّوه: الأمين العام! لأن شغلته وعملته حلّ المشاكل.


- شوف لك مشكلة غير مشكلة الكلاب. هذا رجل محترم، وأنت تريد أن تبهدله.
- أنا أريد أن أبهدله؟ أذكرْ ربّك يا عبد الستّار. شو فيها إذا شكونا له أمر هذه الكلاب؟ وبعدين مالها الكلاب؟ أليست مثل باقى مخلوقات الله؟ بلاش الكلاب يا سيدى، نقول له: عندنا مشكلة مع الغزلان! نقول له: يا كوفى عنان دبّرنا مع هذه الغزلان التى تنبح مثل الكلاب، غزلان مسخوطة والعياذ بالله!


ظلّ نعمان يضحك حتى انقلب على قفاه. 
إى والله، ضحكت كما لم أضحك من عشر سنين. ضحكت من كلام خالى عبد الغفّار، ومن طريقة عبد الستّار فى الكلام، عبد الستّار يحاول الظهور بمظهر الرجل الذى لا أحد فى الحى يجاريه فى الفهم.قلت: 


- والله إنّك مسكين يا عبد الستّار.
- سكّين تحزّ رقبتك، لماذا هذا الضحك؟ تضحك من خالك عبد الغفّار، ولا تخجل!
- اتركه يضحك يا عبد الستّار وقل لى رأيك بكل صراحة ومن غير لفّ ودوران. 


وقبل أن يردّ عليّ عبد الستّار، انتبهت إلى شىء لم يحدث طوال الأشهر الماضية: هدوء شامل خيّم على الحى، لم يعد هناك نباح. للمرّة الأولى منذ أشهر، يتوقّف النباح على هذا النحو العجيب. هل شعرت الكلاب بما ينتظرها من إجراءات حاسمة؟! ربّما! قلت معتدًّا بالاقتراح الذى قدّمته قبل لحظات:
- ملاحظين أنتو والا لأ؟! توقّف نباح الكلاب.

- والله إنّه توقّف، توقّف فعلاً.
- وحياة نهلة الغالية عليّ، إنّه توقّف.
قال عبد الستار بصوت لا يخلو من سخرية:
- إذاً لا داعى لمخاطبة الأمين العامّ الآن.


اعترض نعمان:
- نخاطبه، لماذا لا نخاطبه؟!
- اسكت يا ولد.
- لا، لن أسكت، أريد أن أتزوّج نهلة، وعليه أن يساعدنى، سأكتب له حتى يُقنع أمّى وأبى وأهل نهلة وخالى عبد الغفار، بأن نهلة لى وأنا لنهلة. 
- امشِ، امش أطلعْ من هون. فكرك الأمين العام فاضى لهَبَلك ولقلّة عقلك.


غادر الجميع بيت عبد الغفّار، بمن فيهم نعمان وعبد الستّار. 
نعم، عدت إلى بيتى ورحت أتهيّأ للنوم. 
أمّا أنا، فقد اتجهت فوراً إلى تحت شبّاك نهلة، وبقيت ساهراً هناك حتى منتصف الليل.
وأمّا أهل الحى، فقد أخذوا كلّهم تقريباً يستعدّون للنوم، وفى تلك اللحظة نفسها، استأنفت الكلاب نباحها من جديد.

محمود شقير هو كاتب فلسطينى من مواليد جبل المكبر-القدس عام 1941، يكتب القصة والرواية للكبار وللفتيات والفتيان. أصدر حتى الآن أربعة وسبعين كتابًا، وكتب ستة مسلسلات تلفزيونية طويلة، وأربع مسرحيات. تُرجم العديد من قصصه إلى اللغات الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الصينية، الكورية، الإيطالية، الرومانية، المنغولية، والتشيكية‘ وهو حائز على جائزة محمود سيف الدين الإيرانى للقصة القصيرة 1991، وجائزة محمود درويش للحرية والإبداع 2011، وجائزة  القدس للثقافة والإبداع 2015، وجائزة دولة فلسطين فى الآداب 2019. عاش فترات من حياته فى بيروت وعمّان وبراغ، ويقيم حاليًّا فى مدينة القدس.

اقرأ أيضا | قراءة في كتاب «المقر الجديد لبائع الطيور».. تفاصيل