ذكريات رمضان| حكاية مقولة «صام صيام الجدة.. كل ما يجوع يتغدى»

«صام صيام الجدة.. كل ما يجوع يتغدى»!
«صام صيام الجدة.. كل ما يجوع يتغدى»!

تتداخل ذكريات شهر رمضان بالنسبة لى مع الأماكن التى عشت فيها، تتبدل مع تغير المرحلة السنية، تمتزج مع العادات الثابتة المرتبطة بالشهر الكريم، والتى لا تتغير أبداً مهما تغير الزمان أو المكان. 
تبقى أبرز هذه الذكريات، هى ذكريات الطفولة، ذكريات الصيام لأول مرة، والذهاب بفخر إلى المدرسة والتبارى مع الزملاء الآخرين حول من صام اليوم كله، ومن «صام صيام الجدة.. كل ما يجوع يتغدى»، كما كان يقولها جدى لى مازحاً إذا رآنى جائعاً وأقف أعلى الطريق أنظر للشمس فى انتظار غيابها.

يتغير إحساسنا بالأشياء كلما كبرنا، وتظل الطفولة هى الكنز الحقيقى للذكريات، لأن فيها براءة الاكتشاف والفرحة بالمغامرة والتجربة، الفرحة الخالية من أية شائبة أخرى. لكنى أظن أن بهجة رمضان تكبر معنا، حتى لو فقدنا نصف بهجتنا بسبب هموم الحياة

فى المدرسة، التى كنا نحبها فى رمضان بسبب حصصها القصيرة، كان يجب على كل تلميذ أن يخرج لسانه لزميله، لكى يؤكد له أنه ما زال صائماً، وإذا اكتشفنا أن لسان أحدنا أحمر، وليس وردياً فاتحاً، فهو إما «جحش رمضان»، أو يزفه الأولاد فى شماتة قائلين «يا فاطر رمضان.. يا خاسر دينك».


تبدأ الطقوس الرمضانية حقاً، بعد العودة من المدرسة، وتأجيل حل الواجب إلى ما بعد الإفطار، والبحث عن أى شىء نفعله لنمضى الوقت المتبقى من اليوم دون أن نفكر فى نداء بطوننا الصغيرة. كان ذلك منتصف الثمانينيات، قبل اختراع الإنترنت والهواتف والحواسب وجميع الألعاب الذكية، والتى وإن وُجد بعضها فقد كنا فى الصعيد، حيث لا شىء لتمرير الوقت سوى انتظار أن يمر، بأن نذهب إلى صلاة العصر فى المسجد القريب.

وبعد الصلاة نخرج إلى الشوارع بحثاً عن أى شىء نفعله، نذهب إلى الغيطان لجلب البرسيم أو «الجراو» للبهائم، وإن لم يكن فلا ضير من لعب الكرة، أو الجرى وراء بعضنا، أو العودة إلى البيت ومراقبة تجهيز أمهاتنا بابتهاج لإفطار عادى نسعد به، نقعى أمام البيوت ـ ككلاب الشوارع ـ فى انتظار أن يمر بائع الثلج بعربته الصغيرة، نحمل قطع الثلج على أيدينا ونعود به إلى البيت حيث يجهز آباؤنا السلطة ـ كأنها كانت اختصاصاً رجالياً فقطـ وتجهز أمهاتنا المشروبات الرمضانية.


وحين نسمع فى الراديو صوت الشيخ الشعراوى، أو نجد شارة برنامجه فى التليفزيونات الأبيض والأسود القديمة، نفعل مثل أجدادنا وآبائنا بالضبط، يضع كل منا بضع تمرات فى جيوب جلابيبنا الفضفاضة، فنشعر أننا صرنا كباراً، ونهرول إلى المساجد، ونحن نقيس بأعيننا ظلال الحيطان التى بدأت تمتد وتخفى الشمس تدريجياً. 


فى المسجد، نراقب القلل الفخارية الموضوعة على النوافذ وقد نشعت المياه عليها، ونحن نعد الدقائق المتبقية، نستمع بحب إلى صوت الشيخ محمد رفعت، وإلى صوت الأذان القادم من الراديو الموضوع أمام الميكرفون دون أن نأكل، فنحن نعرف أن هناك فرق توقيت بين إفطار القاهرة وإفطارنا. لا نمنع أنفسنا من أن نحسدهم لأنهم سيفطرون مبكراً عنا بضع دقائق. نقف أمام باب المسجد، ونحن نضع أيدينا فوق جبهاتنا وننظر إلى الشمس التى تكاد تختفى فى الأفق. بمجرد أن نسمع صوت أذان قادما من مسجد بعيد فى آخر القرية، ننظر جميعاً إلى المؤذن الذى يقف معنا ـ فى نفاد صبرـ فينظر إلى ساعته ليتأكد من أن الوقت قد حان، يهرول إلى الميكروفون، بينما نحن نتحسس التمر فى جيوبنا بحماس. لا ينتظر أحد منا صلاة النوافل بعد المغرب، يهرول الجميع إلى باب المسجد بمجرد أن يقول الإمام آخر الركعة الثالثة، وهو ينظر إلى شماله «السلام عليكم ورحمة الله»، يلبس كل منا حذاءه سريعاً، وبعضنا يهرول حافياً وهو يمسك «شبشبه» فى يده، فمائدة الإفطار تناديه.


نتحلق حول «الطبلية» فى انتظار وصول آبائنا وأجدادنا الذين يسيرون على مهل فى الشوارع، بينما تصلنا من الراديو برامج المسابقات فى البرنامج العام، أو صوت «عمو فؤاد»، و«جدو عبده»، و«بوجى وطمطم»، أو «بدون كلام» على القناة الأولى و«منى الحسينى» على القناة الثانية إذا تأخرنا قليلاً.


تحلو الجلسة أمام البيت بعد الإفطار، أكواب الشاى فى أيدينا ونحن نراقب الذاهبين إلى المسجد لصلاة العشاء أو العائدين من إفطار عن أقاربهم ونحن ندعوهم لشرب الشاى. يكون علينا بعد ذلك إما الذهاب لصلاة التراويح فى المسجد، والمشاركة فى المسابقات الدينية التى كانت تقام أحياناً، أو وضع شمعة داخل أى علبة صفيح صغيرة، حتى لو كانت علبة سلامون فارغة، وتعليقها بأى خيط، واللعب بها فى الشوارع المظلمة كفانوس تقليدى، لا نملك رفاهية أن يكون لدينا غيره.


تتغير الأماكن، وتتغير معها الذكريات، فى المرحلة الجامعية، كنت أسكن فى منطقة الخيامية بالقاهرة الفاطمية ـ بالقرب من باب زويلةـ كان رمضان يعنى لى تلك الدقائق القليلة قبل مدفع الإفطار، حين أسير وحدى فى الشارع.

وأنا أتأمل الجو الرمضانى «كما يقول الكتاب»، كما تتحدث عنه الروايات القديمة، وكما وقر فى الذاكرة من البرامج والمسلسلات التلفزيونية القديمة. أتمشى ما بين جامع السلطان حسن والمغربلين وسوق السلاح والدرب الأحمر والغورية والمجاورين انتهاء بالحسين، أتنقل بين المساجد القديمة هناك، بحثاً عن رائحة ما تركه الزمان وأثر من مروا.


عشت وحدى كثيراً، فى أماكن متفرقة، لم أشعر خلالها بأجواء رمضان، فقط أشترى إفطارى وأعود إلى البيت، أنتظر أذان المغرب، كى «أكسر صيامى»، ثم أواصل ما كنت أفعله. أحياناً ـ فى تلك الأيام ـ حين كنت أشتاق إلى أجواء رمضان، كنت أسير حتى ميدان رمسيس أو الحسين، للإفطار على أى مائدة رحمن، ليس بحثاً عن الإفطار، إنما تلمساً للأجواء التى لم أصادفها منذ كنت طفلاً ولم أعد أشعر بها. وحين سافرت للعمل خارج مصر، كنت أتابع ـ عبر الفضائيات المصريةـ لحظات الإفطار فى مصر، التى كانت تحين بعد إفطارى الفعلى هناك. ربما بحثاً عن إحساس مفتقد بزمن ولَّى ولن يعود.


يتغير إحساسنا بالأشياء كلما كبرنا، وتظل الطفولة هى الكنز الحقيقى للذكريات، لأن فيها براءة الاكتشاف والفرحة بالمغامرة والتجربة، الفرحة الخالية من أية شائبة أخرى. لكنى أظن أن بهجة رمضان تكبر معنا، حتى لو فقدنا نصف بهجتنا بسبب هموم الحياة وانشغالنا بأمور أخرى، لكننا نراها ونفرح بها فى عيون أطفالنا وأحبائنا، فى صوت الشيخ محمد رفعت قبل الإفطار، حين نسمعه فنستعيد فجأة كل مشاعرنا التى كنا نظن أننا فقدناها من زمن.

اقرأ ايضا | سيناء‭ ‬جنة‭ ‬الضيوف