وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ

المستشار أسامة محمد زكى
المستشار أسامة محمد زكى

بقلم: المستشار أسامة محمد زكى رئيس محكمة الاستئناف

أحفظ الكثير من أشعار الإمام الشافعى ، والإمام الشافعى فضلا عن كونه فقيها ذا عقلية نادرة وفهم ذى أبعاد مترامية فهو أيضا شاعر يجرى ولا يُجرى معه ، وأشعار الشافعى كلها حكمة وكلها تجربة صادقة ونصائح غاليات كريمات أحبها و تحبنى !! و من أشعاره قوله :
أحسنتَ ظنك بالأيام إذ حسُنَت و لم تخَف سوءَ ما يأتى به القدرُ
و سالَمَتك الليالى فاغتررتَ بها و عند صفو الليالى يحدثُ الكدرُ

أقول ذلك حزنا و تألما على حادث مصرع القمص أنسيوس  فى ليالى بهجتنا الروحية بشهر رمضان بأجوائه النورانية و لياليه المباركة ، و سبب حزنى أكثر أننى فكرت بعيدا عن هذا الخبر الحزين الأليم الذى عكر على المسلمين والمسيحيين صفوهم على السواء- فكرتُ فى حوادث الدماء على العموم- وكيف وصل بنا المطاف فى هذا العصر المشحون بالأحداث والتيارات إلى هذا القدر من الاستهتار بالدماء رغم تحذيرات ديننا الحنيف و يكفى حديث سيدنا رسول الله  (لا يزال المسلم فى فسحة من دينه ما لم يصب دَما ) .. وأرباب اللغة يقدرون تنكير لفظة (دما) الواردة فى الحديث إنها تعنى أى دم فلم يقيده الحديث بدم مسلم أو غير مسلم ، و القاعدة الأصولية تقول : (المطلق على إطلاقه ما لم يقيد بقيد) .. ثم أمعنت الفكر فى كتابنا العظيم الذى أنزله الله العظيم بوحى عظيم على قلب صاحب الخلق العظيم  بمعانٍ عظيمة .. أمعنتُ النظر- و نحن فى شهر القرآن- فاستوقفتنى آية حكيمة فى سورة القصص و تعجبت كيف مرت مرور الكرام علينا جميعا و على أولئك معاشر المتطرفين المتساهلين فى إراقة الدماء على وجه الخصوص ، و لنقرأها سويا بشئ من التؤدة و التمهل يقول تعالى متحدثا عن كليمه سيدنا موسى أحد أولى العزم من الرسل و الذى اهتم القرآن الكريم بقصته و كررها أكثر من مرة فى جليل سوره .. تقول الآية عنه وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ تأمل !!

أولا إنه موسى كليم الله الذى قال الله فيه (و أنا اخترتك) و قال له (و اصطنعتك لنفسي) و قال له (و لتصنع على عيني) لقد دخل المدينة ليلا فوجد مشاجرة بين أحد أتباعه و آخر - واحد من أتباع فرعون- و قد أثبت القرآن أن هذا الآخر عدو لموسى و لدينه و دعوته ، تأمل أنت الحال الآن .  المشهد الآن بين موسى الكليم المجتبى و بين عدو لله و لكليمه و دينه ، ثم تعبر الآية أن سيدنا موسى دخل فقط ليحتجز و يعين تابعه على عدوه فما كان منه سوى ما عبرت عنه الأية أنه (وكزه) و ما تحويه من دلالات انتفاء أى قصد جنائى بقتل .. إنه فقط أراد أن يدفعه و يزيحه و يبعده بعيدا لا أكثر .. فكان من أثر هذه الوكزة ما يسمى عند فقهاء القانون الجنائى ويكيفونه بالقتل الخطأ .. فالوكز ليس من شأن القتل العمد و تنتفى معه نية إزهاق الروح .. المهم أن صاحبنا خر قتيلا ، تأمل معى رد فعل نفس سيدنا الكليم- و هو الرجل القوى الشديد- و استشعر مدى تألمه ، لقد كيَّف هذا الوضع أنه (من عمل الشيطان) إثر عداوته الشديدة لبنى الإنسان فالقتل بين بنى الإنسانية عمل شيطانى كريه ، واغتم موسى غما شديدا ولاذ بربه مستغفرا فنحن بصدد فعل و إن كان على سبيل غير العمد و صادر من نبى معصوم أجراه الله عليه لنتعلم منه خطورة الدماء و مدى جرم التساهل فيها ، استغفر موسى الكليم و وقف على عتبات مغفرة ربه متضرعا ( رب اغفر لى فغفر له ) مما يفيد أننا بصدد فعل يحتاج لإنابة و عودة إلى ساحة صفح الله .. غفر الله لموسى ثم يبين الله فى سورة طه كيف أن هذه الواقعة أورثت فى كليمه غما و يمتن الله عليه بأن غفر له و انتشله من كرب هذا الفعل رغم أنه من قبيل غير المقصود فيقول الله له مذكرا إياه بنعمه عليه (و قتلت نفسا فنجيناك من الغم و فتناك فتونا) ..

بعد كل هذا أيوجد منفذ لعاقل أو منصف يتهم دين الإسلام بأنه يستحل الدماء أو انتشر بالسيف ؟! إن الإسلام يحقن دماء المنافقين و هم بالدرك الأسفل من جهنم أخذا بظاهرهم ، و يأمرنا بالقسط و البر لإخوان الوطن من أهل الكتاب ، ويعطى كل ذى حق حقه و يقول عنهم (لَيْسُوا سَوَاءً منْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، و يقول (منهم أمة مقتصدة) .. ثم إن المسيحيين على وجه الخصوص يوصى القرآن العظيم بهم فيقول (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يستكبرون ) و يصف بعض من حضر عهد النبوة منهم و استمع إلى كلام سيد الخلق  ( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )

فاتقوا الله فى دينكم و اعرفوا دينكم وتدبروا القرآن الكريم والسنة المطهرة يرحمكم الله .. و تعازينا لإخواننا المسيحيين الطيبين فى مصابهم الجلل و جمعنا دائما على كلمة الوئام و المحبة و السلام و الإسلام الحق الذى ينصف ولا يجور ويعدل ولا يحيف .