من حكايات العصفور والسمكة

من حكايات العصفور  والسمكة
من حكايات العصفور والسمكة

كتب : عاطف محمد عبد المجيد

1
فى محاولةٍ للتشهير بهما، التقطوا لهما صورةً وهو يُمسك يدها على الطاولة التى جمعتهما معاً فى المقهى، لكنهما أعلنا كمْ هما مدينان بالشكر، لمن وثّق اللحظة التى تعاهدا فيها أن يظلا معاً إلى الأبد.


2
حاسدًا حبيبَها وحاقدًا عليه، قال لها طبيبُها الذى يعالجها من أزمةٍ قلبية:
- لو أنّ زوجتى تحبّنى رُبْعَ حبكِ لحبيبكِ هذا، لغلقْتُ كل عياداتى، وظللْتُ طول العمر خادمًا تحت قدميها.


3
أمس دعاها للخروج ليفْطرا معَا فى مكان مفتوح. بعدما عادت لمنزلها هاتفتْه قائلة له:
- فرْحتى بدعوتك هذه، كفرحةِ طفلةٍ اصْطحبها أبوها، ليشترى لها فستانَ العيد.


4
لم يكن حلمها أرصدة مُتخمة فى بنوك سويسرا، ولا جزيرة منعزلة، لا شبيه لها إلا فى الفردوس الأعلى. فقط كان حلمها أن ترتمى فى حضن حبيبها، وقتما تحتاج إليه، دون خوف من أحد.


5
لفترات طويلة جدًّا، ظل يهاتف أصدقاءه المقربين، وغير المقربين، فقط ليطمئن عليهم، دون أن ينتظر منهم أن يفعلوا هذا معه.
ذات مرة سألته رفيقته:


- هل لى أن أسألك؟
- تفضلى.
- لماذا تتصل بهم طوال الوقت، دون أن يفكر أحدهم فى الاتصال بك؟!
لحظتها لم يكن لديه رد سوى:
-...............................!
6
أرسل إليه صديق جديد عبر الفيسبوك رأيًا فى كتاباته أسعده جدًّا. نادى على رفيقته، كى تُشاركه سعادته، لكنها نظرت إليه صامتة، واختفت داخلةً إلى مطبخها.


7
كثيرًا ما طالبها بالكفِّ عن أشياء تفعلها ولا يرضى عنها، لكنها لم تستجب. كلما عاتبها، اتهمته بظلمه لها. فى المرة الأخيرة التى شكرته فيها على ظلمه لها، كان قد قرر أن يُطلق سراحها، مبتعدًا عنها للأبد.


8
كلما طلب منها أن تُعد له كوبًا من الشاى، طالبته بشراء ما يلزمهم من بصل!


9
رغم أنه استاء جدًّا، وحزن كثيرًا، وهى تحكى له عن ذهابها إلى الطبيب النفسى بسبب ما يفعله معها، إلا أنه كان أسعد كائن على ظهر هذا الكون، وهو يسمعها تقول إن الطبيب، الذى لم يستطع أن يُخفى غيظه وحقده عليه وهو يراها تحبه حُبًّا لم يرً مثله من قبل، أخبرها أنه من الضرورى أن يتم افتتاح قسم فى كليات الطب يختص بمرض، يُطلق عليه اسم حبيبها!


10
أخيرًا تبين أنه أخطأ فى حقها كثيرًا، أخطأ نتيجة لأشياء عديدة حدثت بينهما لم يستطع أن يستوعبها فى حينها.
حين قرر الذهاب إليها ليعتذر لها، ويرجوها أن تسامحه على كل ما بدر منه تجاهها، مات حزنًا وهو يسمع مُحدّثه ينقل إليه خبر رحيلها.


11
رغم أنه يحبها وحدها، حد الذوبان فيها، وهى كذلك تحبه وحده، حد الشغف وأكثر، إلا أنه، من حين لآخر، يختبر غِيرتها عليه، عاشقًا اللحظة التى تثور فيها عليه، مُظهرةً غيرتها التى تجعلها تبدو أمامه كبركان ثائر لن يهدأ أبدًا؟


12
لأشياء كثيرة تحدث بينهما وحولهما، بعضها مفهوم، وبعضها يستحيل فهمه، لغموضه حدَّ الألغاز، كثيرًا ما يسرّ لنفسه:
كُلّما فكّرْتُ فى الابتعادِ عنها خُطْوةً، جَعلتْنى أَقْتربُ مِنْها ألْفَ خُطْوةٍ!


13
حين رأت وزنه ينقص شيئًا فشيئًا، ويصبح أكثر نحافة عن ذى قبل، سألته عن السبب، هى التى اعتادت، دون أن تعرف ودون أن يخبرها، أنها كانت تهاتفه، دائمًا، وقت جلوسه إلى الطعام، وما كان منه إلا أن كان يترك الطعام ليقتات على حديثه معها.


14
كان كلما فعل من أجلها شيئًا، قاصدًا من كل قلبه مصلحتها وراحتها، فسّرت ما يفعله خطأً. بل وصل الحال بها فى أحيان كثيرة إلى أن تلومه، كأنه اقترف جُرمًا شنيعًا فى حقها. فى المرة الوحيدة التى أراد أن يفعل شيئًا ضدها، انهالت عليه تقبيلًا، معتبرة ما فعله جميلًا لن تنساه، ما بقيت على قيد الحياة.


15
لم يبخل عليها بأى شيء، حتى وهو بعيد عنها كان يزورها فى أحلامها، ليحقق لها كل ما تتمناه امرأة، من رجل تذوب فيه عشقًا. غير أنها فى اليقظة لم تكن ترى أى شيء مما كان يفعله من أجلها.


16
كانت كثيرًا ما تخبره أنها مدينةٌ له بحياتها، وقبلها مدينة له أيضًا، بأشياء لا تُحصى، تحتاج إلى أعمار أخرى كى تردّها إليه. لكنها حين فكرت فى تسديد ديونها إليه، تركته، لتكمل حياتها مع آخرين، لا يزالون يستغلونها كما يستغل فلاح بقرته الحلوب.


17
دائمًا ما كانت تقول له إنها لمْ ولن تحب سواه.. غير أنه، ومع أول هفوة له معها، اكتشف أن كلامها كان مجرد أكاذيب.


18
كانت تشَبّه قصتهما معًا بحكاية العصفور والسمكة، حكاية كائنين يستحيل أن يلتقيا أبدًا. فلا العصفور سيترك فضاءه الفسيح لينزل إلى البحر لأجلها، ولا السمكة ستغادر بحرها، مهما يحدث، لتصعد إليه. غير أنها، وبعد أن أزالت الأقدار كل الحواجز بينهما، أصبح غباؤها هو الحاجز الوحيد.


19
بإرادتها بدأت قصتها معه، وبقرار أحمق منها أنهتها. تُرى.. هل خسر هو شيئًا؟!


20
بالأمْسِ أخْبرها أنّه بصددِ كتابةِ يوْمياتهما معًا، ليجمعَ، بعدَ ذلك، ما سيدوّنه فى كتاب. اليومَ كانت أُولى يومياته هكذا: لقد انتهت علاقتنا.


21
حين رن الهاتف، طار قلبه فرحًا. لكنه وهو يرى اسم المتصل به، تذكر أنه غيّر النغمة الخاصة بها!


22
على الرغم من تلقّيهِ سيولًا من التهانى، وألوفًا من الأمنيات بعام جديد سعيد، إلا أنه لم يشعر بأن أحدًا قد هنّأه قطْ، إذ لم يتلقَ، بَعْدُ، التهنئةَ التى ينتظرها.


23
صديقته التى طلبتْ نصيحته سائلةً إياهَ:
- ماذا أفعل مع رفيقى الذى صُدمتُ فيه؟
أشار عليها بفعْلِ أشياء كثيرة، تجعلها تنساه إلى الأبد. 

هو الذى مع معرفته بكل هذه الأشياء، لم يستطع نسيان حبيبته، التى خذلتْه، لثانيةٍ واحدة!


24
كان كلما رآه شَدَّ على يديْه، مُثمنًا مجهوداته، وتجربته التى يخوضها منفردًا، دون عون من أحد. حين أُتيح له أن يساعده، لم يعدْ يرد على رسائله، حتى تلك التى كان يرسلها إليه، بغية الاطمئنان عليه فقط.


25
اليوم يتجاوز الثمانين عامًا بعدد أصابع يده اليمنى، لكنه منذ أن كان فى منتصف هذا العمر، وهو ينتظر الموت كل يوم. تُرى كم مرة مات خوفًا من الموت؟ وكم مرة سيموت فيها بعد ذلك؟


26
على طرفى المسافة التى تفصل بينهما، وقف كلٌّ منهما ينتظر مجىء الآخر إليه. غير أن هذه المسافة، ورغم أنهما يقفان هناك منذ عشرات السنين، لمْ تنقصْ، حتى اللحظة، سنتيمترًا واحدًا.


27
بعد عملية جراحية بُترت ذراعه فيها، عاد إلى بيته حزينَا باكيَا. لكنه حين تذكر الألم الذى كانت ذراعه تتسبب له فيه، مسح دموع عينيه، أسند رأسه إلى الحائط، وراح فى نوم عميق.


28
كلما نظر إلى صورة أفراد عائلته المعلقة على حائط غرفة الضيوف، وتضمه معهم وهو لا يزال ابن عامين أو أقل قليلًا، يتساءل حزينًا:
كيف مرّت سريعًا كلُّ هذه السنوات؟!

اقرأ ايضا | قراءة تقابلية في منهاجي محيى الدين بن عربي وجلال الدين الرومي