عز الدين ميهوبي يكتب: القيصر والأبجدية والدبابة

عز الدين ميهوبي
عز الدين ميهوبي

بقلم: عز الدين ميهوبي 

نصفُ الكرة الأرضيّة يقيمُ منذ نهاية يناير الماضي في أوكرانيا، بعد أن أعلنَ بوتين، ما أسماهُ، عمليّة عسكريّة خاصّة، مستنفرًا "إمبراطوريّة الأكاذيب" كما يحبُّ أن يصفَ أمريكا والغرب في أحاديثه.. والنّصفُ الآخر محتارٌ فيما سيكون عليه الوضع من إفرازات لحربٍ لا أحد يدري حدودها، فهناك الخوف من تقلّص إمدادات الأمن والطّاقة والغذاء.. ولا يرى النّاس من الحربِ إلا ما تمّ التعبيرُ عنهُ، بمنع تمدّد الناتو، وجعل أوكرانيا خالية من السّلاح والنازيين الأوكران، وحماية إقليم الدّونباس من ظُلم حُكّام كييف كما تقول موسكو..

ليس علينا أن ننظرَ إلى النّصف الظّاهر من جبلِ الجليد.. ولكن علينا أن نتوقّفَ عند عنصرٍ محرّكٍ لهذه المواجهة التي وضع فيها القيصر ثقلهُ العسكري، ألا وهي مسألة "اللغة الرّوسيّة" وأبجديّتُها المختلفة عن الشّكل اللاتيني لحروف لغات أعضاء النّاتو (..)، وهي من الأسباب المباشرة في هذه الحرب التي يذهبُ الآلاف وقودًا لها.. فكيف نقرأ ذلك؟

سأبدأ من حيثُ تنطلقُ إمبراطوريّة الحقائق والأكاذيب في تعامُلها مع مسألة اللغة، لأصل لاحقًا إلى الدّوافع التي جعلت بوتين يثور ويقلبُ الطّاولة على الذين أرادوا لجْمَ ألسنةِ النّاطقين بالرّوسية أو قطْعها..

 

أذكرُ أنّهُ لم تنم مونريال ذات ليلة. هل تعرفون السبب؟ لأنّ إحدى قاعات السينما عرضت فيلمًا ناطقًا بالإنجليزيّة دون دبلجة بالفرنسيّة، وتمّت مساءلة البرلمان للمذنبين، واعتُبر ذلك خرقًا لقدسيّة الكيبيك الفرنسيّة الهوى والهويّة.

وفي مؤتمر اقتصاديّ بألمانيا خرج الرئيس جاك شيراك يستشيط غيظا لأنّ رئيس شركة فرنسيّة خاطب الحضور بالإنجليزيّة في حضوره، ولم يعد إلاّ بعد اعتذار المذنب الذي برّر فعلته بكون الحاضرين يفضّلون لغة بيل غيتس دون غيرها..

ولحدّ السّاعة لا تعرف بلجيكا، المنقسمة على نفسها، إن كانت ستخرج من هُدنتها اللغويّة الطويلة أم لا، بعد أن انتصر الفلامان للغتهم الهولنديّة إذْ يرون أنفسهم أكثريّة سكّانيّة، بينما ينتصر الوَالونْ للغة الفرنسيّة ويعتبرونها الأقدر على إدارة شؤون الدولة.. في حين يدخل الألمان بلغتهم على الخط ولو بنسبة لا تتجاوز 1 %.. والمفارقة في كلّ هذا أنّ الملك من عرقٍ جرماني، ودوره لا يعدو أن يكون حكمًا بين طوائف المملكة.

هذه بعض مظاهر الأزمات التي تنتجها اللغة عندما تتنازل الهويّة عن موقعها للسياسة.. ولعلّ ما يغيبُ قليلاً عن نظر المهُوسين بأحداثِ السياسة في العالم هو علاقة القيصر بوتين باللغة وأبجديتها الأصيلة، وإعلانه الحرب على من يسعون لوضع لغة بوشكين وتولستوي وغوركي وتشيكوف وأخماتوفا وإيفتوشينكو في ثلاجّة بحجم سيبيريا. كيف ذلك؟. اللغة الرّوسيّة، هي إحدى الشقيقات السلافيّات، وتُعدّ من لغات الأمم المتحدة، وذات انتشار في عمُوم أوروبا الشرقيّة، وكانت في عهد الاتحاد السوفياتي، قبل أن تفككه بريسترويكا غورباتشوف، لغة لـ 300 مليون شخص، وفي أقلّ من سنة تقلّص عدد المتكلّمين بها ومستعمليها في الإدارة والإعلام إلى النصف، بعد أن خرجت عديد الجمهوريات من ثنايا المعطف الأحمر، واستعادت لغاتها الأصليّة، فارتفعت درجة الغضب والحنق على الذين يتشفون في الدّب العجوز المُنهك.. وشكّل التخلي عن اللغة الروسيّة وهويّتها أبجديّة ونطقًا وإرثًا ثقافيا وتاريخيا، علامة فارقة في علاقة موسكو بأربّائها، فلم يغفر سليل "الكي جي بي" للمتمردّين عليه وعلى لغته ما ارتكبوه في حقّها، فبدأ الأمر مع جيورجيا التي أقصت اللغة الروسيّة تمامًا من تعاملاتها الرسميّة منذ إعلان استقلالها، وفي العام 2008 حاولت تذويب جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في الوعاء الجيورجي الرّافض لأيّ وصاية تاريخيّة أو ثقافيّة على الجمهوريّة التي لو تمكّنت لأقامت جدارًا عازلا بينها وبين موسكو، إلاّ أنّ الأمر لم يتمّ بالسهولة التي اعتقدها الرئيس ساكاشفيلي آنذاك، إذ لم يكد يعلن عن قرار ضمّ الجمهوريتين، في غفلة من الكريملين، حتّى كانت دبابات بوتين تملأ ساحات أوسيتيا وأبخازيا، ولافتات التأييد بالروسيّة تغطّي الشّوارع، فانكمش الرئيس الجيورجي، وراح يُشهد العالم على انتهاك الرّوس لحرمة أراضيه، فلم يسمع العالم شيئا مما قال ساكاشفيلي لأنّه كان يخاطبهم بالجيورجيّة التي لا تتجاوز كلماتها جدران العاصمة تبيليسي..

ولم تكد تنتهي أزمة جيورجيا حتّى شعر بوتين بأنّ أوكرانيا تتحيّن فرصة الانفلات من قبضة الدبّ الرّوسي، ورغم أزمة الغاز والشتاء القارس في 2005 وما بعدها، فإنّ الأوكرانيين كانوا أكثر قربًا من مقولة الماغوط "لو كانت الحُريّة ثلجًا لنمتُ في العراء"، فانتصروا لمجتمع الحريّة كما في أوروبّا على السجن الدّافئ لروسيا، إلى أن أخذ بُعْدُ القطيعة مع زوج الأمّ نقطة اللارجوع،  ومع ذلك فقد عجز الموالون لموسكو على كبتِ جماح الشّارع ليخسرُوا معركة التحوّل الأوروبّي، وخسرُوا معها معركة إنهاء وجُود اللغة الرّوسيّة في شبه جزيرة القرم، إذْ لم تمهل دبابات بوتين كييف طويلاً لتضمن ولاءات برلمان القرم وأجزاء من الجيش الأوكراني ونسبة عاليّة من "الأوكرارُوس" الذين لن يفقدوا لسانهم طالما هناك دبابات وراجمات صواريخٍ روسيّة خلف الأسوار..

ولعلّ الشيّء الذي أثلج صدر بوتين بشأن الأزمة السّوريّة هو القرار الذي اتخذته حكومة الأسد القاضي بتدريس اللغة الروسيّة في المدارس السّوريّة عرفانًا بجميل موسكو التي كانت سندًا لها، فاستعاض السوريون عن شكسبير وموليير لصالح ليون تولستوي، صاحب رائعة "الحرب والسّلام".

 

ومن لطائف ما ابتدعه جمهور السيّاسة في تعليقه عن التدخل الروسي في أوكرانيا وتهديده بفصل إقليم شبه جزيرة القرم عن الدولة المتمرّدة عن مظلة الكريملين، أنّ أوباما اتصل ببوتين ليعبّر له عن رفض واشنطن لسياسة الأمر الواقع التي تفرضُها روسيا على أوكرانيا بانتهاك أراضيها وضرب استقرارها، وأنّ هذا يمثّلُ استخفافا بمشاعر المجتمع الدولي (..)، وقد دامت المكالمة بينهما أزيد من 90 دقيقة، كانت الدقائق الخمس الأولى كافيّة ليعبّر فيها أوباما عن غضب الولايات المتحدة للسيطرة على القرم، بينما استغرق بوتين 85 دقيقة في الضحك، لأنّه لم يفهم معنى كلمة المجتمع الدولي.

هكذا يلعب الكبار بينهما تحت عنوان الحرب الباردة. فكلّما تضاربت المصالح، صار اختراق الخطوط الحمراء أمرًا محتومًا، وانتهاك سيادة الدول مسألة شكليّة، تغضب بشأنها دولٌ، وتقطعُ بسببها علاقات، وتعلن حالات الطوارئ.. وتنتهي بعد أسابيع أو أشهر أو سنوات إلى منطق "صافية لبن" وكأنّ شيئا لم يحدث.

الولايات المتحدة فعلت ذلك في مناطق عديدة من العالم، من الفيتنام، إلى بنما وأفغانستان والعراق وسوريا، ولها في كلّ واحدة من هذه الدول قصّة وغُصّة. وأمّا روسيا فلها أيضًا تاريخٌ مع تشيكوسلوفاكيا وأفغانستان وجورجيا، وفي كلّ مكان تقيمُ عُرسًا وتترك ضرسًا.

الوضع في أوكرانيا، ليس أكثر من سيناريو أكثرَ عُنفًا لما حدث في جيورجيا عام 2008، إذ لم تفعل جيورجيا شيئا وانكفأت على نفسها حتّى لا تخسرَ أكثر، رغمَ أنّها اعتقدت آنذاك أن مجيء ميدفيديف رئيسًا بديلاً لبوتين لن يكبح جماع الجمهوريّة المتمرّدة.. لكنّ بوتين كان خلف السّتار يديرُ الأمور كما قرأها في وصيّة بطرس الأكبر. والصّورة تكرّرت في شبه جزيرة القرم حين تحرّكت الدبابات التي كانت تحرُس أولمبياد سوتشي، لتبتلع مؤخّرة أوكرانيا في غفلة من جموع كييف الثّائرة على سطوة موسكو..

الأوكرانيون يعرفون أنّهم لن يفعلوا الشيء الكثير، ولا حيلة لهم إلاّ إقناع الدبّ بأنّه فهمهم خطأ، وأنّهم لا يسعون إلى المسّ بمصالحه، فهو جارهم التاريخي، وبينهم عيش وملح، إلاّ أنّهم يريدون اكتشاف أوروبا وفضائلها، فهل هي لعبة الفأر مع القط؟.

بوتين سمع أصوات جماهير أوكرانيا وهو تنعته بأبشع النعوت وتمجّد خصومه، وتتوعد بإسقاطه كما فعلت بدميته يانوكوفيتش، بل أكثر من هذا، كان التحدي كبيرًا، بإلغاء التعامل باللغة الرّوسيّة، كما حدث في جيورجيا، وهي إشارة إلى طلاق بائن.. وكلّما ارتفعَ صوت رُوس الدّونباس أنّهم يتعرّضون للتضييق اللغوي والثقافي والمنع من ممارسة الشعائر الدينيّة والتقاليد، يشعرُ بوتين أنّ جدران الكريملين تكاد تتصدّع، وأنّ عليه أن يفعل كما فعل المُعتصم حين سمع امرأة تناديه "وابوتيناه".. فخرج على النّاس، وأعلن من شُرفةِ القصر "لبيك يا دونباس".. ومن يوم إعلان بوتين حملةِ تحرير الدّونباس من رعونة ذئاب أزُوف النّازيين كما يوصفون، لم تغب مسألة اللغة في أي خطاب يتوجّهُ به بوتين إلى العالم، باعتبارها عصبَ الهويّة الرّوسيّة. ولعلّ الأبرز في العقوبات التي سُلّطت على رُوسيا، بعد اجتياح 24 يناير، هي مقاطعة كلّ ما يتّصل بالثقاقة والفنون والآداب الروسيّة، وهو ما اعتبرهُ بوتين سلوكًا عنصريّا يكشف نفاق وانتهازيّة إمبراطوريّة الأكاذيب. إنّها حربُ هويّة قاتلة بامتياز، وليست مجرّدُ عمليّة عسكريّة خاصّة لإيقاف الناتو والاستعاضة عن الدّولار بالرّوبل.. لم يبق إلاّ أن أقول لكم بلسانٍ روسيّ مبين "خراشُو".. ولكم أن تسألوا عن معناها، وشكرًا.

كاتب جزائري