فى بلد المليون رقيب.. المنع أول طريق الرفض

الرقيب
الرقيب

ريزان العرباوي 
 

طرحت “أخبار النجوم” في العدد السابق ملف نتحدى فيه “طيور الظلام”، كارهي الفن المتربصون للإبداع, واستكمالا للعدد الماضي، نطرح قضية مهمة, وهي المطالب الفئوية والحملات الممنهجة التي تظهر بين حين وآخر تطالب بمنع عرض فيلم سينمائي أو عمل درامي سواء لإختراقه قيم وعادات المجتمع الشرقي ومحاولته كسر التابوهات، أو لأنه يسيء لفئة معينة من المجتمعات العربية, تعدت الأسباب والنتيجة واحدة، وهي المطالبة بالمنع والمقاطعة التي أصبح أول طريق لتعبير الجمهور عن رفضه, وبعد أن كانت الأعمال الفنية تقع رهينة لمقص الرقيب, أختلف الوضع كثير في عصر التواصل الإجتماعي والإعلام المفتوح, لتصبح حرية الفن مهددة وبشكل أقوى برغبات السوشيال ميديا ووصايا تفرضها فئات معينة من الجمهور.. فلماذا أصبح المنع هو أول طريق الرفض؟.
 

يعتبر فيلم “أصحاب ولا أعز” آخر الأعمال الفنية التي واجهت هجوم عنيف ومطالب من قبل الجمهور على وسائل التواصل الإجتماعي بوقف العرض ومقاطعة شبكة “نتفلكس” المنتجة للفيلم.


ومن قبله واجه فيلم “أميرة” هجوما كبيرا وحملات تطالب بمنعه على “تويتر” و”فيس بوك”، وطالبت اللجنة الوطنية للأسرى والمفقودين الأردنيين بإجراءات لوقف عرض الفيلم وسحبه من كافة المنصات, ومحاسبة المسئولين عنه, وعلى نقابة الفنانين ممارسة دورها بوقف بثه, كما دعا مغردون إلى وقفة احتجاجية أمام “الهيئة الملكية للأفلام” في الأردن احتجاجا على أحداث الفيلم.


كما رفضته وزارات ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية, بعدها أعلن المخرج محمد دياب وقف عرض الفيلم وانسحابه من “الأوسكار”, وطالب بتأسيس لجنة مختصة من قبل الأسرى وعائلاتهم لمشاهدته ومناقشته.


يذكر أن أحداث الفيلم تدور حول حكاية تهريب نطفة من معتقل فلسطيني خارج السجن, وبعد ولادة الطفلة يتم اكتشاف أنها ابنة ضابط إسرائيلي قام بتغيير العينة أثناء تهريبها, والفيلم من كتابة وإخراج محمد دياب, وهو إنتاج مشترك بين فلسطين والأردن ومصر.  


 طالب أيضا ناشطون, ورواد مواقع التواصل الإجتماعي بمنع عرض فيلم “بلاش تبوسني” الذي قامت ببطولته ياسمين رئيس, لكونه فيلما جريئا, يحمل اسما غير معتاد على المصريين في السنوات الأخيرة، الفيلم تم عرضه عام 2018، ويذكر أن الرقابة أجازت العمل دون حذف مشاهد منه.


أثار فيلم “حلاوة روح” بطولة اللبنانية هيفاء وهبي, جدلا واسعا واختلافا كبيرا في الأراء, وتم منعه من العرض بقرار من رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب, وجاء قرار المنع بعد أن قام “مجلس الأمومة والطفولة” بإرسال تقرير يطالب فيه بمنع عرض الفيلم حفاظا على صحة الأطفال النفسية، وذلك بسبب الإساءات الأخلاقية والمشاهد التي تخدش الحياء على حد تعبيرهم, علما أن الفيلم موجه للكبار فقط وهو للمخرج سامي عبد العزيز تم عرضه عام 2014.


كان لفيلم “المذنبون” مكانة خاصة في تاريخ السينما المصرية لعدة أسباب، أهمها تحويل الرقباء الذين سمحوا بعرضه إلى المحكمة التأديبية, وما حدث مع الفيلم كان ضد المألوف وقتها, فلم تكن المطالبة بمنع العرض من قبل الرقابة، لكن ما حدث كان العكس، فبعد أن سمحت الرقابة بعرضه بالكامل دون أي تعديلات، بل واختير الفيلم ليمثل مصر في أحد المهرجانات, لتأتي بعد ذلك المطالبة بمنع العرض من قبل الجمهور نفسه، حيث أنه يدين المجتمع ويسيء إلى صورة المواطن المصري من وجهة نظرهم.


الفيلم قصة للأديب العالمي نجيب محفوظ والسيناريو لممدوح الليثي، وإخراج سعيد مرزوق 1976, واشترك في الفيلم أكثر من 20 نجما في أدوار صغيرة، منهم حسين فهمي, عماد حمدي, كمال الشناوي, يوسف شعبان, عادل أدهم، سميرغانم وسهير رمزي, وتدور أحداثه حول مقتل الممثلة “سناء كامل” في منزلها خلال إحدى السهرات التي تضم مجموعة كبيرة من شخصيات المجتمع المختلفة, ليتم الكشف من خلال الأحداث عن جرائمهم في حق المجتمع, الفيلم حقق نجاحا وإيرادات كبيرة عند عرضه، وظل 18 أسبوعا، حتى جاء قرار وزير الإعلام والثقافة بوقف العرض وعدم تصديره للخارج, وكان القرار ناتجا عن العديد من الخطابات التي تلقاها مجلس الشعب من المصريين الموجودين في الدول العربية يشكون من أحداث الفيلم التي تسيء إلى سمعة مصر، من وجهة نظرهم.


فهل الجمهور مؤهل لإصدار أحكام بالمنع والمقاطعة؟، وهل أصبح صناع الفن رهينة لميول ورغبات ووصايا الجمهور والسوشيال ميديا؟.


“ فئة مندسة “
 

تقول الناقدة ماجدة موريس: “من الملاحظ تكرار الظاهرة بشكل مستمر, لكن يجب أن نضع في الاعتبار أولا, أن هذا المنع ليس رأيا أغلبيا لكل الجمهور, فمن يرفض ويصادر أحكام بالمنع والمقاطعة للأعمال الفنية هم فئة مندسة لشن هجمات ممنهجة ضد الفن, ربما جماعات متأسلمة أو غيرهم, من الممكن أن نطلق عليهم (كارهي الفن) بالرغم من حرصهم على تتبع الفنانين وأسلوب حياتهم والتربح من خلال انشاء مواقع شغلها الشاغل انتقاد الفنانين وإظهارهم بلا أخلاق، ثانيا، أول قاعدة لكي نبني عليها أراء رافضة للعمل الفني هي المشاهدة, أي مشاهدة العمل الفني قبل إصدار حكم الرفض، وبالتالي المنع, فأغلب من يصادر تلك الأحكام لم يشاهد العمل, فعلى أي أساس تم رفضه، ثالثا، وهي نقطة مهمة جدا.

 

 وتضيف، يجب أن يستوعب الجمهور مضمونها جيدا, فالفن يشبه الحياة في تعدد الأذواق ووجهات النظر, فهو يعبر عن ثقافات مختلفة، وبالتالي ليس بالضرورة أن تحظى كل الأعمال الفنية على قبول واستحسان معظم الجمهور, وملخص القضية هنا أننا كشعب عددنا زاد 4 أضعاف عن زمن الخمسينيات والستينيات عندما كانت السينما في عزها، وهذا التزايد أدى إلى وجود فروق ثقافية, فلم يعد بيننا كمصريين ذلك الإتفاق في الذوق والثقافة, فضلا عن انتشار السلفية والتطرف بين فئات معينة.. والعنصر الأهم الذي يجب الإشارة إليه هو وجود السوشيال ميديا التي تعتبر وسيلة إعلام مفتوحة لكل من هب ودب، سواء كان مؤهلا للكتابة أو غير مؤهل، وسواء كان مثقفا أو غير ذلك, فكلها عناصر ساهمت بشكل كبير في الوصول لهذا الحال، وأن نصبح بلد المليون رقيب”.


وتتابع ماجدة قائلة: “ليس كل الجمهور مؤهلا لتقييم أي عمل بشكل فني, المؤهل لذلك هو فقط الجمهور المثقف محب السينما محترف المشاهدة والقراءة, ذلك هو الجمهور المفترض أن نقف عند أرائه ونأخذها بعين الاعتبار, مع العلم أنه ليس من حق أي شخص المطالبة بمنع وحجب الأعمال الفنية، فصناع الفن ليسوا رهينة لأهواء وأراء شخصية، والفن ليس موضع للمحاكمة، إنما موضع للنقد الفني فقط, أي نقد القصة والسيناريو ومدى تماشيهم مع التتابع الطبيعي للبناء الدرامي وبناء الشخصيات وتطورهم وصولا إلى الذروة والرسائل الفنية للعمل, وهي مسألة تحتاج إلى مشاهد متمرس له حس فني وعين ناقدة حتى يتمكن من فرز الجيد من الرديء، وخير مثال على ذلك ما حدث مع مسلسل (نسل الأغراب) العام الماضي، فلم ينخدع الجمهور بالأبطال وأسماء النجوم اللامعة وعناصر الإبهار البصري, بل رفض العمل برمته، لدرجة أن الشركة المنتجة أوقفت التعامل مع المخرج وقدمت إعتذار للجمهور, فكان مثال جيدا لفكرة الرفض دون مصادرة أحكام بالمنع، وفي النهاية الجمهور أخذ حقه ونال احترامه”.


“المناعة قبل المنع”

نوه الناقد طارق الشناوى في بداية حديثة إلى تحديد الجمهور المانع وعدم استخدام كلمة الجمهور كتعبير مطلق، فليس كله رافض، وليس كله مانع, ويقول: “فكرة المنع في حد ذاتها أصبحت تنتمي للعهود القديمة, فلم يعد المنع في عصرنا هذا ممكنا، وبالتالي يبقى العرض, ودائما أقول المناعة قبل المنع, بمعنى ضرورة العمل على زيادة الوعي لدى المتلقي، وفهم ضرورة التطرق للقضايا المسكوت عنها، حتى لا تشكل له صدمة عند المشاهدة, فرؤيته للأمور لابد وأن تتغير مع التغير الثقافي, ولا أقصد تقبل كل ما هو مسكوت عنه، لكن ضرورة طرحه ومعالجته فنيا لدق ناقوس الخطر لما قد يترتب عليها”.


ويستكمل الشناوي حديثه بالقول: “منذ أكثر من نصف قرن والعالم يطبق نظرية التصنيف العمري، بمعنى أنه لا يمنع العرض، لكن يحدد الفئات المناسبة للمشاهدة، للحفاظ على القيم وعدم هدم الثوابت المجتمعية, ويتم تحديد هذا التصنيف من قبل لجنة تتشكل من خبراء في علم النفس وأساتذة علم إجتماع ومثقفين, هذا بخلاف الرقابة الموجوده لدينا, وبالمناسبة مصطلح الرقابة عفى عليه الزمن، فالتصنيف العمري هي مؤسسة لتنظيم العروض, وهو مفهوم مكنونه الأساسي العرض، وبالتالي نتفق أولا على أن الأساس هو العرض وليس المنع، ليأتي بعد ذلك الحديث عن التصنيف وتحديد الفئة العمرية المناسبة, وسبق وأن أصدر وزير الثقافة الأسبق المرحوم جابر العصفور قرار بتطبيق لائحة التصنيف العمرى عام 2015, المشكلة لم تكن في القرار، المشكلة أن الرقابة نفسها لم تتغير، فهو قرار يحتاج تطبيقة إلى أفراد مؤهلين للحكم والتصنيف لما هو فوق 16 أو 18 أو غيرها، فكلها مناطق لها مدلولات وأسس علمية لا يجوز تخطيها”.


“الفيصل والحل”

حل الأزمة والسيطرة عليها من وجهة نظر الناقد محمود قاسم تبدأ من المؤلف في المقام الأول, فهو عقل العمل الفني الذي بيده ترجمة أي قضية بشكل فني بعيدا عن الإبتذال ودون المساس بقيم المجتمع, ويقول: “للآسف هناك بعض الكتاب والمؤلفين يتعمدون طرح قضايا شائكة والتطرق إلى الممنوعات الأخلاقية التي يرفضها المجتمع الشرقي، مما يفتح الباب لفئة معينة من كارهي الفن للإصطياد في الماء العكر، وإصدار أحكام بمنع ومقاطعة العمل الفني, وهو أمر ليس من حق أي شخص, ولابد من معرفة حدود كل عنصر من عناصر عملية المشاهدة وتلقي الفن, فالجمهور من حقه أن يشاهد ويعبر عن رأيه دون أن يفرضه على غيره، فإن لم يحظى العمل الفني على قبوله، فبإمكانه الإمتناع عن المشاهدة، وفي النهاية الفيصل هنا هو جهاز تحكم التلفاز، أو تذكرة السينما, في الماضي كانت الأفلام تحتوي على مشاهد جريئة وقبلات، لكن لم نسمع وقتها مطالب من الجمهور بالمنع والإعدام كما يحدث الآن, فلابد من العمل على زيادة وعي الجمهور واتساع مدركاته حتى يستوعب قيمة ومضمون الفن، وحتى يتمكن من بناء أرائه بناءً على أسس فنية”.


ويختتم قاسم حديثه بالقول: “فكرة أن المنع أصبح هو أول طريق للتعبير عن الرفض، فهي مسألة تعود لعدة أسباب أهمها انتشار وسائل التواصل الإجتماعي, فبات الجميع نقادا, وقبل ذلك كانت أراء النقاد مقتصرة على صفحات الجرائد والمجلات، أما الآن أصبح الأمر مشاع في ظل إنعدام الصفحات النقدية، وتحول النقد إلى عملية تجارية مدفوعة الأجر من قبل المنتجين, فكثيرا من النقاد يعملون بمرتبات لدى شركات الإنتاج، وبمجرد طرح العمل الفني ينشر كتاباته النقدية المؤيدة للعمل لجذب الجمهور وحثه على المشاهدة.. نقطة أخرى مهمة في هذه المسألة وهو التيار الديني، فعندما سيطر على الأوضاع في فترة معينة بدأ بفرض ممنوعاته على الفن, وهناك دعوة للإبقاء على الرقابة ودعوة أخرى مضادة لإلغاء الرقابة، وأنا بصراحة شديدة أؤيد الدعوتين, فمع إبقاء الرقابة لأننا في النهاية مجتمع شرقي لنا أخلاقيتنا, فابقوا عليها لتكون حاجزا بين الفضيلة والرذيلة, والغوها من أجل الحفاظ على الحرية المكتسبة للفن”.