أحمد الزناتى يكتب تأملات فى أحوال السيد كا

أحوال السيد كا
أحوال السيد كا

تـأمّــلْ‭ ‬الفقرة‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬روبرتو‭ ‬كالاسو‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭:‬‮»‬تًكتب‭ ‬الرواية‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬يتحتّم‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬اكتشافه،‭ ‬وهو‭ ‬شيء‭ ‬غامض‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكاتب‭ ‬طبيعته‭ ‬ولا‭ ‬أين‭ ‬يجده،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬أنه‭ ‬شيء‭ ‬ينبغى‭ ‬العثور‭ ‬عليه‭. ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬تبدأ‭ ‬المطاردة‭ ‬و‭ ‬تبدأ‭ ‬الكتابة‮»‬‭. ‬

فى‭ ‬أواخر‭ ‬يوليو‭ ‬الماضى‭ ‬توفى‭ ‬الكاتب‭ ‬والناقد‭ ‬والناشر‭ ‬الإيطالى‭ ‬روبرتو‭ ‬كالاسو‭ ‬عن‭ ‬عمرٍ‭ ‬ناهز‭ ‬الثمانين‭ ‬سنة‭ ‬بعد‭ ‬عمرٍ‭ ‬طويل‭ ‬أمضاه‭ ‬فى‭ ‬أروقة‭ ‬عالم‭ ‬النشر‭ ‬والكتابة‭ ‬والنقد‭ ‬والتحليل‭ ‬الأدبى‭. ‬كالاسو‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬30‭ ‬مايو‭ ‬1941‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬فلورنسا‭ ‬الإيطالية‭. ‬عمل‭ ‬فى‭ ‬شركة‭ ‬النشر‭ ‬أديلفى‭ ‬إديزيونى‭ (‬Adelphi Edizioni‮ ‬‭) ‬منذ‭ ‬تأسيسها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المحرر‭ ‬والكاتب‭ ‬الإيطالى‭ ‬روبرتو‭ ‬بازلين‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1962،‭ ‬وقد‭ ‬حرّر‭ ‬كالاسو‭ ‬كتاباً‭ ‬ضخماً‭ ‬يضم‭ ‬نصوص‭ ‬بازلين،‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬ناقشتُه‭ ‬فى‭ ‬مادة‭ ‬سابقة‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬بشهرين‭.‬

ترأس‭ ‬كالاسو‭ ‬الدار‭ ‬فى‭ ‬سنة‭ ‬1999،‭ ‬وفى‭ ‬سنة‭ ‬2015‭ ‬اشترى‭ ‬الشركة‭ ‬لمنع‭ ‬الاستحواذ‭ ‬عليها‭ ‬بمعرفة‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬أكبر‭. ‬كالاسو‭ ‬موسوعة‭ ‬واقفة‭ ‬على‭ ‬قدميْن‭ ‬ومؤسسة‭ ‬أدبية‭ ‬قائمة‭ ‬برأسها،‭ ‬شخصية‭ ‬صموتة‭ ‬منصرفة‭ ‬إلى‭ ‬عملها‭ ‬بالمعنى‭ ‬الغربى‭ ‬للكلمة؛‭ ‬سِكة‭ ‬هارولد‭ ‬بلوم‭ ‬وجورج‭ ‬شتاينر‭ ‬وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بدوى‭ ‬ومحمد‭ ‬عنانى‭. ‬كان‭ ‬كالاسو‭ ‬يجيد‭ ‬الفرنسية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬والإسبانية‭ ‬والألمانية‭ ‬واللاتينية‭ ‬واليونانية‭ ‬القديمة‭. ‬كما‭ ‬درس‭ ‬السنسكريتية‭ ‬وتركزت‭ ‬أعماله‭ ‬حول‭ ‬تحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأسطورة‭ ‬وظهور‭ ‬الوعى‭ ‬الحديث،‭ ‬ونشرَ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأطروحة‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الفكرية‭ ‬ثرية‭ ‬المادة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬زواج‭ ‬كادموس‭ ‬وهارمونى،‭ ‬الأدب‭ ‬والآلهة،‭ ‬وكتاب‭ ‬الكُتب،‭ ‬وغيرها‭. ‬كما‭ ‬كتبَ‭ ‬عدداً‭ ‬ضخماً‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬التى‭ ‬ركزّت‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تناول‭ ‬الأساطير‭ ‬الهندية‭ ‬والإغريقية‭ ‬وربطها‭ ‬بمسار‭ ‬الحداثة‭ ‬الأوروبية‭. ‬أولى‭ ‬كالاسو‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬اهتمامه‭ ‬بأعمال‭ ‬فرانتس‭ ‬كافكا،‭ ‬خرجتْ‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬كتاب‭ (‬Ka‭) ‬وتُنطق‭ ‬كما‭ ‬نَنطِقُ‭ ‬أول‭ ‬حرفين‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬كـارل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الكتاب‭ ‬الذى‭ ‬سأناقشه‭ ‬فى‭ ‬السطور‭ ‬التالية‭ (‬اعتمدتُ‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬الطبعة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬Penguin Modern Classics‭ ‬السنة‭ ‬الماضية‭). ‬

للمؤلف‭ ‬كذلك‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ (‬Ka‭) ‬وهو‭ ‬دراسة‭ ‬فى‭ ‬تمثيلات‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬الهندية‭. ‬عرف‭ ‬قدماء‭ ‬المصريون‭ ‬‮«‬الكا‮»‬‭: ‬الطاقة‭ ‬النفسية‭ ‬والحيوية‭ ‬لدى‭ ‬الإله‭ ‬أو‭ ‬شرارة‭ ‬الحياة‭ ‬بحسب‭ ‬تعريف‭ ‬موسوعة‭ ‬الأساطير‭ ‬والرموز‭ ‬الفرعونية‭ (‬المركز‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة‭ ‬–‭ ‬2004،‭ ‬ص‭: ‬265‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬لـيونج‭ ‬ولع‭ ‬خاص‭ ‬بِـــ‭(‬كا‭) ‬وحاورَها‭ ‬كثيراً‭ ‬فى‭ ‬دفاتره‭ ‬السوداء‭ ‬باعتبارها‭ ‬القرين‭ ‬الروحى‭ ‬المرافق‭ ‬للإنسان‭ ‬طَوال‭ ‬حياته‭. ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬كا‮»‬‭ ‬مفردة‭ ‬سحرية،‭ ‬تضرب‭ ‬بجذورها‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬أبعد‭ ‬مما‭ ‬نظن‭. ‬

‭>>>‬

قلْبُ‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬مناقشة‭ ‬مُطوّلة‭ ‬لروايتى‭ ‬كافكا‭ ‬‮«‬Der Prozeß‮»‬،‭ ‬القضية‭ ‬فى‭ ‬ترجمة‭ ‬د‭. ‬مصطفى‭ ‬ماهر،‭ ‬والمحاكمة‭ ‬فى‭ ‬ترجمة‭ ‬وطفى،‭ ‬وإن‭ ‬كنتُ‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬عنوان‭ ‬ماهر،‭ ‬ورواية‭ ‬Das Schloss‭ ‬القصر‭ ‬أو‭ ‬القلعة‭ ‬فى‭ ‬ترجمات‭ ‬أخرى‭. ‬فى‭ ‬تحليل‭ ‬كالاسو‭ ‬تقارب‭ ‬الروايتان‭ ‬فكرة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬ما‭. ‬محور‭ ‬الروايتين‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬وقوع‭ ‬الاختيار‭ ‬على‭ ‬شخصٍ‭ ‬بعينه‮»‬،‭ ‬يصفها‭ ‬كالاسو‭ ‬بـ‮«‬Election‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬القُرعة‭ ‬السماوية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الميثولوجى‭ ‬الذى‭ ‬يطرحه‭ ‬جوزيف‭ ‬كامبل‭. ‬

بحسب‭ ‬كالاسو‭ ‬فنقطة‭ ‬الانطلاق‭ ‬دائماً‭ ‬وقوع‭ ‬الاختيار‭ ‬على‭ ‬كا‭ ‬وغموض‭ ‬اختياره‭ ‬هو‭ ‬تحديداً،‭ ‬وهو‭ ‬غموض‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬تفسيره،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬البطل‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يحاول‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مسوّغات‭ ‬لوقوع‭ ‬الاختيار‭ ‬عليه‭ ‬ويسير‭ ‬مع‭ ‬الحكاية‭ ‬حتى‭ ‬آخرها‭. ‬يأخذنا‭ ‬كالاسو‭ ‬فى‭ ‬تحليل‭ ‬مقارن‭ ‬لفصول‭ ‬الروايتيْن،‭ ‬ثم‭ ‬يمضى‭ ‬فى‭ ‬فصول‭ ‬لاحقة‭ ‬فى‭ ‬مقاربة‭ ‬نصوص‭ ‬كافكا‭ ‬الأخرى‭ ‬ويعرّج‭ ‬فى‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬اليوميات‭ ‬والرسائل‭. ‬يقرأ‭ ‬كالاسو‭ ‬نصوص‭ ‬كافكا‭ ‬بما‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوميات‭ ‬والشذرات‭ ‬قراءة‭ ‬حميمية‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬صوته‭ ‬كمؤلف‭ ‬يتبادل‭ ‬الدور‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬المؤلف،‭ ‬فلا‭ ‬تدرى‭ ‬كقاريء‭ ‬من‭ ‬الذى‭ ‬يتكلم‭ ‬كافكا‭ ‬أم‭ ‬كالاسو‭. ‬حُلم‭ ‬جوانج‭ ‬زي‭: ‬الرجل‭ ‬الذى‭ ‬يحلُم‭ ‬بأنه‭ ‬فراشة‭ ‬أم‭ ‬الفراشة‭ ‬التى‭ ‬تحُلم‭ ‬بأنها‭ ‬رجل‭.‬

من‭ ‬بين‭ ‬وصايا‭ ‬هسّه‭ ‬الخالدة‭ ‬أنه‭ ‬ينبغى‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬مما‭ ‬يقرأ‭ ‬مختارات‭ ‬تخصّه،‭ ‬فقرات‭ ‬بعينها‭ ‬رسختْ‭ ‬بذهنه‭ ‬وأثّرت‭ ‬فيه،‭ ‬وإلا‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬آلة‭ ‬كاتبة‭ ‬أو‭ ‬ببغاء‭. ‬ولكل‭ ‬قارئ‭ ‬‮«‬كافكاه‮»‬‭ ‬وتأويله‭ ‬لما‭ ‬قرأ‭. ‬عثرت‭ ‬عند‭ ‬كالاسو‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬النقاط‭ ‬الجديرة‭ ‬بالإشارة،‭ ‬لذلك‭ ‬سأتوقّف‭ ‬هنا‭ ‬عند‭ ‬رؤية‭ ‬المؤلف‭ ‬للروايتين‭ ‬المذكورتين‭ ‬سلفاً‭ ‬لظهور‭ ‬البطل‭ ‬فيهما‭ ‬باسم‭ ‬كا،‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭. ‬

فى‭ ‬تحليل‭ ‬كالاسو‭ ‬لأحوال‭ ‬البطل‭ ‬الروائى‭ ‬كا‭ ‬يلاحظُ‭ ‬كالاسو‭ ‬أن‭ ‬إدانته‭/‬ملاحقته‭ ‬دائماً‭ ‬أمر‭ ‬مؤكد،‭ ‬بينما‭ ‬اختياره‭ ‬لأداء‭ ‬المهمة‭ ‬أمر‭ ‬غير‭ ‬مؤكد‭. ‬يظهر‭ ‬مجهولان‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬يوزيف‭ ‬كا،‭ ‬يلتهمان‭ ‬فطوره،‭ ‬ثم‭ ‬يُبلغ‭ ‬فى‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده‭ ‬الثلاثين‭ ‬بأنه‭ ‬معتقل‭. ‬الادعاء‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬الحُكم‭. ‬الموضوع‭ ‬محسوم‭ ‬ولا‭ ‬حلّ‭ ‬لذلك‭. ‬أما‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬القصر‭ ‬ثمة‭ ‬شكوك‭ ‬تحوم‭ ‬حول‭ ‬حقيقة‭ ‬استدعاء‭ ‬موظف‭ ‬المساحة‭ ‬كا‭. ‬

فاكرين‭ ‬مثلاً‭ ‬غضب‭ ‬شفارتسِر‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬الرواية‭ ‬لما‭ ‬تلقّى‭ ‬اتصالاً‭ ‬من‭ ‬فريتس‭ ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬الوافد‭ ‬الغريب‭ ‬مجرد‭ ‬صعلوك‭ ‬دنيء‭ ‬كذاب،‭ ‬ثم‭ ‬رجع‭ ‬وعَدل‭ ‬عن‭ ‬كلامه‭ ‬بعد‭ ‬مكالمة‭ ‬هاتفية‭ ‬مُطولة‭ ‬من‭ ‬مدير‭ ‬المكتب‭. ‬ثمة‭ ‬شيء‭ ‬خفى‭ ‬يجرى‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الستار‭ ‬حول‭ ‬مسألة‭ ‬تعيين‭ ‬كا‭. ‬هل‭ ‬نعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬كا‭ ‬وأصله‭ ‬وفصله‭ ‬قبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬القصر؟‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭. ‬

يخبر‭ ‬مديرُ‭ ‬القرية‭ ‬المسّاح‭ ‬كا‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬قلت‭ ‬إنهم‭ ‬قبلوك‭ ‬موظفاً‭ ‬للمساحة،‭ ‬ولكننا‭ ‬للأسف‭ ‬لا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬موظف‭ ‬مساحة،‭ ‬فليس‭ ‬له‭ ‬أدنى‭ ‬عمل‭ ‬هنا‮»‬‭. ‬يقول‭ ‬كالاسو‭: ‬‮«‬إن‭ ‬القسوة‭ ‬ليست‭ ‬فى‭ ‬الجملة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬قلت‮»‬،‭ ‬تأويلى‭ ‬لاقتباس‭ ‬كالاسو‭: ‬لم‭ ‬يستعدك‭ ‬أحد‭ ‬يا‭ ‬سيد‭ ‬كا،‭ ‬وإثبات‭ ‬مبرر‭ ‬وجودك‭ ‬فى‭ ‬القصر‭ ‬مسئوليتك‭ ‬وحدك‭.‬

‭>>>‬

يرى‭ ‬كالاسو‭ ‬أن‭ ‬روايتى‭ ‬المحاكمة‭ ‬والقصر‭ ‬تدوران‭ ‬فى‭ ‬جو‭ ‬نفسى‭ ‬واحد،‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬يُطلِق‭ ‬عليه‭ ‬mundus imaginalis،‭ ‬بقليل‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬وجدت‭ ‬أنه‭ ‬مصطلح‭ ‬نحته‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسى‭ ‬والصوفى‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬هنرى‭ ‬كوربان‭ ‬لوصف‭ ‬مملكة‭ ‬الخيال‭ ‬التى‭ ‬يسبح‭ ‬فيها‭ ‬العارفون،‭ ‬وترجمته‭ (‬عالم‭ ‬المثال‭) ‬لو‭ ‬استعرنا‭ ‬تعبير‭ ‬الشيخ‭ ‬الأكبر،‭ ‬أو‭ ‬قالب‭ ‬من‭ ‬اللا‭ ‬واقع‭ ‬مضمونه‭ ‬الواقع‭ ‬بتعبير‭ ‬د‭. ‬مصطفى‭ ‬ماهر‭ ‬فى‭ ‬مقدمة‭ ‬ترجمة‭ ‬القضية‭. ‬

تحليل‭ ‬كالاسو‭ ‬للعمليْن‭ ‬مثير‭ ‬للانتباه‭. ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬بعد‭ ‬تنفيذ‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام‭ ‬فى‭ ‬يوزيف‭ ‬كا،‭ ‬يُستدعى‭ ‬المسّاح‭ ‬كا‭ ‬فى‭ ‬مهمة‭ ‬غامضة‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭. ‬يطلق‭ ‬كالاسو‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الـbardo،‭ ‬ومعناها‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬الموتى‭ ‬البوذى‭ ‬–‭ ‬بحسب‭ ‬شرح‭ ‬كالاسو‭- ‬حالة‭ ‬متداخلة‭ ‬بين‭ ‬الموت‭ ‬والبعث،‭ ‬والعبد‭ ‬لله‭ ‬يُـفـتى‭ ‬ويزعم‭ ‬أن‭ ‬مفردة‭ (‬الباردو‭) ‬غير‭ ‬بعيدة‭ ‬اشتقاقياً‭ ‬عن‭ ‬مفردة‭ (‬البرزخ‭). ‬هنا‭ ‬ألمس‭ ‬مدى‭ ‬ولع‭ ‬كالاسو‭ ‬بردّ‭ ‬أصل‭ ‬الأشياء‭ ‬إلى‭ ‬منبعها،‭ ‬كما‭ ‬أرى‭ ‬ذهنه‭ ‬المشغول‭ ‬دوماً‭ ‬بمحاولة‭ ‬ربط‭ ‬الواقعى‭ ‬بجذوره‭ ‬الميثولوجية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬برع‭ ‬فيه‭ ‬طَوال‭ ‬حياته‭. ‬استشعرتُ‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬استلهام‭ ‬فكرته‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬التناسخ‭. ‬تُبعث‭ ‬روح‭ ‬كا‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬جسد‭ ‬موظف‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬سلفِه‭ ‬موظف‭ ‬البنك‭ ‬يوزيف‭ ‬كا،‭ ‬لهذا‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬أصل‭ ‬المسّاح‭ ‬وفصله،‭ ‬وكأنها‭ ‬إحدى‭ ‬دورات‭ ‬العود‭ ‬الأبدى‭ ‬فى‭ ‬شكلها‭ ‬الكافكاوى‭. ‬

فى‭ ‬البداية‭ ‬لنتذكر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬كا‭ ‬إلى‭ ‬الرئيس‭ ‬بخصوص‭ ‬خطاب‭ ‬التعيين‭ (‬ترجمة‭ ‬د‭. ‬ماهر‭): ‬‮«‬إذا‭ ‬قبلنا‭ ‬جدلاً‭ ‬بأن‭ ‬الأحوال‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬فمعنى‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الخاطر‭ ‬الذى‭ ‬طرأ‭ ‬باستدعاء‭ ‬شخص‭ ‬للعمل‭ ‬كموظف‭ ‬مساحة‭ ‬فى‭ ‬القصر‭ ‬مجرد‭ ‬عمل‭ (‬خيالى‭ ‬ودي‭)..‬ثم‭ ‬تتابعت‭ ‬الأعمال‭ ‬فى‭ ‬الفترة‭ ‬التالية‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى؟‮»‬‭ ‬عمل‭ ‬خيالى‭ ‬ودّى،‭ ‬كلمة‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭ ‬أبداً‭. ‬

يذهب‭ ‬كالاسو‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬مثل‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬حُلم،‭ ‬لكنها‭ ‬تذكرة‭ ‬ذهاب‭ ‬فقط‭ ‬بدون‭ ‬عودة،‭ ‬والإجراءات‭ ‬الإدارية‭ ‬فى‭ ‬القضية‭ ‬والقصر‭ ‬متشابهة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الاستراتيجة‭ ‬العامة‭ ‬فى‭ ‬الحالتين‭ ‬متوافقة‭. ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬فى‭ ‬القصر‭ ‬ملاحقة‭ ‬قانونية‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬مذكرة‭ ‬دفاع‭ (‬كما‭ ‬حاول‭ ‬يوزيف‭ ‬فى‭ ‬أثناء‭ ‬ساعات‭ ‬العمل‭ ‬الرسمية‭ ‬فى‭ ‬البنك‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬يكفى‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬الحياة‭. ‬مجرد‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬هو‭ ‬الحُكم‭. ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬معناه‭ ‬غياب‭ ‬الزمن‭. ‬ألا‭ ‬تذكرنا‭ ‬أيضاً‭ ‬بكيفية‭ ‬انقضاء‭ ‬الزمن‭ ‬ومرور‭ ‬الأيام‭ ‬على‭ ‬دروجو‭ ‬فى‭ ‬صحراء‭ ‬التتار؟‭ ‬يحتدّ‭ ‬كا‭ ‬ويبرز‭ ‬خطاب‭ ‬التعيين‭ ‬الموقّع‭ ‬من‭ ‬‮«‬كْـلَمْ‮»‬،‭ ‬فيخبره‭ ‬الرئيس‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬مخاطبة‭ ‬رسمية،‭ ‬بل‭ ‬مجرد‭ ‬خطاب‭ ‬خاص‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬به‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬تؤكد‭ ‬أنه‭ ‬مقبول،‭ ‬وأن‭ ‬تفسير‭ ‬مغزى‭ ‬وجوده‭ ‬فى‭ ‬القصر‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬وحده‭. ‬

‭>>>‬

أما‭ ‬عن‭ ‬الأصالة‭ ‬الفنية‭ ‬فى‭ ‬الروايتيْن‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬ما‭ ‬يميز‭ ‬القضية‭ ‬والقصر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الروايتيْن‭ ‬من‭ ‬السطر‭ ‬الأول‭ ‬حتى‭ ‬السطر‭ ‬الأخير‭ ‬تظهران‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬عالم‭ ‬خفى‭ ‬يشكّك‭ ‬المرء‭ ‬فى‭ ‬وجوده‭. ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لرواية‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬رسمت‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الخط‭ ‬الرفيع‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع‭ ‬أو‭ ‬رسمت‭ ‬لنا‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭. ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لأحد‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬قرّب‭ ‬إلينا‭ ‬هذين‭ ‬العالمين‭ ‬بشكل‭ ‬مرعب‭ ‬بحيث‭ ‬يبدو‭ ‬أنهما‭ ‬يلمسان‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬ملامسة‭ ‬خفية‭. ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الخفى‭ ‬خيرًا‭ ‬أم‭ ‬شراً‭ ‬،‭ ‬فردوسياً‭ ‬أم‭ ‬جهنمياً‭. ‬القرينة‭ ‬المادية‭ ‬الوحيدة‭ ‬هى‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬الغامض‭ ‬الذى‭ ‬يغمرنا‭ ‬ويغلفّ‭ ‬قلوبنا،‭ ‬وحالنا‭ ‬كحال‭ ‬‮«‬كا‮»‬‭ ‬تتناوب‭ ‬علينا‭ ‬ومضات‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬واليقظة،‭ ‬فنخلط‭ ‬بينهما‭ ‬أحياناً،‭ ‬لكن‭ ‬أحداً‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سلطة‭ ‬تصحيح‭ ‬رؤيتنا‮»‬‭. ‬

فى‭ ‬فصل‭ ‬لاحق‭ ‬يقدم‭ ‬المؤلف‭ ‬تأويله‭ ‬حول‭ ‬سبب‭ ‬عدم‭ ‬مغادرة‭ ‬كا‭ ‬القصر،‭ ‬فيقول‭ ‬عن‭ ‬القصر‭ ‬إنه‭ ‬مكان‭ ‬مؤلم،‭ ‬لكنه‭ ‬المكان‭ ‬الوحيد‭ ‬الذى‭ ‬يعرف‭ ‬كافكا‭ ‬أنه‭ ‬ينتمى‭ ‬إليه‭. ‬وصل‭ ‬كا‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬الواقعة‭ ‬أسفل‭ ‬القصر،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬لاقى‭ ‬الرفض‭ ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬وتعرّض‭ ‬للمضايقة،‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬ليبقى‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬أى‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬كان‭ ‬مغلقاً‭ ‬أمام‭ ‬وجهه،‭ ‬فيكرر‭: ‬‮«‬سأبقى‭ ‬هنا‮»‬،‭ ‬ويواصل‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬ما‭ ‬كان‭ ‬لشيء‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬يأتى‭ ‬بى‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب‭ [‬يستخدم‭ ‬كالاسو‭ ‬كلمة‭ ‬The Wasteland‭] ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الرغبة‭ ‬فى‭ ‬البقاء‭ ‬هنا‮»‬‭. ‬كا‭ ‬قدّم‭ ‬المبررات‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬قطع‭ ‬رحلة‭ ‬شاقة‭ ‬طويلة‭ ‬وعثر‭ ‬على‭ ‬عروسه‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬وأنه‭ ‬لن‭ ‬يجد‭ ‬عملاً‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬القصر‭ ‬–‭ ‬وفق‭ ‬كلام‭ ‬كالاسو‭- ‬هى‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب،‭ ‬وهو‭ ‬أيضاً‭ ‬أرض‭ ‬الميعاد‭. ‬وأرض‭ ‬الميعاد‭ ‬هو‭ ‬الأرض‭ ‬الوحيدة‭ ‬التى‭ ‬يمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬كا‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬الهجرة‭ ‬منها‮»‬‭. ‬

أنفر‭ ‬شخصياً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تأويل‭ ‬لاهوتى‭. ‬التأويلات‭ ‬اللاهوتية‭ ‬حدّية،‭ ‬شارع‭ ‬ذو‭ ‬اتجاه‭ ‬واحد،‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬هسّه‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ (‬رسالة‭ ‬مؤرخة‭ ‬فى‭ ‬9‭ ‬يناير‭ ‬1956‭ ‬بترجمتي‭) ‬لما‭ ‬قال‭: ‬‮«‬بالنسبة‭ ‬إليَّ‭ ‬كقارئ‭ ‬متابع‭ ‬لأعمال‭ ‬كافكا‭ ‬منذ‭ ‬بواكيره‭ ‬الأولى‭ ‬فالأسئلة‭ ‬التى‭ ‬طرحها‭ ‬لم‭ ‬يعطِ‭ ‬عنها‭ ‬إجابة‭. ‬كان‭ ‬كافكا‭ ‬ينقل‭ ‬إلينا‭ ‬أحلامه‭ ‬ورؤاه‭ ‬حول‭ ‬حياته‭ ‬الموحشة‭ ‬القاسية،‭ ‬وكان‭ ‬يقدّم‭ ‬إلينا‭ ‬قصصاً‭ ‬شبيهة‭ ‬بمعايشاته،‭ ‬وبمنغصّات‭ ‬حياته‭ ‬ومسرّاتها‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأحلام‭ ‬والرؤى‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬ومطلوب‭ ‬منا‭ [‬كقرّاء‭] ‬قراءتها‭ ‬وقبولها‮»‬‭.‬

لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬القصر‭ ‬مجاز‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬ميعاد‭ ‬ولا‭ ‬غيره‭. ‬غموض‭ ‬معنى‭ ‬القصر‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬القصر‭. ‬طريق‭ ‬قطعه‭ ‬الكاتب‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬آخره‭. ‬تقول‭ ‬آخر‭ ‬جُملة‭ ‬فى‭ ‬مولوى‭ ‬بيكيت‭: (‬لقد‭ ‬طلب‭ ‬منى‭ ‬الصوت‭ ‬كتابة‭ ‬التقرير‭. ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬وكتبت‭. ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬وكان‭ ‬المطر‭ ‬يدقّ‭ ‬النوافذ‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الوقت‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تمطر‭). ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬تفسير‭ ‬تلبية‭ ‬كا‭ ‬لخطاب‭ ‬الاستدعاء‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭. ‬وما‭ ‬علاقة‭ ‬هذا‭ ‬بذاك؟‭ ‬هذه‭ ‬أسرار‭ ‬مدفونة‭ ‬فى‭ ‬أعماق‭ ‬كل‭ ‬كاتب‭. ‬

ينوّه‭ ‬كالاسو‭ ‬أيضاً‭ ‬بقوة‭ ‬وأصالة‭ ‬ثيمات‭ ‬الزمن‭ ‬المُعلّق‭ ‬والمكان‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬بلوغه‭ ‬أو‭ ‬المكان‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الخروج‭ ‬منه‭. ‬ذكّرنى‭ ‬كلامه‭ ‬بفقرة‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬يوميات‭ ‬القراءة‭ ‬لمانجويل‭ ‬سردَ‭ ‬فيها‭ ‬أسماء‭ ‬الأعمال‭ ‬التى‭ ‬تتناول‭ ‬ثيمة‭ ‬الزمن‭ ‬المُعلّق‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬امرأة‭ ‬فى‭ ‬الرمال‭ ‬لكوبو‭ ‬آبى،‭ ‬ونوفيلا‭ ‬ساحرة‭ ‬لأدولفو‭ ‬بيوى‭ ‬كاساريس‭ ‬دوَّختنى‭ ‬وراءها‭ ‬سنوات‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬اليمين‭ ‬الكاذبة‭ ‬للثلج‮»‬‭ ‬عثرتُ‭ ‬على‭ ‬ترجمتها‭ ‬الإنجليزية‭ ‬مؤخراً،‭ ‬وثيمة‭ ‬الأماكن‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بلوغها‭/‬مغادرتها‭ ‬مثل‭ ‬قلعة‭ ‬كافكا‭ ‬وصحراء‭ ‬التتار‭ ‬لبوتزاتى‭ ‬ومسرحية‭ ‬الأبواب‭ ‬المغلقة‭ ‬لسارتر،‭ ‬إلخ‭. ‬

نقطة‭ ‬مهمة‭ ‬جديرة‭ ‬بالإشارة‭ ‬اقتنصها‭ ‬كالاسو‭ ‬بمهارة‭ ‬وساعدتنى‭ ‬على‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬كافكا‭ ‬فهماً‭ ‬أفضل،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬تبدأ‭ ‬عملية‭ ‬الكتابة‭ ‬عند‭ ‬كافكا‭ ‬حينما‭ ‬يدخل‭ ‬فى‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬اجراءات‭ ‬المحاكمة‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬القصر،‭ ‬وهى‭ ‬علاقة‭ ‬ستكون‭ ‬دائماً‭ ‬وحرفياً،‭ ‬مثل‭ ‬قضية‭ ‬خاسرة‮»‬،‭ ‬فيقتبسُ‭ ‬جُملة‭ ‬عابرة‭ ‬لقطَها‭ ‬كالاسو‭ ‬من‭ ‬حوار‭ ‬يوزيف‭ ‬كا‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬القضية‭ ‬مع‭ ‬عمّه‭ ‬كارل‭: ‬‮«‬إن‭ ‬قضية‭ ‬كهذه‭ ‬هى‭ ‬قضية‭ ‬خاسرة‭ ‬منذ‭ ‬البداية‮»‬‭. ‬

أقول‭ ‬فى‭ ‬نفسى‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يدفع‭ ‬كافكا‭ ‬لأن‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬موهبته‭ ‬الأدبية‭ ‬تعاملاً‭ ‬أكثر‭ ‬جدية؟‭ ‬يسأل‭ ‬راينر‭ ‬شتاخ‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬كافكا‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ (‬ت‭: ‬هبة‭ ‬الله‭ ‬فتحي‭) ‬هل‭ ‬جاء‭ ‬كاتب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬يحترم‭ ‬عملية‭ ‬الكتابة‭ ‬ويحتقر‭ ‬المُنتج‭ ‬الملموس‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل؟‭ ‬ظلَّ‭ ‬ماكس‭ ‬برود‭ ‬حائراً‭ ‬فى‭ ‬تفسير‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬الغامض‭ ‬من‭ ‬صديقه‭ ‬إزاء‭ ‬نشر‭ ‬أعماله‭ ‬وتردّده‭ ‬بوصف‭ ‬موقفه‭ ‬دليلًا‭ ‬على‭ ‬العبقرية،‭ ‬أم‭ ‬ربما‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الفن،‭ ‬حالة‭ ‬مدمرة‭ (‬أو‭ ‬قضية‭ ‬خاسرة‭ ‬بتعبير‭ ‬كالاسو‭). ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يقصده‭ ‬كافكا؟‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يريده‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الكتابة‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يستهين‭ ‬بمسألة‭ ‬المُنتج‭ ‬المطبوع؟‭ ‬التأويلات‭ ‬مختلفة،‭ ‬لكن‭ ‬السرّ‭ ‬وحده‭ ‬عند‭ ‬البطل‭ ‬المتكتّم‭. ‬بورخيس‭ ‬قال‭ ‬مرة‭ ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬مترجَم‭ ‬إن‭ ‬كافكا‭ ‬كان‭ ‬يفتش‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يوضّح‭ ‬المزيد‭. ‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬ملاحظة‭ ‬شتاخ‭ ‬السابقة‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬أثارها‭ ‬رونالد‭ ‬جراى‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا‭ (‬المشروع‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة‭ ‬ت‭: ‬نسيم‭ ‬مجلى،‭ ‬2000‭)‬؛‭ ‬أقصد‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬شك‭ ‬أهل‭ ‬القصر‭ ‬فى‭ ‬تعيين‭ ‬المسّاح‭ ‬كا‭ ‬عند‭ ‬وصوله‭ ‬يعكس‭ ‬شكّ‭ ‬كافكا‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬موهبته‭ ‬وقيمته‭ ‬ككاتب‭. ‬فكلمة‭ ‬Surveyor‭ = ‬مسّاح‭ ‬استعارة‭ ‬ليست‭ ‬سيئة‭ ‬الدلالة‭ ‬على‭ ‬روائي‭= ‬Novelist،‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬المسّاح‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬دليلاً‭ ‬واحداً‭ ‬على‭ ‬كفاءته‭ ‬الوظيفية‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬كافكا‭ ‬أمارة‭ ‬على‭ ‬جدارته‭ ‬ككاتب‭ ‬فأحرق‭ ‬أعماله‭ ‬تشكيكاً‭ ‬فى‭ ‬جدواها‭ ‬وإنكاراً‭ ‬لقيمتها‭ (‬ص‭ ‬181‭). ‬

‭>>>‬

قرأتُ‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬قصة‭ ‬لكاتب‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أذكر‭ ‬اسمه‭ ‬عن‭ ‬محامٍ‭ ‬يعمل‭ ‬فى‭ ‬مؤسسة‭ ‬كبرى‭ ‬كُلّفَ‭ ‬بمتابعة‭ ‬ملف‭ ‬قضية‭ ‬والعثور‭ ‬على‭ ‬ثغرة‭ ‬لإبراء‭ ‬موكّله‭ ‬وكتابة‭ ‬مذكرة‭ ‬الدفاع‭ ‬عنه‭. ‬كانت‭ ‬مستندات‭ ‬القضية‭ ‬مكتوبة‭ ‬بلغات‭ ‬غريبة،‭ ‬ولأن‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬عاطفى‭ ‬متحمّس،‭ ‬اشترى‭ ‬قواميس‭ ‬كثيرة‭ ‬وانشغل‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬بترجمة‭ ‬ملف‭ ‬القضية،‭ ‬ثم‭ ‬انغمس‭ ‬سنوات‭ ‬أخرى‭ ‬فى‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬ملف‭ ‬القضية‭ ‬ولم‭ ‬يفهم‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭. ‬كانت‭ ‬القرائن‭ ‬والأدلة‭ ‬ضد‭ ‬المدعى‭ ‬عليه‭ ‬غير‭ ‬كافية،‭ ‬لكنها‭ ‬أيضاً‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تبرئ‭ ‬ساحته‭ ‬تماماً‭. ‬فى‭ ‬القصة‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬القضية‭ ‬منظورة‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬ابتدائية،‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬أمامها‭ ‬الاستئناف‭ ‬ثم‭ ‬النقض‭ ‬ثم‭ ‬إدارة‭ ‬تنفيذ‭ ‬الأحكام،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬يردّ‭ ‬مجهول‭ ‬هيئة‭ ‬المحكمة‭ ‬لاستشعار‭ ‬الحرج‭. ‬من‭ ‬واقع‭ ‬خبرته‭ ‬يستمر‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬طويلة‭ ‬جداً‭. ‬لكن‭ ‬عليه‭ ‬مواصلة‭ ‬كتابة‭ ‬التقرير‭ ‬والاستمرار‭ ‬فى‭ ‬فحص‭ ‬أوراق‭ ‬القضية،‭ ‬فإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فى‭ ‬المكتب،‭ ‬ففى‭ ‬المنزل‭ ‬ليلاً،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فى‭ ‬المنزل‭ ‬فعليه‭ ‬القيام‭ ‬بإجازة،‭ ‬المهمّ‭ ‬ألا‭ ‬يتوقّف،‭ ‬فما‭ ‬ينبغى‭ ‬للمرء‭ ‬الوقوف‭ ‬فى‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭. ‬يعى‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬أنّ‭ ‬كتابة‭ ‬التقرير‭ ‬عمل‭ ‬شاق،‭ ‬لأنها‭ ‬تستلزم‭ ‬التفتيش‭ ‬فى‭ ‬تفاصيل‭ ‬معينة‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬موكّله،‭ ‬لكن‭ ‬أحدًا‭ ‬غيره‭ ‬لن‭ ‬يمكنه‭ ‬كتابة‭ ‬التقرير‭.‬

فى‭ ‬الأرجح‭ ‬كان‭ ‬الاستدعاء‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬حيلة‭ ‬روائية‭ ‬مُدبّرة‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬حتماً‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬القصر‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬كافكا‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬أعمالاً‭ ‬غير‭ ‬مكتملة‭. ‬أفكّر‭ ‬أن‭ ‬اكتمال‭ ‬رواياتٍ‭ ‬بعينها‭ ‬كان‭ ‬سيقضى‭ ‬عليها،‭ ‬كان‭ ‬سيحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬روايات‭ ‬عظيمة،‭ ‬لكن‭ ‬منها‭ ‬كثير‭ ‬فى‭ ‬السوق‭. ‬هناك‭ ‬أشياء‭ ‬مكتوب‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تظلّ‭ ‬مُعلقة‭ ‬أبد‭ ‬الدهر،‭ ‬ألا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬النهاية،‭ ‬لأنها‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُحكى‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهى‭ ‬أشياء‭ ‬تحاول‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬تحدث،‭ ‬أن‭ ‬تلامس‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬بأطراف‭ ‬الأصابع‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬المثال‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬كا‭ ‬أذكى‭ ‬من‭ ‬كابتن‭ ‬دروجو‭ ‬فى‭ ‬صحراء‭ ‬التتار‭. ‬قرب‭ ‬النهاية‭ ‬يقترح‭ ‬القائد‭ ‬سيمونى‭ ‬على‭ ‬البطل‭ ‬دروجو‭ ‬القيام‭ ‬بإجازة‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬المتواصل‭ ‬وترقيته‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬النائب‭ ‬الأول‭ ‬فيقول‭ ‬له‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬تأخذ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الجد‭ ‬يا‭ ‬دروجو‮»‬‭. ‬لكن‭ ‬دروجو‭ ‬يرفض،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬مؤمناً‭ ‬بالقلعة،‭ ‬يدافع‭ ‬عنها‭ ‬ويشدّ‭ ‬من‭ ‬أزرها،‭ ‬وكأنها‭ ‬تحتاجه‭ ‬كما‭ ‬يحتاجها‭. ‬فى‭ ‬السطر‭ ‬الأخير‭ ‬يغادر‭ ‬دروجو‭ ‬القلعة‭ ‬ويتهيأ‭ ‬للموت‭. ‬يبتسم‭ ‬وهو‭ ‬يرتب‭ ‬بيده‭ ‬ياقة‭ ‬البذلة‭. ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يموت‭ ‬البطل‭ ‬وفى‭ ‬نفسه‭ ‬حنين‭ ‬إلى‭ ‬القلعة‭.‬