صفقات نجيب محفوظ .. أهم ترند ثقافى لعام 2021

عماد العادلى:  ظاهرة إيجابية بدلًا من الصراع حول الأكثر مبيعًا
عماد العادلى: ظاهرة إيجابية بدلًا من الصراع حول الأكثر مبيعًا

كتبت : عائشة المراغى

 قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا، وقّع نجيب محفوظ عقدًا مع دار الشروق يمنحها بموجبه حقوق نشر أعماله، بعد سنوات طويلة ارتبط اسمه خلالها بمكتبة مصر. حينها تناولت الصحف وقائع أزمة نشبت بين ناشرى أديب نوبل؛ بدأت بخطاب أرسله محفوظ إلى السحار يطلب فيه أن تتوقف المكتبة عن طبع أعماله وأن تتخلص من مطبوعاته منها خلال ستة شهور من تاريخه، وقد علم المسئولون فى دار الشروق برغبة نجيب محفوظ فى وقف تعامله مع مكتبة مصر،

فقرروا التعاقد معه على شراء حقوق طبع جميع رواياته، مما أغضب آل السحار الذين كانوا قد بدأوا بالفعل حملة إعلان عن طباعة روايات نجيب محفوظ فى شكل كتاب «الجيب»، لا يتجاوز سعرها جنيهين للنسخة الواحدة، وتكلفت الحملة الكثير، فضلًا عن تكلفة طبع الروايات فى شكلها الجديد، ما دعا المسئولين عن مكتبة مصر إلى إغراق الأسواق بالروايات حتى يستطيعوا – حسب ما قاله أمير السحار فى حينه – تحصيل المبالغ التى أنفقوها فى الحملة وحتى لا تكون خسائرهم سببًا فى إعاقة نشاط المكتبة مستقبلًا، فقامت دار الشروق بعمل محضر بالواقعة حتى تحافظ على حقوقها، وقال مدير النشر فى الدار حينها إن تصرف مكتبة مصر كان التفافًا على خطاب محفوظ الرقيق، حاولوا به أن يحققوا أكبر مكاسب قبل فسخ التعاقد معه.


تعيد الأحداث نفسها بعد سنوات من رحيل محفوظ، وخلال الاحتفال بذكرى ميلاده الـ 110، قررت ابنته «أم كلثوم» أن تنهى التعاقد مع دار الشروق وتنذرهم بذلك قبل ستة شهور من انتهائه، وأعلنت مكتبة ديوان -مؤخرًا- حصولها على حقوق نشر الأعمال الكاملة للأديب العالمى نجيب محفوظ، لمدة 15 عامًا تبدأ مايو القادم، مع إعادة إحياء تراث محفوظ وتقديم أعماله المنقحة والمراجعة بأحدث تقنيات النشر الورقى والرقمى والصوتى، والعمل على تمديد أثره الفكرى وحفظ إرثه الأدبى الفريد. وردًا على ذلك أصدرت دار الشروق طبعة جديدة من أعمال محفوظ الكاملة فى عشرة مجلدات، بأغلفة جديدة من تصميم الفنان أحمد اللباد.


لا فرق بين اليوم والبارحة؛ نفس الوقائع والنتائج. ما زاد اليوم فقط هو تطور الزمن واختلاف تكنولوجيا العصر وظواهره، التى جعلت من الواقعة «ترند» على مواقع التواصل الاجتماعى، فانتشرت بشكل أكبر وأسرع، وأثارت عديدًا من المناقشات، تشير فى النهاية إلى أن سوق النشر فى مصر يتغير، وأن ثمة ملامح جديدة بدأت فى التشكل.


يرى الكاتب عماد العادلى، مدير التحرير الأدبى بمركز الهالة الثقافى، أن ما حدث ظاهرة صحية، فالمنافسة على اسم أديب نوبل منطقية لأنه أهم كاتب فى الأدب العربى المعاصر، وربما فى الأدب العربى خلال مدة طويلة جدًا، ولذلك فالطرف المنتصر فى المنافسة لن يخسر شيئًا، يكفى أنهم ربحوا اسم نجيب محفوظ، فالأمر ليس ربحًا ماديًا فقط بقدر ما هو أدبى وتسويقى. مضيفًا: «أعتقد أنها ظاهرة وحيدة وفريدة فى سوق النشر الذى تشوبه حاليًا كثير من الظواهر غير الإيجابية، فالكثير من دور النشر تحولت إلى منصات نشر شخصية، غير مسئولة عن المحتوى، وإنما وسيط لا أكثر، غير معنية بالمادة أو قيمتها. لكن ذلك لا يمنع أن هناك ظواهر إيجابية، أبرزها المنافسة على اسم كبير مثل نجيب محفوظ؛ منافسة شريفة جدًا ومعلنة

 

والطبعة الأخيرة لدار الشروق لها كامل الحق فيها، وحتى اليوم الأخير لعقدها. فما يقال حاليًا قيل عندما حصلت الشروق على حقوق طباعة أعمال محفوظ من مكتبة مصر، إلا أنها كانت تجربة ناجحة جدًا وأحدثت طفرة. وأتصور أن حصول مؤسسة هنداوى على حقوق النشر الإلكترونى على منصتها سيحدث طفرة كبيرة جدًا كذلك، دون أن يؤثر ذلك على الطبعة الورقية، فمازال للكتاب الورقى جمهوره، ومازال نجيب محفوظ مقروءًا بشكل قوى حتى الآن، وسيبقى أهم اسم يمكن أن تحصل عليه دار نشر».


يستكمل العادلى: «المنافسات الضخمة والصراع الحميد ظاهرة جيدة لو قلدتها دور النشر وانتبه الناشرون إلى أن هناك أشياء مهمة يمكن التنافس حولها بدلًا من الصراع حول الأكثر مبيعًا، من الجيد أن نلتفت إلى الكنوز التى نملكها. لذا أعتقد أن الأمر يمكن أن يتكرر مع كتاب آخرين ولكن على مستوى أقل بعض الشىء؛ ربما مع يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وغيرهما، بغض النظر عن الناشر.

 

فى النهاية القارئ هو المستفيد، بأن يحصل على الكتب بطريقة شرعية، وهذا شىء مهم جدًا للقارئ الحقيقى الذى يستاء من ارتكاب ذنب تحميل الكتب pdf إن لم تسمح ظروفه».

 

ويخلص العادلى مما سبق إلى أن «الانتقاء والتصفية» هما أهم الملامح التى يمكن أن تضاف لسوق النشر خلال الفترة القادمة، لأن الظواهر السلبية لا تستمر كثيرًا، ولو استمرت تغطى عليها الظواهر الإيجابية، إذ يقول: «أعتقد أن دور نشر «بير السلم» التى لا تراعى القيمة فى طريقها إلى زوال. نحتاج فقط نظرة رضا من الكيانات الرسمية المعنية لمواجهة ظاهرة التزوير المزعجة وقد تأتى على الصناعة بأكملها».


يتفق وائل المُلا، مدير دار العربية للنشر، مع رأى العادلى، فى أن نجيب محفوظ واحد من أهم خمسة حصلوا على نوبل، وبالتالى أيا كان الرقم المدفوع لأعماله الكاملة فهو عن استحقاق، خاصة أن ديوان ناشر جديد، بعيدًا عن كونها مكتبة مهمة ومميزة، وليس هناك أقوى من أن تقدم نفسها كناشر لنجيب محفوظ، هكذا تختصر سنوات عديدة من العمل وتبرز نفسها بشكل قوى. يضيف: «هذه المعايير معمول بها فى العالم بشكل عام، حتى فى مصر عندما يسعى الناشر للحصول على حقوق النشر لكاتب أجنبى يكون المبلغ كبيرًا فى مقابل كتاب واحد، حسب حجم وأهمية الكاتب، وبتطبيق ذلك هنا سنجد أنه لا يوجد فى مصر والعالم العربى أهم من نجيب محفوظ، ولو قسمنا المقابل المدفوع عن مجمل أعماله على عدد الكتب لن يكون مقابل كل كتاب مبلغًا ضخمًا. وإلى جانب القيمة الاقتصادية توجد القيمة الأدبية والتسويقية

 

فالاسم وحده له سعر، ولذلك الأسماء المعروفة والأكثر مبيعًا فى عالمنا العربى يحصلون على مبالغ كبيرة، لأنهم يحققون مكاسب. كما أن سوق النشر متجدد، فالقراء يتغيرون دائمًا وتولد أجيال جديدة، وأى قسم عربى فى أى مكتبة لابد أن يتضمن مؤلفات نجيب محفوظ، إلى جانب غيره». 


وفى نهاية حديثه يشير المُلا إلى أن أبرز ملمح مستجد لسوق النشر هو أننا نقترب من السوق العالمى بعض الشىء، وبناء عليه ستكون لدينا معاملة عادلة ومستحقة للكتاب الجيدين، لأن هناك كتّاب عملهم الوحيد هو الكتابة.


أما شريف بكر، مدير دار العربى، فيتوقع أن يترتب على هذا الأمر الكثير من التغيرات فى سوق النشر، موضحًا: «نجيب محفوظ اسم كبير بالطبع وشرف لمن ينشر له، لكن فى الوقت نفسه هناك كتاب يبيعون أكثر منه وبشكل منتظم، وبالتالى يحققون مكاسب أكبر لدور النشر، الآن سيطالبون بأموال أكثر، ليس مقارنة بأدب نجيب محفوظ وإنما بالمبيعات، وطالما أن السوق به أموال ستبدأ حركة انتقالات أشبه بما يحدث فى سوق كرة القدم بعد مرحلة الاحتراف».


ويضيف: «المعتاد بالخارج أن تفتتح دار نشر مكتبة، وعندما يحدث العكس تفعل المكتبة ذلك بالشراكة مع دار نشر لها خبرة فى السوق، لكن ما قامت به مكتبة ديوان تجربة جديدة. وبالنسبة لى؛ ضخ أى دماء جديدة شىء إيجابى وجيّد. أما نجيب محفوظ؛ فأتوقع أن العمل خلال الفترة القادمة سيكون مرتكزًا بشكل أكبر على النشر الصوتى والدراما». 


تتفق نورا رشاد، مدير النشر بالدار المصرية اللبنانية، مع الناشر وائل المُلا بأن هناك كتّاب يعيشون من عوائد كتبهم، لكنهم ليسوا كثيرين، إلا أن الاختلاف بين المعتاد فى التعامل معهم وبين ما حدث مع أعمال محفوظ، أن التعاقد تم مقدمًا، وهو يعود بالطبع إلى أن نجيب محفوظ ظاهرة استثنائية والكاتب العربى الوحيد الحاصل على نوبل، وبالتالى لن يتكرر ذلك بنفس الشكل مع أسماء أخرى. ولكن: «مكتبة ديوان مميزة جدًا وأنا على ثقة أنهم سيقدمون الأعمال بشكل متميز.

 

إلا أننى بشكل شخصى؛ كنت أفضّل أن ينتهى تعاقد نجيب محفوظ أولًا قبل الإعلان عن أى شىء، مثلما حدث معنا عند التعاقد على أعمال إحسان عبد القدوس، إذ تم ذلك بعدما انتهت علاقته مع الأخبار».


وعن فكرة انتقال حقوق الكاتب بين أكثر من دار، تقول: «من الأفضل أن يتواجد المؤلف فى دار نشر واحدة، ويرتبط اسميهما معًا، فهذا المعمول به فى الخارج، لأن التنقلات الكثيرة ليست جيدة للكاتب، لكنه إذا لم يجد راحته فى الدار من حقه الانتقال لدار أخرى بالطبع. وفى النهاية الأمر كله يتوقف على الكاتب ومدى ولاءه للدار لا الناشر، فأنا ضد فكرة عقود الاحتكار، لأنها مضرة للطرفين».


بينما تسيطر على الناشر سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، حالة من الاندهاش تثير لديه العديد من التساؤلات، إذ يقول: «مع العدد الهائل الموجود من دور النشر، والكبير منها بصفة خاصة، ممن يسارعون لاقتناء والاستحواذ على بعض المؤلفات التى يرون أن من شأنها الإضافة لرصيدهم، طبيعى أن يحدث ذلك، وخصوصًا حينما يكون الاسم هو نجيب محفوظ. لكن المنافسة أفرزت شيئًا جديدًا على سوق النشر لدينا، وهى المبالغ الضخمة جدًا التى بدأت تظهر لشراء حقوق مثل هؤلاء الأعلام الكبار، بالتأكيد الدور لديها دراسة تقول إن ذلك سيعود عليهم بالربح إلى جانب الأثر الأدبى، إلا أن ما يثير الدهشة والتعجب أن هناك دارًا اشترت حقوق النشر الإلكترونى بملايين لإتاحته مجانًا على الإنترنت، ما العائد عليها من ذلك؟! خاصة أن الكثير من هذه المؤلفات الجارى التنافس عليها ستدخل قريبًا جدًا فى الملكية العامة. والمفترض أن النشر الرقمى يكون مصاحبًا للورقى، لا ينفصلان، أما تلك فظاهرة جديدة تستحق الدراسة، سوق النشر فى مصر يتغير بشكل سريع جدًا، ونحن فى حالة ترقب ورؤية؛ هل هذا الاستحواذ على كبار المؤلفين وراءه شىء؟!».


ويضيف: «لابد من تغيير قانون الملكية الفكرية الذى مازال ينص على 50 سنة، وإعطاء مصر الفرصة للاستفادة من هذا الإبداع داخلها بدلًا من ذهابه للخارج. الكثير من الدول العربية غيّرت القانون وجعلت الملكية الفكرية 70 عامًا، وفى أمريكا تعدل القانون وأصبح 120 سنة للحفاظ على علامات مثل ديزنى ومحتواها، أما نحن فمازلنا أسرى الـ50 سنة».


وتعليقًا على بيان مكتبة ديوان الذى أشار إلى تنقيح أعمال محفوظ، يقول: «هل من حق الناشر أن يغيّر فى نص المؤلف وإبداعه بعد سنوات طويلة أصبح خلالها ملء السمع والبصر وقرأه الجميع حول العالم؟ لم نسمع بأمر التنقيح هذا من قبل. ليس من حق أحد ولا حتى الورثة، فالعمل الأدبى لابد أن يقدم كما هو. هذه الكتب تم طبعها عشرات المرات، والتنقيح بمثابة انتقاص من النص وتغيير فيه. وأنا أذكر أن أحد المؤلفين الكبار ترك دار نشره بسبب أمر كهذا، لأن هذه أبسط حقوق المؤلف الذى يقدّر عمله ويحترمه».


وبالتواصل مع «ديوان» لتوضيح ما ورد بالبيان، قال الكاتب أحمد القرملاوى، مدير النشر بالدار، إن    «ديوان» تعى مسؤوليتها تجاه نشر أعمال محفوظ، وأهمية التأكد من اكتمال النصوص ومطابقتها لما خطَّه الأديب العالمى بخط يده، خاصة وأن العديد من الباحثين والمتخصصين أشاروا لبعض الاختلافات فيما بين الطبعات المختلفة لمؤلفات محفوظ، والتى نُشِرت على امتداد ستين عامًا أو يزيد، بعضها فى المجلات والصحف فى صورة قصص أو فصول مسلسلة وأكثرها فى طبعات مكتبة مصر ودار الشروق، بجانب الطبعات البيروتية.

 

كما كتب العديد من أصحاب الأقلام فى الصحف المصرية إبان عقد التسعينيات عن الحذف والتبديل الذى طال أعمال أدباء فى حجم محفوظ وإدريس وعبد القدوس بعد انتهاء المقاطعة العربية، لأجل طرح هذه الأعمال فى الأسواق العربية الأكثر تحفُّظًا آنذاك، حتى الطبعة البيروتية لرواية أولاد حارتنا – إحدى أشهر وأهم أعمال محفوظ - يُشار لكونها لم تحوِ العديد من المقاطع التى سبق وأن نُشِرَت فى جريدة الأهرام فى فصول مسلسلة، وقد قامت دار الشروق مشكورة بإعادة هذه المقاطع المحذوفة ونشر الرواية مكتملة كما صدرت فى الأهرام بدءًا من طبعتها التاسعة، وفق ما أورده الكاتب والناقد محمد شعير فى كتابة الهام عن هذه الرواية، ما يؤكد دور الناشر المستنير الذى يقوم بمسؤولياته تجاه العمل المكلَّف بنشره مكتملًا غير منقوص، فلماذا لا تقوم ديوان بمسؤولياتها بالمثل؟


وأضاف القرملاوى: «الأمر ينطبق كذلك على «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة»، حيث يُشار لبعض الاختلافات بين النصوص المنشورة فى الأهرام ومكتبة مصر والشروق وكذلك الترجمة الصادرة عن الجامعة الأمريكية، بعضها اختلافات تغيِّر المعنى على نحو لافت، وقد صرّح الأستاذ أحمد بدير مدير عام النشر بدار الشروق عن اعتزام الدار إصدار طبعة جديدة من «أصداء السيرة الذاتية»

 

تتلافى أخطاء الطبعات السابقة وتقدِّمها للقارئ مكتملة كما كتبها أديب نوبل بعد مراجعتها على المخطوط الأصلى وهذا التصريح الهام يُبرز مسؤولية الناشر الأمين على النص المكلَّف بنشره، لذا نعتزم أن تستكمل ديوان هذا الجهد لخروج الأعمال مكتملة ومدققة».

 

أقرا ايضا | أحمد عبد اللطيف يكتب الترند: إعلام بديل