ننشر نص خطبة قرنح أثناء تسلم نوبل للآداب

ننشر في خطبة قرذح اثناء تسلم نوبل للأداب
ننشر في خطبة قرذح اثناء تسلم نوبل للأداب

الكتابة
لطالما أسعدتنى الكتابة. حتى عندما كنتُ طفلاً فى المدرسة، كنت أنتظر الحصة المخصصة لكتابة قصة أو ما يرى مدرسونا أنه سيثير اهتمامنا، أكثر من أى حصة أخرى فى جدولنا اليومي. كنا نجلس فى صمت، متكئين على مكاتبنا لاستدعاء ما يستحق الكتابة من الذاكرة أو الخيال. مع تلك المحاولات الأولى، لم تكن لدى رغبة فى قول شيء ما على وجه الخصوص، أو استدعاء تجربة لا تُنسى، أو التعبير عن رأى راسخ أو الشكوى. كما أن تلك المحاولات لم يكن يقرأها سوى المعلم الذى فرضها كتمرين لتحسين مهاراتنا الخطابية. كتبتُ حينها لأننى تلقيت تعليمات بالكتابة، ولأنى وجدتُ متعتى فى ذلك التمرين.

بعد سنوات، حين صرتُ مُدرسًا، حظيتُ بالتجربة ذاتها بشكل عكسي. كنتُ أجلسُ فى فصلٍ هادئ أثناء انغماس التلاميذ فى إنهاء التمرين. استدعى هذا فى ذهنى قصيدة لديفيد هربرت لورانس، بعنوان أفضل ما فى المدرسة، سأقتبس الآن بعض أبياتها:
أجلس على جانب الفصل، وحيدًا
أراقبُ التلاميذ فى قِمصانهم الصيفية
وقد انكفأت رؤوسهم المكورة؛
واحداً واحداً، يرفعُ كلٌ منهم وجهه
ليلتفت نحوي،
يتأمل بهدوء،
يُبصِرُ، ولا يرى.
ثم ينكفئُ من جديد، جّذِلًا، 
ينصرف عنى لينكبَّ على عمله،
وقد وجد بُغيتَه، وأصاب ما كان ينتظره ليصيبه.


درس الكتابة الذى أتحدث عنه، والمذكور فى هذه القصيدة، لم يتناول الكتابة كما تبدَّت لى لاحقًا. لم تكن محكومة بدافع أو مُوجهة، لم يُعَد صياغتها وتحريرها مِرارًا وإلى ما لا نهاية. فى تلك المحاولات الأولى، كتبتُ بحرية، إن جاز التعبير، دون تردُد أو تصحيح، بهذه البراءة. قرأتُ أيضًا بنوعٍ من الانطلاق، وبالمثل دون أى توجيه. لم أكن أعرف حينها ما بين الأمرين من ارتباطٍ وثيق. أحيانًا، عندما لم أكن مضطرًا للاستيقاظ مبكرًا للذهاب إلى المدرسة، كنت أقرأ لوقت متأخر جدًا من الليل حتى يأتى والدي، الذى كان يعانى من الأرق

ويطلب منى إطفاء النور. لا يمكنك أن تعترض بأنه لا يزال مستيقظًا ولماذا لا تكونَ كذلك، حتى لو تجرأت، لأن هذه ليست طريقة لائقة لتخاطب بها والدك. كان يصارع أرقه فى الظلام، مع الحرص على إطفاء النور كى لا يُزعج أمي، لذا فتعليمات إطفاء النور كانت ستظل قائمة على أى حال.


صارت قراءتى وكتابتى منهجيتين لاحقًا، مقارنةً بتجربة الصِبى العشوائية، لكن متعتهما لم تنتهيا، ولم أجد أبدًا صعوبة فى ممارستهما. تحول الأمر تدريجيًا إلى نوعٍ مختلف من المتعة. لكنى لم أدرك ذلك تمامًا إلا بعد انتقالى للعيش فى انجلترا. مع اشتياقى للوطن

ومعاناتى كمُغترب، بدأتُ أتأمل الكثير مما لم أفكر فيه من قبل. خرجَت الكتابة من قلب تلك الفترة الطويلة من العُزلة والحاجة، نوعًا مختلفًا من الكتابة. صار واضحًا لى أن هناك ما يجب عليَّ قوله، وأن لدى مهمة لابد أن أنهيها، حسرات ومظالم لابد أن أستدعيها وأتأملها.


أول الأمر، تأملتُ ما تركته ورائى فى مغامرة رحيلى عن وطني. ضربت فوضى بالغة حياتنا فى منتصف الستينيات، الفترة التى اختلط حقها بباطلها بسبب الأعمال الوحشية التى صاحبت التغييرات التى أحدثتها ثورة عام ١٩٦٤: الاعتقالات والإعدامات والطرد، والإهانات والقمع اللانهائي. فى خضم هذه الأحداث، ومع حداثة سني، كان من الصعب عليَّ تأمل الآثار التاريخية والمستقبلية لما يحدث. 


لم أستطع التفكير فى تلك القضايا، والتركيز على قبح ما كنا قادرين على إلحاقه ببعضنا البعض، وإعادة النظر فى الأكاذيب والأوهام التى أرحنا أنفسنا بها، إلا خلال سنواتى الأولى فى إنجلترا. كان تاريخنا مجتزأً ومتحيزًا وصامتًا عن العديد من الأعمال الوحشية. كانت سياسات دولتنا عنصرية، وأدت إلى الاضطهاد الذى أعقب الثورة، فذُبح الآباء أمام أبنائهم، وتعرضت البنات للاعتداء أمام أمهاتهن. فى إنجلترا، حين صرتُ بعيدًا عن الأحداث بينما ظل عقلى مهمومًا بها، ربما زادت حساسيَتى تجاه مثل تلك الذكريات أكثر مما لو كنت بين من ظلوا هناك، يُعايشون عواقبها. انشغلتُ أيضًا بذكرياتٍ أخرى لا علاقة لها بالأحداث العامة: القسوة التى يمارسها الاباء على أبنائهم،

وكيف يُحرم البعض من التعبير عن آرائهم بالكامل بسبب التعاليم المجتمعية أو النوع الاجتماعي، التفرقة التى تتسامح مع الفقر والتبعية. هذه أمور تحدث للبشرية أجمع، ليست مقتصرة علينا، لكن ذهنك لا يستدعيها بوضوح إلا حين تجعلك الظروف واعيًا لها. أظن أن هذا أحد الأعباء التى يحملها مَن فروا مِن صدمة ووجدوا أنفسهم يعيشون بأمان بعيدًا عن مصدرها. فى النهاية بدأتُ كتابة بعض هذه التأملات، لا بطريقة مُمنهجة أو منظمة، كتبتُ لفك بعض الالتباسات وتوضيح بعض الشكوك فى ذهنى فحسب.


بمرور الوقت، صار واضحًا أن أمرًا مقلقًا للغاية يحدث. كان تاريخًا سطحيًا يُصاغ، يُبَدِل، بل ويطمِس، ما وقع من أحداث، ويعيد صياغتها لتناسب واقع اللحظة. ذلك التاريخ الجديد والسطحى لم تكن كتابته حصرية على المنتصرين، من يحملون دومًا امتيازًا يتيح لهم بناء سردياتهم الخاصة، بل ناسَبَ أيضًا المحللين والباحثين وحتى الكُتاب ممن لا يهتمون لأمرنا اهتمامًا حقيقيًا، أو يروننا داخل إطار بعينه يناسب رؤيتهم للعالم، ممن فرضوا سردًا مُدَجنًا لعملية التحرير العرقى والنهضة.


صار ضروريًا رفض تاريخ كهذا، يتجاهل الأشياء الملموسة التى تشهد على عصر سابق، والمبانى والإنجازات والمرونة التى جعلت الحياة ممكنة.

بعد سنوات عديدة، سِرتُ فى شوارع البلدة التى نشأت فيها وشاهدت تدهور الأشياء والأماكن والبشر.

 

ورأيتُ العجائز ممن يعيشون على الكفاف ويخشون فقط فقدان ذاكرة الماضي. صار من الضرورى بذل جهد للحفاظ على تلك الذاكرة، والكتابة عما كان موجودًا، واستعادة اللحظات والقصص التى عاشها الناس وفهموا أنفسهم من خلالها. صارت الكتابة عن الاضطهاد والقسوة، التى سعى حكامنا لمحوها من ذاكرتنا إرضاءًا لذواتهم، ضرورةً مُلِحة.

اكتشفتُ أيضًا فهمًا آخرَ للتاريخ من الضرورى معالجته، فِهمًا رأيته بصورة أوضح حين عشتُ بالقرب من مصدره فى انجلترا، أوضح مما كان عليه أثناء دراستى فى نظام تعليمى متأثرًا بالاستعمار فى زنجبار. كنا، أبناء جيلي، أبناءً للاستعمار بصورةٍ لم يكن عليها آباؤنا ولا مَن جاءوا بعدنا، أو على الأقل بطرقٍ مختلفة. لا أعنى بذلك أننا انصرفنا عن الأشياء التى قدّرها آباؤنا أو أن مَن جاءوا بعدنا قد تحرروا تمامًا من تأثير الاستعمار. أعنى أننا نشأنا وتعلمنا فى عصرٍ تمتعت خلاله الإمبراطورية بثقةٍ عالية، على الأقل فى منطقتنا، حيث أخفَت الهيمنة حقيقتها وتغلفت بعبارات مُلطفة.

وانطلت علينا الحيلة. أشيرُ هنا إلى الفترة التى سبقت قيام حملات إنهاء الاستعمار فى المنطقة بتحركاتٍ واثقة ولفت انتباهنا إلى جرائم ونهب الحكم الاستعماري. أما من جاءوا بعدنا فقد شغلتهم خيبات ما بعد الاستعمار وأوهامهم الذاتية،

وربما لم يروا بوضوح، أو بعمق كافٍ، كيف غيرت صراعات الاستعمار حياتنا، وأن الفساد وسوء حُكامنا ما هو إلا جزء من هذا الإرث الاستعماري.
رأيت بعض تلك الأمور بشكل أوضح وأنا فى انجلترا، لم تتضح لى من خلال محادثات مع آخرين أو أثناء الدراسة، بل لأننى اكتسبتُ فهمًا أفضل للكيفية التى يظهر بها من هم مثلى فى بعض قصصهم عن أنفسهم

وفى كتاباتهم وأحاديثهم غير الرسمية، وفى المرح الذى استُقبلت به  النكات العنصرية على شاشات التلفزيون وفى قنوات أخرى، وفى العداء التلقائى الذى يواجهنى يوميًا فى المتاجر والمكاتب والحافلات. لم يكن بإمكانى فعل أى شيء حيال هذا الاستقبال. لكن كما تعلمت القراءة بفهم أعمق، نمت الرغبة فى الكتابة الرافضة للملخصات الواثقة التى يطلقها مَن يحتقروننا ويقللون من شأننا.

 


لكن لا يمكن للكتابة أن تكون مجرد اشتباك ومجادلات، مهما كان ذلك مُحَفِزًا ومريحًا. الكتابة لا تتعلق بمسألةٍ واحدة، لا هذه القضية ولا تلك، أو هذا الشأن أو ذاك، وبما أنها تُعنى بحياة الإنسان بشكلٍ ما، فإن القسوة والحب والضعف تصير موضوعاتها الأساسية عاجلاً أو آجلاً. أعتقد أن الكتابة يجب أن تُظهر الوجه الآخر للأحداث، ما لا تراه عين القسوة والاستبداد، ما يجعل المستضعفين يثقون بأنفسهم  بغض النظر عن ازدراء الآخرين. رأيتُ ضرورةَ أن أكتب عن ذلك أيضًا، وأن أكتب بصدق، كى تتعرض الكتابة للمآثرَ والنقائص

 

وتُظهِر الإنسان بعيدًا عن التسطيح والقوالب النمطية. حين ينجح الأمر، يَنتُج الجمال.


تفسحُ هذه الرؤية مجالًا للهشاشة والضعف والرقة فى غَمرة القسوة والوحشية، وللرأفة حين تَندُرُ مصادرها. لهذه الأسباب أعتبرُ الكتابة جانبًا ممتعًا من حياتى وجديرًا بالاهتمام. لدى جوانب أخرى بالطبع، لكنها ليست موضوعنا فى هذه المناسبة. بمعجزة ما، مازِلتُ أجد فى الكتابة متعة الصِبى التى ذكرتُها فى البداية، بعد كل تلك العقود.


اسمحوا لى فى الختام أن أعبر عن عميق امتنانى للأكاديمية السويدية لمنحها
 هذا الشرف العظيم لى ولعملي. أنا ممتن للغاية.

 

أقرا ايضا | كمال مغيث يكتب: طه حسين في حفلة تنكرية