حكايات من زمن الوالي: التاريخ الطبقي والاجتماعي لعصر محمد علي

حكايات من زمن الوالى:  التاريخ الطبقى والاجتماعى لعصر محمد على
حكايات من زمن الوالى: التاريخ الطبقى والاجتماعى لعصر محمد على

كتب : محمد سليم شوشة

يمثل كتاب «حكايات من زمن الوالي» للكاتب المصرى عماد الغزالى الصادر مؤخرا 2021 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب واحدا من الكتب المهمة والثرية، ذلك لأنه يمثل استعادة مهمة للماضى وقراءة تاريخية مغايرة لتجاوزها للخط السياسى الرئيسى المتمثل فى العاصمة والصراع على الحكم إلى الأبعاد الاجتماعية ويفتح كادر القراءة التاريخية وإطارها بما يجعله يتجه نحو الطبقات الاجتماعية فى الأرياف وفى الصعيد والوجه البحرى ويبحث فى الأنساق التاريخية التى حكمت التحولات الاجتماعية والطبقية، أى أن المجتمع المصرى كان محكوما بعدد من العوامل التى حددت وشكلت تحولاته ورسمت نقلاته الاجتماعية شديدة البطء. 


فى هذا الكتاب الثرى نجد أن هناك تركيزا على عدد من الخطوط المركزية مثل التعليم والصناعة والزراعة والحرب أو الانضمام إلى التقاليد العسكرية الجديدة فى الجيش النظامى أو الأسلوب الحديث الذى استبدله محمد على بنظام جيوش المماليك ومجموعاتهم. إذن هناك خطوط أساسية تتبعها الكتاب عبر حكايات وقصص ووقائع معينة دون جمود أو مغالاة فى التزام الصورة الأكاديمية التقليدية للبحث التاريخي، بما يجعل الغلبة تبدو فى الظاهر لفكرة الحكاية أو الشخصية أو تتبع الواقعة، وفى الخلفية والعمق يتوارى النسق الذى يشكله البحث أو يكشف عنه، فنجد أن المنجز الأساسى لهذا الكتاب هو بحثه بنعومة شديدة عن التحولات الطبقية عبر قطاعات من الأعمال والفئات والحرفيين. وهى كلها أشياء كانت تدفع من حيث الظاهر إلى صناعة تحول طبقى واجتماعى كبير فى المجتمع المصري، ولكن هذا لم يحدث ولم تكن نتائجه سريعة لأسباب عديدة يلمح لها الكتاب أكثر من كونها يصرح فى نقاشها. 

كانت هناك عوامل مهمة ترشح المجتمع المصرى لأن تتعاظم فيه الطبقة الوسطى وتتحسن عبر ذلك الحالة الاجتماعية بشكل عام بنشوء فئات تتصاعد تدريجيا فى جهاز الدولة ومؤسساتها الناشئة. وهكذا يصبح الحكم للمصريين بشكل تدريجي. لكن ما حدث كان خلاف ذلك وبقى الظلم والفساد عوامل مساعدة مانعة لهذا التحول الاجتماعى الكبير، وظلت الفئات المهيمنة هم الأتراك والأرمن والألبان وغيرهم من الأجانب وهو ما وصل بنا فى مجمل عهد أسرة محمد على لأن تصبح مائة عام قليلة على حدوث تغير كبير، بين تولى محمد على الحكم وحادثة دنشواى مثلا بوصفها دليلا على استمرار الانتصار للأجانب ضد المصريين ودليلا على استمرار حال القهر والانسحاق الكبير الذى عاشه المصريون حتى ثورة يوليو ورفع الزعيم جمال عبد الناصر شعار ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستبداد. وهو ما يعنى أن هذا الشعار كان نتاج قرون طويلة من الظلم على المستوى البعيد، ونتاج عقود من الظلم بشكل مغاير وحداثى بدرجة ما على المستوى القريب فى عهد الدولة العلوية التى ربما لم تختلف كثيرا إلا فى الشكل المدنى الحديث الذى لا نقلل من أهميته ولكن من الصعب أن نعتبره تحولا كاملا لدرجة أن بعض المؤرخين يرون فى دولة محمد على دولة أوربية ونظام حكم ليبرالى وديمقراطى تماما لمجرد أن استحدث واستعار أساليب وأنظمة الحكم الأوربية.


أبرز العوامل التى كان يمكن أن تحدث التحول الطبقى الكبير فى المجتمع المصرى وتتبعها الكتاب بشكل سردى ناعم هى البعثات التعليمية والتوسع فى المدارس وبخاصة المدارس العليا التى كانت تجد لها فى أبناء الأزهر زادا وذخيرة شبه جاهزة بدرجة ما. وكذلك طبقات التجار والفلاحين وشيوخ البلد وتغير أنظمة وقوانين الأراضى والفلاحة أكثر من مرة

 

وكذلك تغيير نظام الجهادية وتجنيد أبناء الفلاحين المصريين. فهذه الفئات الممارسات من الاعتماد على أبناء المصريين وابتعاثهم إلى أوربا وضمهم إلى المدارس وتعليمهم وكذلك تجنيد المصريين والاعتماد على شيوخ البلد فى نظام العهدة البديل لنظام الالتزام وغيرها ومنحهم بعض الأراضى تحت نظام مسوح المصاطب الذى استحدثته أنظمة الدولة العلوية، وكذلك تطوير أنظمة التجارة والتوسع فيها كلها كانت تقول إننا بحاجة إلى عقود قليلة حتى تكون لدينا طبقة وسطى ضخمة، لكن الحقيقة أن هذا لم يحدث لاستمرار أشكال عديدة من التسلط، فلم يكن بين أبناء المصريين الآلاف من نموذج رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك

 

ولم يكن هناك الأساس الذى يسمح بتداول السلطة فى الدوائر السفلية فى الريف يما ينمى هذه الطبقة، بل كانت هناك تبدلات محدودة للفئات التى يعتمد عليها النظام فى رأسه للتسلط على الفلاحين، ولم يكن هناك صعود لأبناء المصريين فى الجيش ولكن ظل المصرى محكوما من الآخرين ومحدودا فى ترقياته مهما بلغ من الشجاعة أو العبقرية فى الحرب  والتطور فى استيعاب علومها ومهما كان قادرا على التضحية، حتى إن كثيرا من المميزين فى هذا العصر كانوا عرضة للمكائد والتنكيل بسبب الطبقات الأخرى الأكثر قربا من الوالى من غير المصريين  سواء الأتراك أو غيرهم، وقد كان الأتراك الأكثر سوءا فى حين بدت بعض الفئات والطوائف الأخرى أكثر قابلية للاندماج فى الهوية المصرية مثل الأرمن واليونانيين وإن لم ينته التمييز أبدا لصالح غير المصريين حتى نهاية حكم أسرة محمد علي.

يركز كتاب حكايات من زمن الوالى على المطمور فى الحياة الاجتماعية والثقافية وحياة الحرف والصُّنَّاع وأنظمة الحرفيين وطرائق علمهم أو النظام الحاكم لمراتبهم ومهاراتهم، ولكن الكتاب بشكل من التكثيف الواعى والذكى يربط هذه التحولات الاجتماعية بالسياق العالمى وتحولات الصناعة فى العالم واكتشافات أوربا واستخدامها للآلات والطاقة الأحدث وتطورها العلمى وأثر ذلك كله على الحرف والصناعات اليدوية الموروثة فى مصر وعدم وجود أنظمة حماية أو قوانين تساعد على صمود هذه الحرف أو الصناعات، وكل هذا كان له تأثيره فى اختلال ميزان القوة، وهو ما يمكن تسميته بالتحولات التاريخية الناعمة التى تكون أكثر عمقا من الخط السياسى المرتكز على تبدل الأنظمة أو الانتصارات والهزائم العسكرية. ليثبت الكتاب عبر تجربته

 

وقراءته التاريخية أن ما يجب الاهتمام به فى الرصد يتجاوز مقر الحكم وأفعال الأمراء ليربط كافة الخيوط ببعضها، يربط الداخلى بالخارجي، ولهذا فإننا نجد لديه هذه الرؤية التاريخية التى تشير إلى أحداث أوضاع أوربا فى ذلك السياق من القرن التاسع عشر والصراع الفرنسى الإنجليزى وتنامى الصناعة الأوربية وتجارة المواد الخام وموقع مصر بين الشرق والغرب وتنامى تجارة البن مع إشارات إلى أنظمة الإدارة فى القرية المصرية وأساليب الزراعة وصيانة الجسور

 

وتوزيع المياه وإصلاح الطرق وأنظمة جمع المحاصيل والغلال، كلها بجانب صراع الوالى مع المماليك ورغبته فى النظام المركزى الشمولى الذى يجمع فيه بين ثروات ومحاصيل الصعيد إلى جانب الوجه البحرى إلى جانب جهود باغوص باشا لإصلاح المنافذ البحرية أو الموانئ وإصلاح النظام الجمركي، وهكذا فى خطوط كثيرة تتلاقى كلها لتشكل لوحة تاريخية ثرية ومهمة تكشف عما فى أعماق المجتمع المصرى وترصد تحوله الطبقى البطيء وترصد أشكال المهانة والقهر التى عاشها المصريون، وفساد النخبة والطبقة العليا التى كانت ذات صلة من أبناء مصر بالحكام من ولاة العثمانيين أو بقايا المماليك

 

وكيف كان النسق العقلى الحاكم لهذه النخبة الفاسدة التى ربما لأول مرة يتم الإشارة فيها إلى مشاكل عمر مكرم نفسه وغيره من المصريين، ولهذا لم يكن مقدرا لمصر عبر هذه الطبقة المصرية أن تقوم بثورة حقيقية تؤكد استقلالنا أكثر من هذه الإرادة المحدودة التى وجدت قمة طموحها فى أن يكون لها رأى فى اختيار الوالى العثمانى ليس أكثر. 
وربما يقتنع قارئ الكتاب بهذا الفشل الشامل فى الروح المصرية العامة، وقدر ما عانت من الإحباط وكيف كانت تتحصن بالدين فى مواجهة كل هذا الكم من القهر، وكيف كان محمد على والمحتسب يتخلصون من الأبطال الشعبيين الذين كان منهم من ساعد على وصول محمد على إلى حكم مصر مثل حجاج الخضرى شيخ طائفة الخضرية وابن شمعة شيخ طائفة الجزارين وكلاهما شنقه محمد على بعدما استتب له الحكم بعد سنوات قليلة من تنصيبه واليا، ولم يؤخذا بخطأ أو جريمة ولم يكن فعل الباشا معهما إلا عن حقد وخوف من علاقتهما بالجماهير، وقد كان قتلهما مهينا ويبعث برسالة قوية لبقية شعب مصر أن الوالى لن يقبل منهم رأيا آخر ولا مجال لأى مشاركة فى إبداء الرأى فى الحكام مرة أخرى بعد وقوفهم فى وجه خورشيد لاختياره.
من المساحات الطريفة والمركزة فى مادتها فى الكتاب تلك التى انشغل فيها الكاتب بالثورات والفورات وحالات الغضب التى كانت من الشعب المصرى فى عموم مصر على سنوات وأماكن متفرقة، وحالات من العصيان والتمرد والثورة والغضب الذى وصل فى بعض الأحيان إلى المواجهة العسكرية مع قوات الوالى وعساكره وضربهم أحيانا بالمدافع وقتل أعداد كبيرة من أهل القرى التى كان يعمها العصيان، وحالات التخريب والهدم والدمار التى كانت تتبع هذه الثورات المحدودة ضد الوالي

 

ومن الطريف والدال كذلك ما يكشف الكتاب عنه من التحاف هذه الثورات وحالات الغضب والعصيان بلحاف الدين وأن كثيرا منها تزعمها ما يشبه الوليّ أو أحد الصالحين الذين يؤمن الناس بصلاحهم دينيا وكأن المصريين قد عجزوا وقتها عن اتخاذ أى موقف فى وجه الوالى إلا إذا كان مدعوما من السماء أو استشعروا فيه هذا الدعم، واقترنت هذه الحالات أيضا بانتشار مدعى المهدية أى الأشخاص الذين يزعمون أنهم المهدى المنتظر وكان الناس يؤمنون بهم لاشتياقهم وجوعهم إلى نموذج البطل المخلص. 


والكتاب يعتمد على كثير من المراجع والكتب المهمة التى تعرضت لتاريخ تلك الحقبة من المؤرخين القدماء والمحدثين، والأهم من ذلك أنه يوازن بين التوثيق وأمانة النقل ومقتضيات التأكيد للحوادث وبين الأسلوب السردى السلس المتدفق الذى يجعل المتلقى منجذبا لهذا العالم ومتشوقا للمزيد من المعرفة عن تلك الحقبة وسياقاتها المتقاطعة وطبقاتها المتصارعة وأبطالها وشخوصها

 

ويصبح المتلقى أحيانا منحازا وربما مكونا لموقف، ويصبح مشدودا لتفاصيل هذه الحياة ومفرداتها كما لو أنه يقرأ رواية تاريخية مترابطة، والحقيقة أن ترابط الكتاب يأتى من امتداد أنساقه الشفيفة المتمثلة فى الخطوط الممتدة للتطور الاجتماعى والتحول الطبقى وتقاطع السياسى مع الاقتصادى والعسكرى والسياق الدولى والعالمى وشئون الصحة والأمراض والأوبئة وغيرها من المظاهر الحياتية والاجتماعية المهمة. 

 

اقرأ أيضا  |هضبة المساخيط: التراث الأسطورى وسياسات التطهير