عاجل

يوميات الأخبار

أحلام العيد الخمسين.. لـ «أكتوبر العظيم»

علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب

«في هذه الأيام المجيدة، كُتبت شهادة ميلاد جديدة لكل مصري، شعب لم يعرف المستحيل، وجيش حذف الكلمة من قاموسه»

شأن المعارك الكبرى في التاريخ، تظل حرب أكتوبر ٧٣ مصدر إلهام وفخر دائمين، وكلما كشفت الوثائق جديداً، عن ما أحاط بها فى مراحل الإعداد، أو خلال مراحل القتال، وما أعقبها من نتائج، فإن معين الإلهام، ومصدر الفخر، من الصعب أن يصيبهما نضوب، بل العكس صحيح تماماً.
وعلى مرمى عامين من الآن، سوف يبلغ عمر النصر المبين نصف قرن من الزمان، وقد جرى العرف فى مناسبات كتلك، وبعد مضى وقت كهذا، أن يتوقف الإنسان ليراجع حرباً كانت بمثابة تجربة عظيمة وفريدة بكل أبعادها، ليستلهم دروساً وعبراً تمثل زاداً ضرورياً نتسلح به عندما نتطلع إلى قادم السنين والعقود.
لكن ثمة منظوراً آخر يحدونى، ويدفعنى دفعاً إلى التعامل مبكراً مع المناسبة، فثمة أحلام تراودنى، وتدق رأسى بشدة، وتحرض قلمى على عرضها فى توقيت ربما يسمح لمن يشاركنى تلك الأحلام أن يدفع باتجاه يحولها إلى حقائق حية.
الحلم الأول: موسوعة الأبطال
صُناع النصر، أقصد نصر أكتوبر كانوا بالآلاف، عشراتها بل مئاتها، نعرف منهم القادة الكبار، والجنود الذين برزوا عبر أداءات أسطورية، لكن يظل السواد الأعظم ينتمون إلى فصيلة الجندى المجهول، ومن حق هؤلاء، بل من حق الوطن أن يعرفهم.
أحلم بصدور موسوعة تتيح للأجيال الحالية والقادمة أن تتعرف على أبطال أكتوبر، وبالتأكيد فإنه عمل ضخم يتطلب حشد إمكانات وجهود هائلة، لكن الفكرة تستحق تذليل أى عقبات تحول دونها.
أتصور عرضاً موجزاً لإنجاز كل بطل لاسيما من نالوا شرف الشهادة، ثم من كانوا أصحاب إنجازات تنتمى إلى وصف الإعجاز البشرى، و..و... والمهم ألا يسقط أى من هؤلاء من ذاكرة التاريخ.
الحلم الثانى: فيلم ضخم
بعد مضى كل هذه السنوات، لم يتم إنتاج فيلم حربى كبير يجسد عظمة أكتوبر!
سمعت، كما سمع المصريون عن مشروعات يتم إعدادها، وأفكار يجرى تمحيصها، وسيناريوهات قيد الدراسة و...و... ثم لا شىء!
رواية سمعتها من اللواء د.سمير فرج عن مشروع كان ينال اهتمام وحماس المشير طنطاوى ـ رحمه الله ـ وكان د.سمير من موقعه مديراً للشئون المعنوية - أنذاك - يتابع تفاصيله خطوة بخطوة مع الراحل أسامة أنور عكاشة، وتم قطع أشواط هائلة فى سبيل خروجه للنور، ثم فجأة توقف المشروع قبل أن ينطلق صوب تنفيذه!
لا يعنينا الملابسات والأسباب التى أدت لإجهاض الفكرة، لكن الأهم الآن السعى الحثيث لخروج الأوراق من الأدراج، والبناء على ما تم انجازه، وأظن أن د.سمير فرج لن يبخل بفكره وجهده، وسوف يُسهم ويدعم إنتاج فيلم حربى بمستوى عالمى، فالرجل نذر نفسه مبكراً للوطن.
لن يبدأ فريق عمل الفيلم المأمول من نقطة الصفر، فثمة تراث أظنه فى الحفظ والصون، حيث كانت جلسات العمل، وما نتج عنها فى مكان أمين.
لو بدأ العمل فوراً، فإن الأمل كبير فى أن ينير هذا الفيلم شاشات العرض، مواكباً احتفالاتنا بالعيد الخمسين لنصر أكتوبر المبين.
الحلم الثالث: ندوة دولية
مثلت حرب أكتوبر لحظة فاصلة فى تاريخ الاستراتيچية، سقطت نظريات، وتبلورت أخرى، وكان من شأن ذلك انقلاب المعايير العسكرية فى العالم أجمع، مما قاد إلى تغيير الاستراتيچيات العسكرية فى الشرق والغرب على السواء، بل امتدت نتائج حرب أكتوبر لإحداث تأثيرات جذرية على أدوار العديد من الأسلحة والمعدات، ومن ثم رسم صور مغايرة لمستقبل ميادين القتال.
المعاهد والأكاديميات العسكرية فى العالم درَّست لطلابها المعارك التى خاضتها الأسلحة المختلفة: برية، جوية، بحرية، دفاع جوى، والتى ترجمت فكراً جديداً مبتكراً لقيادات الجيش المصرى على كل مستوياتها.
من ثم فإن التخطيط من الآن لإطلاق ندوة دولية فى ذكرى مرور نصف قرن على حرب أكتوبر، تتابع ما أسفرت عنه من نتائج بعيدة المدى تجاوزت أطرافها المباشرة، لهو أمر من شأنه تسليط الضوء على نقطة تحول تاريخية جديرة بالدرس والمناقشة، من جانب ليس فقط خبراء الشئون العسكرية والاستراتيچية فحسب، وإنما إلى جانبهم يجب دعوة المفكرين وأهل الاختصاص فى الشئون الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعلمية، إذ جمعت حرب أكتوبر بين كل هذه الجوانب، فضلاً عن الأبعاد الحضارية والثقافية والاجتماعية.
أتصور توجيه الدعوة لخبراء ومتخصصين من كل أنحاء العالم ليسهموا فى فعاليات تلك الندوة، ليتذكر العالم أن مصر رغم كل التحديات صامدة، كما كانت على مر التاريخ، وأن الإنسان الذى صنع النصر قبل ٥٠ عاماً، مازال وسيظل قادراً على تجاوز كل الصعاب والعقبات، جديراً باحترام العالم وتقديره، ليس لتاريخه بعيده وقريبه فقط، وإنما لحاضره المبشر أيضاً.
الحلم الرابع: مسابقة عالمية
على مدى أعوام عديدة، كان يتم إطلاق مسابقات ثقافية وفنية على المستوى الوطنى، بالتوازى مع مبادرات من جانب بعض الهيئات، ولفئات عمرية مختلفة، محورها حرب أكتوبر، وربما يتم توسيع نطاق موضوعاتها لدوائر أخرى.
وهنا ثمة سؤال:
لماذا لا تكون المسابقة التى تطلق بمناسبة مرور نصف قرن على انتصارات أكتوبر عالمية؟
ثمة فرصة يجب اغتنامها لتفاعل واسع على أرضية القوة الناعمة، يكون النصر العربى الفريد محورها.
مسابقة فنية، وأخرى ثقافية، تتعدد المحاور فى كلتيهما، لتضىء احتفالية جامعة فى الذكرى المجيدة.
يتم ضبط المشاركة وفق معايير علمية موضوعية تليق بجلال المناسبة وعظمتها، وتكون اللغة الانجليزية لغير الناطقين بالعربية هى اللغة المعتمدة للمشاركة.
على أن يحدد الخبراء من أكاديميين وممارسين موضوعاتها، ومراحلها منذ الإعلان عنها، مروراً بتجميع المشاركات، ثم تحكيمها، والإعلان عنها تمهيداً لتكريم الفائزين ضمن فعاليات الاحتفالية الجامعة.
الحلم الخامس: صحوة عربية
شهد العقد الأخير حالة انهيارية للنظام العربى، يتمزق أمامها كل قلب عروبى صادق الإحساس، كما يهتز الضمير القومى بعنف إزاء اجتياح ما زعموا أنه «ربيع» لثوابت النظام، أو بدقة ما كان قد تبقى منها، بعد عواصف وزلازل سبقت وأن ضربته على مدى عقود.
والحق أن ما حدث فى حقيقته كان «خريفاً أغبر»، أكثر من أى شىء آخر!
فى الآونة الأخيرة، ثمة محاولات صادقة لتجاوز مشاهد الانهيار، ومساعٍ لدرجات من التنسيق والتعاون، وترميم الجدار العربى، ومنع ما تبقى قائماً من السقوط.
مبادرات فى طورها الأول هدفها استنهاض القيم الإيجابية الكامنة فى المحيط العربى، للبناء على طموحاته وأولوياته، ولو فى حدها الأدنى، والبحث عن مجرى تصب مساراته فى دوائر المستقبل، وبالعقل لا العاطفة، وبعيداً عن إسقاط أفكار الماضى ورموزه على الغد وبعد الغد.
ربما كان الرهان على صحوة عربية شاملة طموح لا يتفق مع معطيات الواقع، لكن بالتعاطى معه بقدر من البرجماتية المستخدمة خارج الأطر العربية، قد تقود إلى بدايات جنينية لصحوة عربية، وإن جزئية أو متواضعة، لكنها سوف تؤشر إلى ما يقود لقدر من التفاؤل، يكون دافعاً لعدم تأجيل الإقدام على خيار الانحياز لمستقبل عربى افضل.
الحلم السادس: عودة الروح
أظنه الحلم الأجمل والأخطر والأهم.
لعل أبرز النتائج التى خلص إليها الجميع، العدو قبل الصديق، أن الإنسان - الجندى المصرى كان العنصر الحاسم الفاصل فى حرب أكتوبر، تلك الأيام المجيدة التى صنعتها إرادة المصريين حين سقط الحائط الوهمى بين الجبهتين، أقصد الجبهة الداخلية وميدان القتال.
عندما استعيد ذكريات تلك الأيام، وكنت على عتبة الشباب أتذكر صوراً ومواقف لكل من حولى تؤكد أن المصرى قد تختلط بمعدنه الأصيل بعض الشوائب، لكن فى ساعات الجد تذوب بل تتلاشى أى شائبة ولا يبقى إلا ما ينفع الوطن، ويفيد الناس.
إذا كان ثمة تحيز، وهو مشروع، لبنى وطنى، فإن شهادات وتأكيدات جميع من تابعوا أداء المقاتل كما سلوك المدنى، فإن ثمة إجماعاً على أن العامل البشرى كان ركيزة أساسية لنصر أكتوبر.
فى هذه الأيام المجيدة كُتبت شهادة ميلاد جديدة لكل مصرى، شعب لم يعرف المستحيل، وجيش حذف الكلمة من قاموسه.
كان ما حدث إعجازاً بشرياً، ولم يكن معجزة، إذ مضى زمن المعجزات، لكنها الإرادة والإصرار والعمل الدءوب، وقيم التضحية دون انتظار جزاء أو ثمن.
إنها عودة الروح.
إنه المخزون الحضارى الذى لا ينضب.
وإذا كان لكل حرب مفاجآتها، فإن واحدة من أعظم تلك المفاجآت فى حرب أكتوبر كان الإنسان المصرى، الجندى المصرى، كان السلاح بالرجل، وليس الرجل بالسلاح.
لا أنسى أن صفحة الحوادث قد اختفت من الصحف فى تلك الأيام المجيدة.
>>>
على مدى سنوات، وكلما هلت ذكرى أكتوبر، كنت أكتب متمنياً عودة روح أكتوبر، ليس حنيناً للماضى، وإنما استبطاناً للجوهر الأصيل الذى يتجلى فى الساعات الحاسمة، لمواجهة تحديات المستقبل، وأخطرها الوعى بمتطلباته، متسلحاً بروح نقية وثابة، واعية بحركة التاريخ الذى لا يرحم من يفقد ذاته.