حضور زعيم «الحرافيش» الممتع في كافيه «ريش»

نجيب محفوظ يحتسي قهوته من عم فلفل فى كافيه «ريش»
نجيب محفوظ يحتسي قهوته من عم فلفل فى كافيه «ريش»

برحيل أديب نوبل الروائى الكبير نجيب محفوظ فى 30 أغسطس 2006 انطفأت أهم شمعة بين شموع الأدب العربى الحديث، الأديب الذى وصل للعالمية بأعماله التى ترجمت لأغلب اللغات الحية، نجيب محفوظ لم يسع طوال حياته لشيء، كانت الأشياء هى التى تسعى إليه ، لم يسع لجائزة نوبل ، لكن الجائزة سعت إليه ، لم يسافر لاستلامها برغم أنه كان فى صحة تسمح له بالسفر، لكنه أناب عنه الكاتب محمد سلماوى لإلقاء كلمته فى الحفل الذى تسلمت فيه الجائزة ابنتاه فاطمة وأم كلثوم نيابة عنه. 


لم يكن نجيب محفوظ يطيق ان يغادرعالمه فى الأزقة والحوارى والمقاهى الشعبية التى تعود عليها فى القاهرة والإسكندرية، ولم يسع لأن تنقل السينما رواياته ، بل سعت السينما إليه لتجعل منه أول روائى يكتب للسينما سيناريوهات سينمائية مباشرة، لم يسع لوسام أو نيشان أو قلادة، اتته الأوسمة والنياشين والجوائز دون أن يطلبها ، الشيء الوحيد الذى كان يسعى له محفوظ هو الناس، بالبحث عنهم والاقتراب منهم ومعايشة حياتهم وتلمس همومهم ومشاكلهم وسماع نكاتهم وقفشاتهم التى تكشف عما يتمتعون به من خفة ظل، لم ينفصل نجيب محفوظ طوال حياته عن الناس، إلا بعد المحاولة الغادرة التى تعرض لها والتى كانت ترمى إلى قتله وإهدار دمه من شاب متطرف تم غسل دماغه بأفكار مضللة!


الحادث البشع الذى اهتزت له مصر والأمة العربية والعالم كله جعل نجيب محفوظ الذى أشع علينا بالنور والتنوير، لا يقدر على الإمساك بالقلم ولا تقوى يده على الكتابة ، تحول لرجل لا يكتب، رجل يقرأ له الغير بعد أن كان مدمنا للقراءة، رجل لا ذنب له سوى أنه أحب الناس وتعاطف مع البسطاء فجاءت يد الغدر من مخبول جعله حبيس بيته، فحرمنا من جلساته وندواته التى كنا نسعى لها أينما يتحرك ويتنقل، حرمنا من الهايد بارك الديموقراطى الذى كنا نشعر به فى صحبته ونستنير بفكره وآرائه ورؤاه ورؤيته . 


عرفت نجيب محفوظ قبل أن أراه وقبل أن ألتقى به، من خلال إدمانى لرواياته وقصصه التى كنت ألتهم الواحدة منها فى ليلة، كنت وقتها معجبا بما تحتويه من سرد للحكاية، لم أكن على بينة من مستوى السرد الرمزى الموازى لتلك الحكايات التى يقدمها من نبع الحارة والزقاق، روايات محفوظ وقصصه هى التى دفعت بى إلى زيارة «خان الخليلى ، وزقاق المدق، وبين القصرين ، والجمالية ، ودرب المهابيل» وغيرها من الأماكن التى شكلت البطل الأول فى رواياته لكى أراها فى الواقع وأرى ما بها من شخوص فى حكاياته ، قرأت انه يجلس فى مقهى « الفيشاوى « فذهبت لكى أراه عن قرب .

 

كنت أراقبه عن بعد ولا أملك الشجاعة التى تجعلنى أتطفل على مجلسه، وعندما التحقت للتدريب بجريدة «الأخبار» اصطحبنى الناقد الكبير الأستاذ حسن عبد الرسول - رحمه الله - إلى كافيه «ريش» بميدان طلعت حرب لحضور الندوة التى كان يقيمها نجيب محفوظ فى كافيه «ريش» الذى شاهدت فيه لأول مرة يوسف إدريس، يحيى حقى، صلاح جاهين، أمل دنقل، صلاح عبد الصبور، فؤاد حداد، صلاح عبد الصبور، نجيب سرور، عبد الله أحمد عبد الله الشهير بميكى ماوس، رشدى أباظة، محمود المليجى.

فاطمة رشدى التى كانت تملى مذكراتها لعباس الأسوانى، وعندما عرفت ان الاستاذ نجيب يحضر للكافيه فى الصباح الباكر ليحتسى قهوته من يد عم فلفل، كنت أحضر للكافيه وأمر من امامه ملقيا تحية الصباح التى يردها بابتسامة ودودة، كنت أشاهد رجلا قصير القامة به بعض من البدانة يرتدى جلبابا بسيطا وهو يحمل على صدره كومة من الكتب يعرضها على الأستاذ واحدة بعد أخرى.

وكان ماسح الأحذية يقوم بتلميع حذائه، كنت لا أغادر مقعدى إلا بعد أن يقف الأستاذ متخذا طريقه بشارع طلعت حرب ثم ينحرف يسارا فى اتجاه دار القضاء العالى، كان يتوقف عند بائع صحف يعرفه جيدا ويناديه باسمه امام «الأمريكين» وكان البائع يستخرج كتابا من فرشته يقدمه له وينقده الأستاذ الثمن ثم يواصل سيره حتى يصل إلى مبنى «الأهرام» وهنا اودعه بسلام من داخلى متخذا طريقى لمبنى جريدة «الأخبار».


عرضت على الأستاذ حسن عبد الرسول المشرف على صفحة «المسرح» وقتها رغبتى فى إجراء حوار مع نجيب محفوظ فى زاوية بعيدة عن اهتمام النقاد الذين ركزوا على رواياته واعماله التى كتبها للسينما أو التى نقلتها السينما عن رواياته وقصصه، اردت ان أحاوره فى المسرحيات التى كتبها ولم تنل شهرة رواياته، وحدد لى موعدا بمكتبه بجريدة «الأهرام»، ولا أستطيع ان اعيد نشر نص الحوار لأن المساحة لا تكفى، ولكنى خرجت منه بأن كتاباته المسرحية لم تحظ بنفس القدر من البحث النقدى والاهتمام الجماهيرى الذى لاقته بقية أعماله الأدبية لأنه طرق باب المسرح بعد كتابة 23 عملا أدبيا ما بين الرواية والقصة القصيرة، إلى جانب أنه لم يصدر كتابا خاصا بالمسرحيات لأنها جاءت ضمن مجموعات قصصية متفرقة.

 

فمثلا نجد فى مجموعة «تحت المظلة» خمس مسرحيات تحمل إسقاطا على نكسة 5 يونيو، وتحدثت معه عن مسرحيات مثل «يميت ويحيى - والتركة - والنجاة» و«المطاردة»، و«الجبل»، والمسرحية التى استلهمها من حكاية «مدينة النحاس» من «ألف ليلة وليلة» وقدمها فيما بعد المسرح القومى، وهناك مسرحيات تم إعدادها عن رواياته فى الخمسينيات والستينيات مثل «بداية ونهاية» التى قدمها المسرح القومى 1958، و«بين القصرين» التى قامت ببطولتها فاطمة رشدى، و«خان الخليلى» التى قام ببطولتها عماد حمدى، و«ميرامار» التى أعدها نجيب سرور، و«قصر الشوق» التى أعدتها أمينة الصاوى، و«القاهرة 80» للمخرج سمير العصفورى، وبعد هذا الحوار اصبحت من مريديه وحزنت لتوقف ندوته بكافيه ريش لأسباب لا يتسع المجال لذكرها، وكثيرا ما كنت أذهب لمكتبه فى «الأهرام» بناء على اتفاق معه لإجراء حوارات قصيرة وسريعة، ونحن نحتفى اليوم بالذكرى الخامسة عشرة لرحيله لابد أن نؤكد على ان مسرح نجيب محفوظ لم يلق الاهتمام النقدى الاكاديمى الكافى من كبار النقاد، وننتظر ذلك بعد أن تم تجميع كل مسرحياته فى كتاب واحد بعد أن كانت متفرقة فى مجموعاته القصصية. 


«كنوز»