كنوز | القلم والعقل والإرادة

أنيس منصور
أنيس منصور

تعلمنا من الأستاذ عباس محمود العقاد أشياء كثيرة ، منها أن العلم هو أعظم سلاح ، فعن طريق القلم يصنع الإنسان كل شىء ، ولذلك فالعقل هو أعظم ما وهبنا الله والكاتب هو سيد الجميع . 


ولما اتصل مدير مكتب أحد وزراء الثقافة بالأستاذ العقاد ليحدد له موعداً للقاء الوزير، انتظره العقاد فى بيته وبعد الموعد المحدد بدقائق أغلق الباب وقال لسكرتيره : إذا جاء هذا الوزير قل له إن الأستاذ خرج يتريض! ولم يخطر على بال العقاد أن الوزير سوف يلقاه فى مكتبه ! 


ولما قيل له إن ناشراً من الملايو عاشقاً لقلمه وأدبه يريد أن يشترى حقوق نشر كتبه سوف يزوره فى بيته الساعة الخامسة مساء، انتظره العقاد حتى الخامسة وخمس دقائق عندما دق الباب ،وقال الزائر للأستاذ : « أنا أسف يا أستاذ المواصلات صعبة ثم إننى لم أعرف البيت؟ «


فقال له العقاد: «نعم هذه مسألة موجبة للأسف « 


وتضايق الضيف ورفض العقاد أن يبيع له كتبه ، وحزن الضيف الذى جاءه من الملايو من هذه العبارة الخشنة التى قالها الأستاذ ولما راجعه وأخذه أحد تلامذته كان رد العقاد: «وهل تظن يا مولانا أن أقيم حفل تكريم لرجل لم يأت فى موعده ، هل تظن أن رجلاً يشغل العقاد عن رياضته الفكرية يستحق الترحيب به «!


ويروى الشاعر» جيته « أنه والموسيقار الأعظم بتهوفن كانا يتمشيان عندما مر بهما موكب الإمبراطور والأمراء الذى توقف قليلاً لتحية أعظم رجلين فى ذلك الزمان، أما الشاعر فقد أفسح له الطريق وانحنى طويلاً ، أما بتهوفن فلم يتحرك وأحكم القبعة على رأسه ، ولما مضى الموكب قال بتهوفن : « كيف تفعل ما فعلت.. هل نسيت من أنت ؟» ، فقال جيته : « أعرف من أنا وأعرف من هو أيضاً « ، وقال بتهوفن : « أما أنا فأعرف أن فى الدنيا عشرات الملوك ومئات الأمراء، ولكن لا يوجد إلا بتهوفن واحد «! وكان هذا رأى الأستاذ أيضا!


كان أستاذنا عباس العقاد يضع أمامه صورة لإناء من العسل وقد تكاثر عليه الذباب..

والمعنى : أن المحبوبة كانت عسلاً والمعجبون ذباباً ، وكانت هذه الصورة بريشة الفنان الكبير صلاح طاهر، وهى أول ما يراه العقاد عندما يصحو من نومه ، وعندما يأوى إلى فراشه، لا يريد أن ينساها ليلاً ونهاراً!


وكان الفيلسوف الألمانى العظيم « كانت « يضع أمامه صورة مبنى قديم مهدم ، المعنى : أنه يريد أن يبنى ما انهدم من النظريات الفلسفية: الدين والأخلاق والجمال ، وكان الأديب النرويجى ابسن يضع صورة للأديب السويدى سترندبرج مقلوبة..

المعنى : أنه يريد أن يغبطه وأن يلعنه كلما أمسك قلماً ، فقد كانت الكراهية بينهما بلا حدود.


وقد وضعت أمامى صورة للعالم الفيزيائى ستيفن هوكنج  ،وهو أستاذ فى أكسفورد وكمبريدج وهو صاحب كتاب «تاريخ أكثر إيجازا للزمن» الذى باع ما جعله يملك تسعين مليون جنيه فى ثلاث سنوات، وضعت لأن هذا الرجل أصيب بالشلل التام فى أطرافه ، ولأنه عاجز عن النطق اخترعوا له جهازاً يحول أصواته إلى كلمات ، وهو جالس مكوماً على مقعد منذ أربعين عاماً، والمرة الوحيدة التى تركه فيها طار فى سفينة فضاء وجرب انعدام الوزن ، وفى كل مرة أراه أشعر بالخجل من شكواى من الأرق ، أو من وجع فى الدماغ ، أو فى أى مكان من جسمى ، كيف أشكو وهذا الرجل العظيم الذى حرم من كل شيء لا يزال يقول كلاماً بديعاً ، إنه مثل أعلى للصبر والإرادة والإصرار على أن يكون عظيماً ، وهو بالفعل كذلك!


من كتاب «من نفسى» 


كنوز :  نقدم هذا المقال احتفالاً بالشمعة 97 لميلاد الكاتب الكبير أنيس منصور المولود فى 18 أغسطس عام 1924 .