حديث الأسبوع

ديكتاتورية اللقاحات وحالة اللايقين

عبدالله البقالي
عبدالله البقالي

عبدالله البقالي- نقيب الصحفيين المغاربة

لا جدال في أن حرية التجول والتنقل المضمونة بقوة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والقوانين القطرية تعيش هذه الأيام ظروف اختبار قاسية جدا، بسبب ما أفرزته جائحة كورونا من تداعيات خطيرة حتمت إجراء مراجعات جذرية في العديد من الحقوق المكتسبة، وفي العديد من مناحي الحياة البشرية. و يكاد الأمر يتحول إلى إشكالية فلسفية حقيقية لا يملك أحد سلطة و لا صلاحية، و لا حتى القدرة على الحسم فيها.


فمن جهة تواصل الجائحة، التي هزت أركان العالم في إفراز العديد من التداعيات، و التي تشكل خطرا حقيقيا على الحياة البشرية، أمام تناسل العديد من السلالات ذات القدرة الهائلة على الانتشار و العدوى و الفتك، و أمام تعثر وتيرة توزيع اللقاحات بسبب ضعف القدرة الإنتاجية و انعدام المساواة في التوزيع بين شعوب العالم، فإن الوباء يواصل الفتك بعشرات الآلاف من المواطنين، و بالتالي يستمر في تشكيل خطر حقيقي على حياة البشر مما يحتم اتخاذ ما يكفي من التدابير والإجراءات الاحترازية لتطويق الوباء و الحد من خطورته. و في هذه الحالة، و من أجل هذه الغاية، فإن شريحة مهمة من البشر ترى أن الحديث عن مراعاة الحقوق و الحريات يجب أن يتوارى إلى الخلف ، لأنه حينما يتحول الحق المكتسب أو الحرية المضمونة بقوة القانون إلى خطر يهدد الحق في الحياة ، باعتباره حقا أسمى ، فإنه يصبح مشروعا الحد من الحقوق والحريات لحماية سلامة و أمن الحياة البشرية .


و في الوجــه الآخــر من العملة ، فــإن حرية التنقل و التجــول لا يمكن الحد منها أو التضييق عليها بسبب وباء يمكن التصدي له بالعلاجات و اللقاحات، و أنه لا حق لأقلية مصابة بالمرض في أن تحد من حقوق و حريات الآخرين، و هي حقوق مصانة بقوانين تمثل تعاقدات اجتماعية و سياسية قوية داخل المجتمعات .


التطورات المتسارعة التي ألقت بها الجائحة زادت من حدة وأهمية هذه الإشكالية، حيث لم يعد الحديث عن إجبارية التوفر على جواز التلقيح يقتصر على المجالس والنقاشات في الفضاءات الخاصة وحتى العامة، بل انتقل إلى مستويات جد متقدمة نقلته من أحاديث المجالس إلى مرحلة التنفيذ، و هكذا كانت البداية بمصادقة مجلس الشيوخ الفرنسي قبل أيام قليلة من اليوم على قانون أثار كثيرا من اللغط في الأوساط الحقوقية والسياسية في فرنسا (قانون الطوارئ الصحية) يقر تمديد و إلزامية الجواز الصحي الذي يسلم إلى الشخص بعد استفادته من جرعتي اللقاح المضاد لكورونا ليشمل المرافق و الأماكن العمومية ، خصوصا في المقاهي و المطاعم والمرافق الرياضية والترفيهية و قطاعات النقل الجوي والسكك الحديدية، إضافة إلى إجبارية التلقيح لجميع الأشخاص العاملين في قطاع الصحة و الحماية المدنية والموظفين الذين يعتنون بالأشخاص المسنين. و بعد أن صادقت الجمعية الوطنية الفرنسية سابقا على نفس القانون، فإنه لم يبق أمام دخوله حيز التنفيذ غير التنسيق بين غرفتي البرلمان الفرنسي على بعض الاختلافات. وهكذا وطبقا لهذا القانون فإن حرية الأفراد والجماعات أصبحت محدودة ومشروطة، بحيث لا يمكن لقوة معينة من المواطنين الولوج إلى فضاءات عامة إلا بعد الإدلاء بجواز التلقيح ، بمعنى أن التضييق على حرية التنقل اكتسب صفة قانونية صرفة ألغت المفهوم الشامل و النطاق لهذه الحرية .


وما إن فرغ مجلس الشيوخ الفرنسي من التصويت على هذا القانون المثير للجدل حتى اشتعلت شوارع العاصمة الفرنسية ، و شوارع العديد من المدن بمظاهرات مناهضة لما سماه المحتجون ب (ديكتاتورية اللقاحات) حيث سيجبر الشخص على تلقي اللقاحات رغم رفضه لها، و يدفعون بأنه وقع التحايل على مفهوم الطواعية في هذه الحالة ، بحيث إن القانون لم ينص صراحة على إجبارية تلقي اللقاحات المضادة للوباء، لكن فرض مجموعة من القيود ستنتهي بالشخص إلى تلقي اللقاح رغم رفضه الطوعي له.


ولم يقتصر الأمر على المواجهات العنيفة التي كانت كثير من المدن الفرنسية مسرحا لها ، بل إن موجة الغضب نحت نحو العالمية ، حيث انتشرت مظاهرات الاحتجاج والرفض في العديد من الأقطار في مختلف قارات العالم، في هولندا كما في بريطانيا كما في بلجيكا كما في اليونان ، كما في أستراليا ، كما في البرازيل، و الأكيد أن مساحات انتشار لهيب الاحتجاجات ستزداد اتساعا مع مرور الوقت ليشمل أقطارا أخرى تسرع الخطى للاقتداء بالتجارب السابقة .


وهكذا فإننا أمام مرحلة جديدة تعطي للسلطات العمومية تحديد مفهوم ومساحة الحرية طبقا لتقديرات معينة ترتبط بظرف محدد تكتنفه أخطار صحية معينة، وبالتالي فإننا بصدد مرحلة دقيقة في تاريخ البشرية تعطى فيها الأولوية والأسبقية لحماية الحق في الحياة على حساب الحق في ممارسة الحرية .


بعض الناس الأكثر تشاؤما لا يعتقدون في جدوى اللقاحات أصلا، و يعتبرون أن القضية ترتبط بحرب ضروس تدور رحاها بين القوى العظمى، و أنها فرصة أمام هذه القوى العظمى لمراكمة الأرباح المالية، وأكثرهم تشاؤما لا يؤمنون بوجود وباء أصلا، ويقدرون أن الأزمة الصحية مفتعلة، بل إن الهدف من اللقاحات هو تخفيض أعداد البشر فوق الكرة الأرضية لتمكين الاقتصادات الحديثة من التخلص من التكاليف المرتبطة بحياة هؤلاء البشر. وهذه قناعات غارقة في الشعبوية، ولكنها تزيد النقاشات الجارية في جميع الأوساط احتداما ، و تشغل المجتمع الدولي عن التركيز عما من شأنه أن يخلص البشرية من هذا الوباء اللعين.


لذلك، فإن حالة اللايقين فيما يحدث و يجري تزداد رسوخا ، و الأكيد أن الحريات بدورها ستتعرض إلى الاستهداف ، و هذه قضية من القضايا الشائكة جدا التي ألقت بها جائحة كورونا التي تبدو أنها ولادة بصفة مذهلة و أكثر مما كان يتوقع البسطاء من أمثالي .