معـارك «سـلطان الوجـود»

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

كتب - حسن حافظ

الاعتزاز بالنفس هى السمة الأبرز في شخصية يوسف إدريس، فالرجل الواثق من موهبته العريضة والعارف لقدره ومكانته، لم يكن يتمتع بالكياسة الكافية بكل كان مندفعا كالشلال الهادر، لا يعرف المجاملات ويعبر عن غيرته من منافسيه فى دنيا الأدب بصراحة مطلقة، لذا تعددت معارك يوسف إدريس وخصوماته، فى بعضها كان المعتدى، إذ سقط فى لحظات اندفاع دفاعا عما يعتقد صحته، وفي بعضها الآخر كان يدافع عن موهبته التى يدافع عنها فى كبرياء، بينما جرت عليه مواقفه السياسية التى لم تكن على وفاق مع السلطة دوما أزمات وأزمات، فكانت معاركه "شاهد عصره"، بعدما أثار العواصف والزوابع حوله، كان كأحد أشهر أعماله ينطلق كأنه "سلطان الوجود".


وتعد معارك الثمانينيات هي الأعنف فى تاريخ يوسف إدريس، فالرجل الذى ركز على المقالات السياسية، بدأ فى عام 1983 كتابة مقالات تحت عنوان "البحث عن السادات" في صحيفة القبس الكويتية، وبدأ في توجيه الهجوم اللاذع ضد الرئيس الأسبق، بالتوازى مع نشر الجورنالجى محمد حسنين هيكل كتابه الشهير "خريف الغضب" الذى كال الهجوم فيه على السادات، الأمر الذى جعل إدريس وهيكل تحت قصف مدفعى من العديد من الصحافيين والكتاب أمثال عبد الرحمن الشرقاوي، الذى هاجم هيكل وإدريس ووصفهما بأنهما "كاتبان بلا وفاء"، لكن إدريس لم يغير موقفه أمام شدة الهجوم والاتهامات بالعمالة للنظام الليبي، وجمع المقالات المنشورة في كتاب بنفس العنوان، وظل حتى آخر يوم من عمره يرفض قرار السلام مع إسرائيل، وبالتالي ظل على موقفه الكاره للسادات وسياساته. 


من أشهر معارك صاحب "العيب" تلك التى دخلها مع الداعية محمد متولى الشعراوي، إذ اعتبر إدريس في مقالة "العروبة ضد العرب والإسلام ضد المسلمين" ونشرت ضمن كتاب "فقر الفكر وفكر الفقر"، الداعية الدينى بأنه يروج لمشروع وأد الإسلام كدين لكفاح العدو، وهاجم موقف الشعراوى المؤيد للسلام مع إسرائيل، وأنه يبشر بإسلام غريب، يجعل مشكلة المسلم تنحصر فى ذاته وطريقة عبادته، ولا يأبه أبدًا لأرضه أو عدوه وعدو المسلمين، ويواصل إدريس هجومه على الشعراوى قائلا إن الأخير "يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم من قدرة على إقناع الجماهير البسيطة، وقدرة على التمثيل والحديث بالذراعين وتعبيرات الوجه، والقدرة على جيب كبير مفتوح دائما للأموال، باختصار، قدرات أى ممثل نصف موهوب".

وتمسك يوسف إدريس بموقفه الداعى إلى أن يقتصر الشعراوى على تفسير القرآن ولا يتدخل فى السياسة أو الأمور العلمية، بينما هاجم الشعراوى الكتاب توفيق الحكيم وزكى نجيب محمود ويوسف إدريس بأن كتاباتهم فيها تضليل وإضلال، وأنهم يتجرأون على الدين، وتدخلت عدة أطراف فى الأزمة فهاجم أحمد هيكل وزير الثقافة وقتذاك، يوسف إدريس، ليتراجع الأخير عن مواقفه الحادة فى مهاجمة الشعراوي، وحصل الصلح بينهما خلال تواجدهما فى لندن لتلقى العلاج فى ولنجتون، حيث كان الشعراوى وإدريس يتلقيان العلاج، فشهدت عاصمة الضباب الفصل الختامى لمعركة الرجلين بسلام.


إحدى معارك يوسف إدريس تمثلت فى مقال كتبه فى العام 1986، بعنوان "رجاءان" طالب فيه أبناء الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات بإعادة استراحتين فى المعمورة إلى الدولة، لكنه استند إلى معلومات مغلوطة فقال إن مساحة الاستراحتين تصل إلى أربعمائة فدان، وتوقع بناء على هذا أن بيع هذه الأراضى كفيلة بإنهاض الاقتصاد المصرى كله، وأثار المقال موجة من الجدل وردود الفعل والموضوعات الصحفية حول حقيقة الاستراحات الرئاسية، فرد خالد جمال عبد الناصر بمقال حاد بعنوان "الذين يتجاهلون الحقائق"، وأكد فيه أن مساحة استراحة المعمورة لا تتجاوز خمسة أفدنة فقط، ثم أرسلت تحية عبد الناصر رسالة إلى مجلس الشعب تعلن فيها تنازل أسرة عبد الناصر عن استراحة المعمورة، وقد حيا يوسف إدريس هذه الخطورة وشكر عليها السيدة تحية عبد الناصر فى مقال بعنوان "العظمة سيدة فاضلة".

أما آخر معارك يوسف إدريس وأكثرها قسوة، فهى معركته مع ذاته، والتى خسرها للأسف، فقد أصيب بصدمة بعدما علم بنبأ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، فقد دخل فى أزمة نفسية وحالة اكتئاب طويلة انتهت بتردى حالته الصحية ما أدى إلى وفاته فى أغسطس 1991، عن 64 عاما، وما زاد من حدة غضبه أن شخصا ما أخبره هاتفيا بنبأ حصوله على جائزة نوبل، ليتبين بعدها أن من فاز هو نجيب محفوظ، خاصة أن بعض الأدباء والشعراء زرعوا هذا الأمر فى عقل رائد القصة القصيرة عربيا، إذ سبق وأن أرسل نجيب سرور لإدريس خطابا يخبره فيه بتفوقه على نجيب محفوظ فى كل شيء، الغريب أن سرور كتب دراسة نقدية مهمة بعنوان "رحلة فى ثلاثية نجيب محفوظ"، ويبدو أن ما قيل عن وقوع أزمة شخصية بسبب سيدة ما بين النجيبين قد أدت إلى انقلاب نجيب سرور على نجيب محفوظ والانحياز لصف يوسف إدريس الذى كان يرفع لواء القصة القصيرة ــ رغم كتابته للرواية ــ فى مواجهة محفوظ رافع لواء الرواية.

وقد اعترف نجيب محفوظ بصحة واقعة غضب يوسف إدريس وأرجع الأمر إلى خلط حدث عند يوسف إدريس، إذ يقول محفوظ لرجاء النقاش فى كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، إنه يجب التفريق بين التزكية والترشيح لجائزة نوبل، فالتزكية تأتى بناء على توصية من الجامعات، وبناء على هذه التزكية فإن لجنة نوبل تقوم بترشيح عدد من الأسماء بعد أن تسأل مجموعة من المتخصصين، ويتابع محفوظ: "وهذا هو الخلط الذى وقع فيه يوسف إدريس، فيبدو أنه علم أن جهة معينة زكته لنيل جائزة نوبل، فظن أنه مرشح للجائزة. التزكية -كما قلت- ليست سرًا... لأن التزكية مجرد لفت نظر، حتى تقوم لجان المتابعة بقراءة الأعمال المترجمة للأديب، أما أن يتم الترشيح أو لا يتم فتلك مسألة أخرى".

لكن سبب الأزمة فى الحقيقة يعود إلى أن يوسف إدريس نفسه كان قد اقتنع بأنه الأحق بجائزة نوبل، بل عمل على تهيئة نفسه من أجل استلام الجائزة، وقد أعلن عن هذا الأمر فى أكثر من حوار مع صحف عربية، منها مجلة "الكرمل" الفلسطينية فى عدد يوليو 1984، إذ يتحدث عن استحقاقه لجائزة نوبل باعتبارها نقطة لا تحتاج إلى نقاش، بل يشير إلى أن الدكتور صبرى حافظ، أستاذ الأدب العربى بجامعة ستوكهولم، كتب أن إدريس رشح أربع مرات للحصول على الجائزة الأدبية الأبرز على المستوى العالمي، فهو يقول "أنا المرشح العربى الوحيد لهذه الجائزة، ليس هناك غيري، وإذا قيل لك إن محمود درويش مرشح لها فهذا ليس حقيقيا، ولا نجيب محفوظ ولا توفيق الحكيم، أنا فقط"، ويرى أن ما يميزه هو أنه يكتب أدبا محليا لكنه ينفذ إلى النفس العالمية، والثانى أنه كاتب قصة قصيرة فذ، لذا يمكن لنا أن نتخيل حجم الصدمة التى تعرض لها إدريس عندما علم بنبأ فوز نجيب محفوظ، خصوصا أن شائعات ترددت حول وصول بعض الوفود الصحفية قبل الإعلان عن الجائزة إلى القاهرة وطلبت إجراء حوار صحفى مع يوسف إدريس باعتباره المرشح المضمون فوزه، لذا كانت الصدمة كبيرة، وأخذ يوسف إدريس بعض الوقت لكى يتمالك نفسه ويرفع الهاتف ويهنأ نجيب محفوظ.

موقف يوسف إدريس الذى أعلنه صراحة فى جريدة الوفد بتاريخ 20 أكتوبر 1988، أى بعد أسبوع واحد من فوز نجيب محفوظ، والذى أكد أنه استبعد من الفوز بسبب مواقفه المعارضة لليهود، ومهادنة محفوظ لهم، تصدى له بالتفنيد الناقد رجاء النقاش فى كتابه "فى حب نجيب محفوظ"، إذ أكد أن يوسف إدريس "الرافض الوحيد" سعى للحصول على الجائزة بالسفر إلى السويد والاتصال بالدوائر المؤثرة على لجنة جائزة نوبل، وقدم أعماله إلى لجنة الجائزة دون طائل، ليؤكد النقاش أحقية نجيب محفوظ بالجائزة لأنه "أعطى جهده كله لفن الرواية والقصة، فكتب أكثر من خمسين عملا روائيا وقصصيا"، ثم ينفى تهمة مهادنة نجيب محفوظ لليهود، ليؤكد على أصالة مشروعه الروائى واستحقاقه للجائزة، لكن يوسف إدريس لم يسكت ورد فى مقاله على من هاجمه بسبب موقفه الرافض لحصول نجيب محفوظ على نوبل، ووصف من هاجموه بـ "الفئران والصراصير".