سد النيل الأزرق.. إشارات مفترق الطريق

د. أحمد فؤاد أنور
د. أحمد فؤاد أنور

بقلم: د. أحمد فؤاد أنور

أكاديمي- عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية

في مفترق الطرق حري بنا أن نتمهل، وأن نُبدي بعض "القلق المفيد والمنضبط" لأنه يكون دوما مصحوباً بعناية أكبر ودقة أزيد، شريطة ألا يتحول القلق إلى "هيستريا وشطط". والحديث عن مرحلة ما بعد التقدم بمشروع قرار لمجلس الأمن يسجل مخاوف مصر والسودان المشروعة على استقرار المنطقة والخطر الداهم في أعقاب سلسلة من الاجراءات الأحادية الجانب التي يتخذها النظام الأثيوبي على أطول أنهار العالم، ويطلب اتفاقاً ملزماً عن طريق مفاوضات جادة في فترة زمنية محددة. العناوين الكبرى في هذا المضمار الملتهب عديدة وأبرزها: هل كان يتوجب علينا أن نتوجه لمجلس الأمن؟ كيف نرد على أكذوبة أن السد مشروع من مشروعات التنمية ويجب تشجيعه وليس العكس؟ وكيف نرد على أكليشية "التدويل مرفوض والاتحاد الأفريقي هو المنصة الأمثل لرعاية التفاوض وحل المشكلة"؟ وهل سيؤثر توقيع الدب الروسي على اتفاقية تعاون عسكري في هذا التوقيت على المشهد وتوازنات القوى؟ وأخيرا ماذا لا يزال في جعبة مصر في هذا الملف المصيري؟ 

في البداية ينبغي أن يكون واضحا أننا لم نحضر لمجلس الأمن لنتوسل أو نلتمس إدانة.. حضرنا لتسجيل موقف أمام القوى العظمى والرأي العام العالمي وقبلهما الرأي العام المصري والسوداني حتى يتيقن الجميع بأننا استنفذنا كل الوسائل غير الخشنة للحل. والمهم كذلك في خطوة اللجوء لمجلس الأمن ادراكنا أن التزام الصمت على الملء كان تتحدد به مراكز قانونية تم تجاوزها في 2020 و2021 بمعنى إن صمتنا كان سيعد اعترافا واقرارا بشرعية السد. مع الأخذ في الاعتبار أنه بعد بيانات مجلس الأمن سيسعى كل طرف لتحسين اجابته على المسألة المصرية السودانية. 

خلال النقاش العام والخاص تتردد كثيرا مقولة أثيوبية مفادها "هذا السد للتنمية! ولماذا تعادون التنمية"؟ وفي الواقع نحن ببساطة لا نقبل أن يكون "القتل" أحد وسائل التنمية!! فهذا السلوك لا يتبعه إلا السفاحين قتلة شعوبهم. ولا يصمت إزاء هذا كل من يتحلى بقدر من المسئولية والأخلاق أيا كانت جنسيته. وإذا كان السد بالفعل لا يمثل ضررا كما تردد أثيوبيا وأبواقها فلماذا تتهرب من تقديم التزام كتابي بذلك على مدار أكثر من عشر سنوات؟ مصر ساعدت في بناء سدود في أفريقيا وتدعم التنمية بالمال والخبرات الفنية، لكنها ترفض أن يتحول السد إلى "سلاح قتل جماعي" في التوقيت الذي يختاره "من يحرك أبي أحمد" بالريموت كنترول.  بدليل تحصينه المسبق بجائزة نوبل، بجانب خطاب نتنياهو الذي طالب في عام 2016 -من داخل البرلمان الأثيوبي- ب"حق أثيوبيا في استخدام المياه في المكان الذي ترغبه"!! وكأنه إقرار مبكر لأول عملية بيع مياه تم الإعلان عنها بالفعل من إسرائيل للأردن منذ أيام.

وتطور الأحداث يبرهن لنا أن نظام أبي أحمد يقتات على الحروب والدماء ضد جيرانه ومن النماذج الشهيرة اريتريا سابقا والسودان واستفزاز مستمر لمصر حاليا فضلا عن جرائم حرب موثقة في أقليم التيجري. 

على درب الفتنة سعت أديس أبابا للوقيعة بين أفارقة عرب وأفارقة غير عرب!! وكأن القارة ينقصها التقسيم والتفتيت. وكأن ملامح المصري النوبي الأسواني الصعيدي تختلف عن السوداني والأثيوبي!!

في الرد على فِرية وأكذوبة "التدويل" وضرورة الالتزام فقط بمسار الاتحاد الأفريقي لحل أزمة السد يمكننا لفت النظر ببساطة والتذكرة بسابق نظر مجلس الأمن لقضايا أفريقية عديدة بعضها بين قبائل (الحرب الأهلية الرواندية)! وليس دول كبرى ونزاع يتعلق بأطول أنهار العالم قاطبة دون انتظار الموقف الخاص بالاتحاد الأفريقي وجهوده ومساعيه: من الصومال للسودان لليبيا لمذابح الهوتو والتوتسي وصولا للنظر قبل أيام فقط من نظر المشروع المصري السوداني في شأن أثيوبي 100% هو أزمة وجرائم أقليم تيجراي!! وقبلها تدخل وأصدر "قرارات" عند حدوث أزمات وتفشي أمراض في أثيوبيا وخارجها. فأين المنطق في ترديد هذا الأكليشية؟!! ومتى يتدخل المجتمع الدولي إذا لم يتدخل لمنع الضرر والعدوان عن 150 مليون نسمة؟!

الرد على اثيوبيا يرتكز على حقائق من بينها: عدم قبول خلط أبي أحمد للأوراق بالمقارنة بين سد ينقذ المياه من الهدر في البحر المتوسط (السد العالي) وبين سد يقطع المياه من نهر دولي عن دولتي المصب (سد النيل الأزرق). وإبراز انتهاك للقانون الدولي وللاتفاقيات بدءً من 1902 (التي وقعتها وهي مستقلة ولو تم تجاهلها لعادت أرض السد إلى السودان فورا) وصولا إلى 2015 و"البند الخامس" منها، وكذلك انتهاكها مبدأ حسن النية (البند الأول في اتفاق إعلان المباديء) لأنها ماطلت وسوّفت وتهربت في المفاوضات على مدار عشر سنوات، مع ملاحظة أنه إذا كان التفاوض يجري بينما السد مُجمد فإن الأمر يكون مقبولا ومتسقا مع إعلان المباديء، لأنه إذا ما تم البناء، والملء، وتشغيل التوربينات بالفعل فعلامَ نتفاوض؟!

ماذا بعد مجلس الأمن

الموقف الروسي غير المتوازن داخل مجلس الأمن أعقبه توقيع اتفاق تعاون عسكري مع أديس أبابا وهو ما يجعل لسان حال المواطن المصري العادي يقول لموسكو "لا تخسرونا"؟ فالموقف الروسي يتعارض مع المصالح المصرية والسودانية حتى وإن كان موقفا سياسيا وليس تحركا عسكريا نوعيا ملموسا.. نظرا لسابق ابرام اتفاقيات مماثلة مع لبنان، وقطر، والبحرين والسودان دون تحول نوعي في جيوش تلك الدول خاصة لبنان الذي لا يملك دفاعاً جوياً أو سلاح طيران بالمعني المؤثر حتى بعد إبرام الاتفاقية!!    

ماذا في جعبة مصر؟ أولا وقبل كل شيء الثقة والإرادة واستدعاء روح معركة طابا فمصر حينها لم تقبل التنازل عن كيلو متر واحد من أصل 60088 (ستون ألف ثمانية وثمانون) كيلو متر هي مساحة سيناء، وقبلها رفضت مخططات إسرائيلية بدأت بانتظار موشي ديان مكالمة من عبد الناصر لم تحدث أبداً، بل بدأت حرب الاستزاف من يونيو 67 مباشرة، مرورا برفض أفكار على غرار اقتسام إدارة ودخل قناة السويس، أو تسيير دوريات مشتركة بعد حرب اكتوبر.     

مطلوب حاليا: الثقة في قيادة تجاوزت بنا أزمات أخطر وأدق واستجابت لمطالبنا وأزاحت الاحتلال الإخواني وأعادت النور لمصر، رغم أنف من يشغلون الإخوان في الغرب، وتكرر المشهد في ليبيا وفي غزة وفي السودان أيضا فبعد عدائيات تهدد الحدود والسيادة فرضت الرؤية المصرية نفسها وتم تأمين الاتجاهات الاستراتيجية بشكل صارم.. وسط تحول كامل في موقف أردوغان بشكل غير متوقع.  وعلى المراقب أن يلاحظ أن في ملف السد الأثيوبي ساد السودان موقف معادٍ للموقف المصري في عهد البشير، وحالة من الارتباك بعد سقوطه مباشرة، وهو ما تحول لتماهي في مواقف القاهرة والخرطوم فهل كما كانت المعادلة 2 في مقابل واحد (هو مصر) وانقلبت إلى 2 في مقابل واحد (هو أثيوبيا) ستنتقل أثيوبيا نفسها إلى مربعنا لتصبح المعادلة 3 في مقابل واحد (هو السد). ونظريا فيما يتعلق بمجلس الأمن لدينا خيارات من بينها: أن ننتظر توافقا على الصيغة الحالية لمشروع القرار، أو أن نخفف من صيغته لكسب مزيد من المؤيدين له، أو أن ننتظر اتمام اجراءات من شأنها أن تحول مواقف الدول داخل مجلس الأمن بشكل واسع وعريض. 

مع ملاحظة أنه  قد يؤثر في تصويت دول صغيرة أعضاء في مجلس الأمن (لا يتجاوز عدد سكانها ال100 ألف نسمة ومن الصعب العثور على موقعها في خريطة العالم) امتيازات وتسهيلات بسيطة، لكن بالنسبة للدول الكبرى الأمر أشبه بمصفوفات يتداخل فيها الأمني مع الاقتصادي مع الثقافي مع الشخصي فبعد أن حددت عاصمة ما توجهها يمكن بالقطع أن تضغط شركة كبرى أو شخصية نافذة (سفير في دولة وصديق شخصي لزعيم دولة ما، حليف، وزير محلي) للتنبيه والتحذير أيضا من خسائر ستترتب على هذه السياسة التصويتية وهذه المواقف فيتغير الموقف أو تخف حدة تطرفه.. بعمل مراجعات أو ترضيات أو توضيحات أو إعادة صياغة شاملة للموقف.. ويمكن في هذا الصدد ملاحظة تحول موقف جيبوتي والصومال 180 درجة –لصالح مصر والسودان- عند بحث الأمر والتصويت عليه في جامعة الدول العربية خلال بضعة أشهر. 

ماذا في جعبة مصر لتحقق هذه المعادلة أو تفرضها؟ الرد يمكن استخلاصه من سوابق قريبة وبعيدة فهل كان بناء الأهرامات أمر متبعاً في العالم حين بنينا 100 هرم شامخ؟ هل تحول فرد المشاة من الركض هربا من دبابة العدو.. أو الركض خلف دبابة قوات جيشه إلى الركض نحو "دبابة العدو" والقضاء عليها بصاروخ محمول على الكتف" سوى بنظرية مصرية خالصة؟ ونفس الأمر بالنسبة لاغراق المدمرات بلنشات صواريخ! هل شهد العالم سابقة لاسقاط خط عسكري حصين ب"مدفع مياه" ونحن قلدنا تلك النظرية أو هذا الخيار؟ أم أن اللواء باقي زكي يوسف رحمه الله ابتكره (بعيدا عن الأضواء والرأي العام وتقديرات العدو) فأضفناه لكتاب التاريخ وأبهرنا العالم وعلمّناه؟ ملف الأزمة الخطيرة سيتم معالجته بالحكمة والتخطيط السليم و.. النباهة المصرية.