البستان

في رثاء الشاعر الأخير .. ماتت إيثاكا مات سعدى

سعدى
سعدى

عبد‭ ‬المنعم‭ ‬رمضان

مات‭ ‬الشاعر،‭ ‬ليس‭ ‬فجأة،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬انتظار،‭ ‬مات‭ ‬الشاعر،‭ ‬فالتفتنا‭ ‬إلى‭ ‬وجودنا،‭ ‬زعمنا‭ ‬جميعا‭ ‬أننا‭ ‬شعراء‭ ‬مبصرون،‭ ‬أننا‭ ‬الشعراء‭ ‬المبصرون،‭ ‬زعمنا‭ ‬جميعا‭ ‬أننا‭ ‬نرى‭ ‬اللغة‭ ‬القديمة،‭ ‬فى‭ ‬مكانها‭ ‬وأوانها،‭ ‬وفى‭ ‬غير‭ ‬مكانها‭ ‬وأوانها،‭ ‬ونعرفها،‭ ‬زعمنا‭ ‬جميعا‭ ‬أننا‭ ‬نرى‭ ‬اللغة‭ ‬الحديثة،‭ ‬الآن‭ ‬وقبل‭ ‬الآن‭ ‬وبعد‭ ‬الآن،‭ ‬ونعرفها،‭ ‬ونرى‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليه‭ ‬اللغة،‭ ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬القدامة‭ ‬والحداثة،‭ ‬وفيما‭ ‬بعدهما،‭ ‬ونعرفها،‭ ‬نحن‭ ‬الشعراء‭ ‬المبصرين‭ ‬جدًا،‭ ‬نرى‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬ونعرف‭ ‬ما‭ ‬نريده‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬ونعرف‭ ‬مالا‭ ‬نريده،‭ ‬نعرف‭ ‬الماضى،‭ ‬وننام‭ ‬على‭ ‬سريره،‭ ‬ونعرف‭ ‬المستقبل،‭ ‬ونتسلق‭ ‬سلالمه،‭ ‬وحده‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف،‭ ‬كان‭ ‬الخارج‭ ‬علينا،‭ ‬وحده‭ ‬كان‭ ‬المنشق،‭ ‬وحده‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬الأعمى،‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يحاول‭ ‬السعى‭ ‬وراء‭ ‬طيف‭ ‬ما،‭ ‬لأنه‭ ‬فطن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يُرى،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُرى،‭ ‬فطن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬مجهول،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬مجهول‭ ‬لديه،‭ ‬ولكنه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬دائما‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬لسانه،‭ ‬غزارة‭ ‬سعدى‭ ‬الشعرية،‭ ‬لا‭ ‬تدّعى‭ ‬المعرفة،‭ ‬لا‭ ‬تدّعى‭ ‬الامتلاك،‭ ‬فهو‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يرشدنا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يكتب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مسلحًا‭ ‬بنظريات،‭ ‬يكتب‭ ‬فقط‭ ‬بتلك‭ ‬الفطرة‭ ‬التى‭ ‬تدله‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الكتابة،‭ ‬شعره‭ ‬لا‭ ‬يؤسس‭ ‬لنظرية،‭ ‬ولا‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬نظرية،‭ ‬لغته‭ ‬كل‭ ‬اللغة،‭ ‬سيقهقه‭ ‬عندما‭ ‬نتثاقف‭ ‬ونرطن‭ ‬ونرفع‭ ‬يافطة‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وخياله‭ ‬كل‭ ‬الخيال،‭ ‬وليس‭ ‬الخيال‭ ‬الشعرى،‭ ‬سيقهقه‭ ‬عندما‭ ‬نتثاقف‭ ‬ونرطن‭ ‬ونرفع‭ ‬يافطة‭ ‬الخيال‭ ‬الشعرى،‭ ‬هل‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬ظل‭ ‬شعره‭ ‬شابًا،‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬أبدًا‭ ‬الشيخوخة،‭ ‬ظل‭ ‬يتفاوت‭ ‬بين‭ ‬السفاهة‭ ‬والعبقرية،‭ ‬ظل‭ ‬شعره،‭ ‬هكذا،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬سواه،‭ ‬أدرك‭ ‬سعدى‭ ‬بجنونه‭ ‬العذب،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الشعراء‭ ‬يقلدون‭ ‬أنفسهم،‭ ‬ذات‭ ‬مرة،‭ ‬وذات‭ ‬مرات،‭ ‬كل‭ ‬الشعراء‭ ‬يكررون‭ ‬ثوراتهم‭ ‬فى‭ ‬عود‭ ‬أبدى،‭ ‬فى‭ ‬متاهة،‭ ‬وأدركنا،‭ ‬نحن‭ ‬الشعراء،‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وألفناها،‭ ‬وأضفنا‭ ‬إليها،‭ ‬ماعدا‭ ‬سعدى،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬التى‭ ‬عهدناها،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المفتون‭ ‬باللغة‭ ‬كأنها‭ ‬هبة،‭ ‬أو‭ ‬بالخيال‭ ‬كأنه‭ ‬انتصار‭ ‬على‭ ‬الواقع،‭ ‬ليس‭ ‬المفتون‭ ‬بذاته‭ ‬كأنه‭ ‬استثناء،‭ ‬أو‭ ‬بالحداثة‭ ‬كأنها‭ ‬وحدها‭ ‬الفعل‭ ‬اللازم،‭ ‬ليس‭ ‬المفتون‭ ‬بالوجود‭ ‬الأبدى،‭ ‬كأنه‭ ‬محو‭ ‬للغريمين‭: ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وإثبات‭ ‬للحميمين‭: ‬الأنا‭ ‬كأصل‭ ‬والأنا‭ ‬كمرآة،‭ ‬ما‭ ‬أراده‭ ‬سعدى‭ ‬وتحقق‭ ‬له،‭ ‬هو‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬مثالا‭ ‬لأحد،‭ ‬وألا‭ ‬يكون‭ ‬أحد‭ ‬مثالا‭ ‬له،‭ ‬فإذا‭ ‬كرهناه،‭ ‬سنكرهه‭ ‬وحده،‭ ‬وإذا‭ ‬أحببناه‭ ‬سنحبه‭ ‬وحده،‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬نحبه‭ ‬أحيانا،‭ ‬ويصر‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجبرنا‭ ‬على‭ ‬كراهيته‭ ‬أحيانا،‭ ‬الشىء‭ ‬التقليدى‭ ‬الوحيد‭ ‬الذى‭ ‬فعله‭ ‬سعدى،‭ ‬وكان‭ ‬مجبرا‭ ‬عليه،‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬مات،‭ ‬مات‭ ‬مثل‭ ‬نهر‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬الجريان،‭ ‬مات‭ ‬مثل‭ ‬نخلة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عراقية،‭ ‬مات‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬مثلما‭ ‬ماتت‭ ‬أمى،‭ ‬ومات‭ ‬أبى،‭ ‬وماتت‭ ‬زوجتى،‭ ‬ومثلما‭ ‬مات‭ ‬الإسكندر‭ ‬الأكبر‭ ‬المقدونى‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬رسالته‭ ‬إلى‭ ‬أمه‭ ‬مواساة‭ ‬لى،‭ ‬مواساة‭ ‬غير‭ ‬مقصودة،‭ ‬قرأتها‭ ‬فى‭ (‬رسالة‭ ‬الحيلة‭ ‬فى‭ ‬دفع‭ ‬الأحزان‭) ‬للفيلسوف‭ ‬العربى‭ ‬يعقوب‭ ‬بن‭ ‬اسحق‭ ‬الكندى،‭ ‬فمن‭ ‬لطيف‭ ‬الحيلة‭ ‬ما‭ ‬عزّى‭ ‬به‭ ‬الإسكندر‭ ‬المقدونى‭ ‬الملك‭ ‬والدته‭ ‬عند‭ ‬حضور‭ ‬موته،‭ ‬فإنه،‭ ‬يقول‭ ‬الكندى،‭ ‬كتب‭ ‬إليها‭ ‬فيما‭ ‬كتب‭ ‬به،‭ ‬مُرى‭ ‬ببناء‭ ‬مدينة‭ ‬عظيمة‭ ‬حين‭ ‬يرد‭ ‬عليك‭ ‬خبر‭ ‬الإسكندر،‭ ‬وابعثى‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يحشر‭ ‬إليك‭ ‬الناس‭ ‬فيكون‭ ‬جمعهم‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬للطعام‭ ‬والشراب‭ ‬والسرور،‭ ‬ومُرى‭ ‬ألا‭ ‬يوافيك‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أصابته‭ ‬مصيبة‭ ‬ليكون‭ ‬مأتم‭ ‬الإسكندر‭ ‬بسرور‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬بالحزن،‭ ‬فلما‭ ‬أمرتْ‭ ‬بذلك،‭ ‬لم‭ ‬يوافها‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬فقالت‭: ‬يا‭ ‬إسكندر،‭ ‬لقد‭ ‬أحببت‭ ‬أن‭ ‬تعزينى‭ ‬التعزية‭ ‬الكاملة،‭ ‬إذ‭ ‬لستُ‭ ‬فى‭ ‬المصائب‭ ‬ببدع‭ ‬ولا‭ ‬مخصوصة‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬مات‭ ‬سعدى،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬شعره‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬خلف‭ ‬كلماته‭ ‬رسالة‭ ‬مثل‭ ‬رسالة‭ ‬الإسكندر،‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬مدينة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستقبل‭ ‬عزاءه،‭ ‬يوجد‭ ‬فقط‭ ‬موته‭ ‬المختلف،‭ ‬الذى‭ ‬يشبه‭ ‬قصيدة‭ ‬ملفقة،‭ ‬قصيدة‭ ‬ليست‭ ‬منسوبة‭ ‬إليه،‭ ‬قصيدة‭ ‬مكتوبة‭ ‬عن‭ ‬الخليج‭ ‬العربى‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬عربيًا،‭ ‬مات‭ ‬ووراءه‭ ‬المدن‭ ‬المفقودة،‭ ‬العواصم‭ ‬والموانئ‭ ‬المفقودة،‭ ‬حتى‭ ‬إيثاكا‭ ‬سبقت‭ ‬بغداد‭ ‬والقاهرة،‭ ‬وضاعت‭ ‬منه‭ ‬كما‭ ‬ضاعت‭ ‬من‭ ‬كفافيس،‭ ‬وداعًا‭ ‬إيثاكا‭ ‬التى‭ ‬أعرفها،‭ ‬وداعًا‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الذى‭ ‬أعرفه‭.‬