بين اليأس والأمل

من الفلسفة والأدب إلى الميديا

كتب:إبراهيم عبد المجيد
كتب:إبراهيم عبد المجيد

تتحول الحياة فى الفضاء الافتراضى إلى مقولات وحكم وأمثال. يحدث خلط عند بعض من ينشرون ذلك فيجعلونه على لسان كاتب الرواية أو المسرحية، بينما هو من مقولات الشخصيات المختلفة فى ظروفها الخاصة فى العمل الأدبى. حتى الشعراء لم ينجوا من ذلك، فلقد صار شائعًا أن تجد على لسان شاعر ما لم يقله. كثيرًا ما تعثرت بذلك فأرى كلمات لا تتسق لا مع لغة محمود درويش ولا صوره الشعرية لكنها تُنسب إليه، والأمر نفسه مع صلاح جاهين على سبيل المثال. أما نجيب محفوظ فهو أكثر روائى وجدت على لسانه مقتطفات أعرف أنها كانت لشخصيات رواياته وقليل جدًا من سرده هو. أما الفلاسفة والسياسيون القدامى فحدث ولا حرج عما يُنقل عنهم وهو ليس منهم. حين أنظر إلى هذا الفيض من المقولات، وخاصة على موقع مثل تويتر يخايلنى سؤال، هل يتحقق مردودها مثلا؟ أعرف أنه يوجد معجبون بها، لكن لا أظن أنهم يعيشونها أو يحققونها. أجد حديثًا مذهلًا من أعداد غفيرة عن الحب وصفات الحبيب والزوج الحسن وكيف تكون، وغير ذلك من أحاديث عن الغدر وغيره فى قصص الحب وفى الحياة الزوجية. أندهش من هذه الأفكار النهائية التى قد تكون بنت تجارب خاصة لكنها لا تحكم حياة البشر كلها. ما أكثر قصص الحب التى فشلت، وتمر الأيام وكل حبيب يجد ملاذًا فى آخر. حتى الطلاق وهو أمر بشع، قد يكون حلا جيدا لحياة سيئة، ولا يشعر أى من الزوجين بأى حزن بعده. حالات نادرة جدا لا تصل إلى واحد بالألف من الذين انكسرت نفوسهم فى قصص الحب فلم يعودوا إليها وزهدوا العالم. وربما هى عند النساء واحد فى المليون لأن المرأة فى النهاية فى بلادنا مرغمة أن تعيش فى مجتمع لايراها مكتملة إلا بالزواج والخلفة. أما إذا انتقلت إلى الفيسبوك فأرى كل الناس عليه أبرياء يعرفون كل الحقائق ولا يفعلون إلا الصواب، ويتردد سؤالى الذى سألته إحدى شخصيات روايتى "فى كل أسبوع يوم جمعة" كل الناس أبرياء على الميديا فمن الذى يصنع الشر فى هذا العالم؟ لكن هذا ليس ابن عصرنا والميديا فقط. كل ماجرى هو أن الميديا جعلته متاحًا فى ثوان، ولا تحتاج لبحث عنه فهو أمامك وبأرخص الأسعار. هذا هو دأب البشرية منذ نشأتها ومنذ عرفت طريق الكتابة. كل المدارس الفلسفية كانت محاولات لفهم العالم وتقديم رؤية نهائية له. تركها أصحابها خلفهم زادا لنا أو معينا إذا أحببت. أنا مثلا حين تدلهم الأمور السياسية والاجتماعية حولى أجد نفسى عائدا إلى زينون الإيلى، وهو أحد الفلاسفة السبعة ما قبل سقراط، وأتوقف عند برهانه عن عدم وجود الحركة الذى هو شكليا منطقى جدا، لكنه عمليا طبعا لا يحدث فالحركة موجودة. يقول أنك إذا أطلقت السهم فلكى يصل إلى هدفه فعليه أن يقطع نصف المسافة، ولكى يقطع نصف المسافة عليه أن يقطع نصف نصف المسافة، ولكى يفعل ذلك عليه أن يقطع نصف نصف نصف المسافة، وهكذا فلكل نصف نصفا ومن ثم لا يتحرك من مكانه. ألوذ بزينون لأرتاح من مظاهر الفشل أو اليأس أمامى. كما ألوذ بالوجودية التى ترى الحياة شيئا نحن مجبرون عليه، فلا أحد استشارنا فى الميلاد، ولا أحد يستشيرنا فى الموت، وبين الميلاد والموت فالآخرون هو الجحيم. أجل. أنت فى الحياة يجب أن تكون أو تعمل كما يريد الآخرون وأولهم حبيبتك فلا تقابلها مثلا إلا نظيفا معطرا، ولا تذهب إلى عملك إلا بما يليق، ولا تحضر سهرة إلا بالزى المناسب، ولا أحد يعطيك فرصة المشى عاريا فى الطرقات. أجمل حرية هى أن تخلع كل ما وضعته فوقك الحياة، وحبذا لو أُصبت بالخرس فلا تتكلم مع أحد، أوبالطرش فلاتسمع.


***

كثير من الفلاسفة جعلوا سوء الفهم قاعدة للحياة التى تمتلئ بالضجيج. الوجودية جعلت سوء الفهم علامة على الحياة وصاغها ألبير كامى فى مسرحية بعنوان "سوء تفاهم" مثلا. وعندما كتب عن الديكتاتور كاليجولا جعله يريد أن يأتى بالقمر فى يده. بحث فاشل مقدما عن المستحيل. طبعا يمكن أن تضم إلى زينون الإيلى الكلبيين أوالشكاكين وغيرهم بينما على الناحية الأخرى تجد المثاليين الذى يرون للعالم معنى، ولصراع الأفكار أساسا فى التقدم مثل هيجل، وتستطيع أن تمشى لتجد الماديين الذين جعلوا صراع الأضداد ليس فى الأفكار بل فى المصالح، وطبعا كارل ماركس علامة، وتستطيع أن تضيف علماء النفس باتجاهاتهم المختلفة وهكذا. إذا ابتعدت عن الفلسفة ونظرت فى أعمال الأدباء الكبار فستجدها مَعبَرا للفلسفة أيضًا ومحاولة للخروج من شكل الحياة حول الكاتب.هذه المحاولة لم تكن منذ البداية، ففى البداية كان الأدب صورة أخرى للفكر السائد، لكنها صارت بعد ذلك تمردًا وتقدمًا وصناعة لعالم آخر. حتى فى مرحلة واحدة مثل الأدب اليونانى القديم ترى يوريبيدس تمرد على كلاسيكية سوفوكليس وخرج عن الملامح الثابتة للمكان والزمان والحدث. وفى بدايات العصر الحديث هناك من عاد لسوفوكليس مثل راسين، ومن تمرد أكثر مثل فيكتور هوجو والرومانتيكيين ومَن بعدهم. الخلاصة وجد الأدباء فى الأدب ملاذا للحرية.. الحرية فى الكتابة هى أجمل ممارسة للحرية المفتقدة فى الحياة حتى وصلت مراحل كبرى فيما نسميه بالعجائبية التى طلت علينا من أمريكا الجنوبية منبع الديكتاتوريات!. سبقتها طبعا ألف ليلة وليلة فلم تكن مُنتجا لبلاد ديموقراطية من فضلك. هذه الحرية لن تكلف صاحبها الانضمام لحزب سرى ولا عمل سياسى، وربما كان هذا مصدر غِيرة بعض الحكام فى التاريخ من هؤلاء الأحرار – رغم أنها حرية على الورق - ورغم أنهم لايتكلمون فى السياسة، فسجنوهم وقتلوهم. كل هؤلاء الأدباء والفلاسفة عبر التاريخ حاولوا إقامة بيوت أخرى غير ما نراها. الأدباء جسدوها لك ترى فيها سكانها من شخصيات العمل الأدبى. بيوت واسعة أكبر من الفضاء حولك. لكن ما إن تنتهى حتى تجد البيت الذى تعيش فيه ضيقا. لا أقصد مساحته أو عدد الغرف. لكن أقصد المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى لا يبدو أن هناك حلًا دائمًا لها، وهنا تجد نفسك مادمت مثقفًا عائدًا إلى الفلسفة كى تفهم، والكارثة تتضاعف حين تفهم، وتتضاعف أكثر حين تدرك أنه لن يستمع إليك أحد. الآن صار الملاذ بالفضاء الافتراضى مريحًا إلى حد كبير، وحين تجد عليه المقولات الكلية المعنى، صحيحة أو غير صحيحة فى الإسناد، ترتاح إليها كما يرتاح غيرك، ويظل كل شيء على حاله. المدهش أن أجمل الأصوات فى الفلسفة والأدب هى التى لا ترى لهذا العالم معنى. وكما قلت كان زينون والشكاكون وغيرهم قبل الوجودية، وكان فى عالمنا العربى وفى العصر الجاهلى طرفة بن العبد فى معلقته حين قال:"لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَـى... لَكَالطِّـوَلِ المُرْخَى وثِنْيَاهُ بِاليَـد". فالموت قادم لا محالة والحياة خدعة مهما طالت وهناك من يمسك بأطرافها لا تراه.
***

جاء أبو العلاء المعرى بعد الإسلام قبل الوجوديين، ولا أظن أنه قرأ زينون الإيلى أو كانت تمت ترجمة أفكاره لأنه لم يترك كتبًا، كما تمت ترجمة أرسطو مثلًا إلى العربية. لقد سبق المتنبى المعرى لمثل هذه الرؤى الوجودية لكنها عند المتنبى متفرقة لا تمثل منهجًا " يموت راعى الضأن فى جهله.. ميتة جالينوس فى طبه" هى عند المعرى منهجا ورؤية فى كثير من قصائده:
"نزول كما زال آباؤنا... ويبقى الزمان على ما ترى." "نهار يضئ وليل يجئ.. ونجم يغور ونجم يُرى" أو قصيدته الأشهر" تعب كلها الحياة" غيرُ مجدٍ فى ملّتى واعتقادى نوح باكٍ ولا ترنم شاد وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيـس بصوت البشير فى كلّ ناد أبَكَت تلكم الحمامة أم غـنّت على فِرْعِ غُصنٍها الميّاد إلى آخر القصيدة.
 قرأت عن ذلك مبكرًا جدًا لبعض المفكرين وكنت فى الخامسة عشر من عمرى ومشى معى المعنى والإحساس. ورغم الإعجاب الرهيب بالمعرى لم تتوقف الحياة. ورغم ما فعله حكام فى أدباء وفلاسفة وصوفيين مسلمين من سجن وقتل وذبح لم تتوقف الحياة. فى الفيلم العظيم 451 فهرنهايت الذى أخرجه فرانسوا تروفو عام 1966 عن رواية الأمريكى راد براد برى، فالدولة التى أحرقت الكتب استطاع سكانها الهروب إلى الغابات ويحفظون الكتب يقرأونها على بعضهم. الكتب من أجمل مظاهر الحياة لأنها إما تحاول تفسيرها، أو تبنى لك قصورا أفضل منها، ترتاح فيها قليلًا كأنها صلاة! لقد أحرق هتلر ملايين الكتب قبل أن يحرق ملايين اليهود، وتعلم منه الصهاينة ماهو أبشع. أى حرق الناس والبيوت. الاستيلاء على بيوت الفلسطينيين هو سياسة الأرض المحروقة التى تمشى عليها الصهيونية فتفوقوا على هتلر. مافعله هتلر لم يُنس بينما الصهاينة يتصورون أن ما يفعلونه سيشمله النسيان.
 سؤال استمرار الحياة رغم بشاعتها هو سؤال البشرية الغائب. يعلنه الشعراء تشاؤمًا أحيانًا، فرعب أكثر من هذا سوف يجىء، كما قال صلاح عبد الصبور أو وتفاؤلاً أحيانًا فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة كما قال محمود درويش، ويبدو لك بالفعل أن الحياة لا تتوقف حتى إن لم تستطع أن تمشى باسمك إلى أجدادك القدماء.حتى لو توقفت عندالجد الثالث أو الرابع أو حتى الخامس. جوار الفلسفة والأدب طبعًا تأتى بقية الفنون، فكلها تحتفى بالحياة وهى التى جعلت للجميل من الماضى وجودًا أكثر مما جعلت الكتب، التى تتسع أو يمكن أن تتسع فيها مساحة الحديث عن الشر والأشرار أيضًا. وقبل أن يعرف الشاب الطريق إلى المتاحف ليرى الآثار أو معارض الفنون يسمع الموسيقى والغناء. راضيا أو مرغما فهى حوله فى كل مكان، وكلها أيضًا تبنى قصورًا فى الهواء. حتى أغنيات الحب الضائع تدفع إلى الحب ولا تجعله مكروهًا، فالشفقة لا تتجاوز المُغنِّى، وهذايؤكد لك أن قدرة الإنسان على صناعة الحياة لا تتوقف، وهذا هو اللغز. أتذكر تجربتى مع القراءة وكيف أحببت فى سن مبكر جدا، الخامسة عشرة قصائد وأبيات شعر للمعرى كلها لا ترى للحياة معنى، بل ودونتها فى مفكرة كما يحدث التدوين الآن على الميديا. ورغم ذلك كافحت وتعلمت وانتميت لجماعات سياسية وتفرغت أكثر للأدب وواصلت الكتابة وأجد ما أكتب عنه، وأشعر أن الحياة أقل من الفرصة التى تعطيها، أو ستعطيها لى للكتابة عما أريد ولا أبتئس، ولديّ مثل غيرى آلامى الخاصة، لكنى أتجاوزها بمجرد دخولى إلى الفضاء العام. لا يفارقنى المعنى أن الآخرين هم الجحيم لكنى لا ابتعد عنهم. إذا كانت عادة فلقد سلبتنى، واذا كانت حب استطلاع فلا يضايقنى غير الكذابين. كيف عرفت أنهم كذابون؟ لقد أوقعتنى أو أوقعتهم الظروف فى طريقى. لم يعودوا فى طريقى مرة أخرى لكن أعادتهم الميديا، وإن صار من السهل أن أغمض عينى أو «أطنش» كما يُقال، فقط أتكلف "كليك" لأنتقل إلى صفحة أخرى. أشعر أنى تكلّفت الكثير. ثم أضحك. لا أتهم أحدا بالمنفعة أو الشللية أو حتى الجهل وما إلى ذلك مما أسمعه حولى، فهو أمر لم أقف عنده كثيرًا، فحين صنفونا بين الستينيات والسبعينيات كنا فى كل ماسُمى بجيل واحد، ستة أو سبعة فى المقدمة، ومن ثم كان يمكن تجاوز أيّ مكيدة. لذت دائما بتعريف سعيد الكفراوى أن هذا تصنيف لمرضى البلهارسيا. يرحمك الله ياسعيد مازلت حين أبحث عن رقم أحد فى الموبايل أجد رقمك ولن أحذفه حتى نلتقى. الأمر نفسه مع شاكر عبد الحميد ومع الفنان مصطفى عبد الوهاب وكثيرين يغادروننا كل يوم. أجد هذا الفراق المتكرر تتغلب عليه مقولة البقاء لله وحده، وهذا هو حال الدنيا، فهى تمضى إلى الأمام، وأجد أنه لا سبيل لمفارقة الحزن على موت الأحباء غير أن يموتوا فى غيابي! أجد نفسى أعود إلى السؤال الأول كيف وكل هذه الفلسفات عن الألم يظل العالم يمضى إلى الأمام. كيف وكل هذه البيوت الجميلة التى أقامها الأدباء وشوهها الواقع والنظم السياسية يظل العالم يمضى إلى الأمام. كيف وعبر خمسين سنة وكل مانسمعه من رجال الدين يجعل الآخرة أولى من الدنيا حتى صارت الدنيا حولنا عشوائيات فى البناء والمظهر والسلوك، يظل العالم يمضى إلى الأمام. باختصار الحياة تمضى رغم كل الآلام، أضيف إليها الميديا التى تقذف بالمقولات الصحيحية المصدر أوالكاذبة على صفحاتها، وتظل المقولات التى تبدو إنسانية جدًا رغم أنك لا تعرف إلى الأخيار أو الأشرار ينتمى من ينشرها، لكن فى نشرها راحة للمحارب، أو أيضًا وهذا هو الأهم، راحة للكسلان، والأهم راحة للشرير الذى أراه يكذب على صفحات الميديا وسوء حظى أنى عرفته يومًا. لكنى أنظر إلى عمرى وألوذ بالراحة التى تعطيها لى الكتابة. حتى حبسة الكورونا والمرض جعلتها فسحة جميلة فى رواية جديدة  وفى مثل هذه المقالات، ولست إلا مثالاً على إرادة الإنسان الذى يرى كل شيء إلى زوال!!.