زياد خداش - رام الله
منذ بداية العام الدراسى وأنا مضرب عن الضحك، أشعر بوجع فى وجهى حين أضحك!!.
ذهبت إلى طبيب الأعصاب، فلم يجد سبباً جسدياً لحالتي، لكنه حين عرف قصة عبد الرحمن هزّ رأسه، وقال: الآن فهمت، أنت تعانى من مرض اسمه مرض (التماهى العضوى مع أوجاع الآخرين).
جاء التلميذ عبد الرحمن من غزة إلى مدرستي، قال لى جملةً واحدةً بعدها صرت شخصاً غير قادر على الضحك: «أستاز، أنا لما بضحك بوجعنى وجهي».
هو طفل فى الصف الرابع، لمحته بالصدفة أثناء تجوالى الضجر فى الساحة، كان يجلس وحيداً فى الزاوية، بوجهه نصف المحترق وعينيه غير المصدقتين أى شيء يحدث حوله: «أستاز، لما قصفت الطيارات حارتنا كنت وقتها بلعب مع محمد صاحبي، محمد مات وأنا انحرق وجهي». شرح لى عبد الرحمن قصة الحرب أكثر من مئة مرة، بعشوائية طفولية منهكة، خرجت من قصته بثلاث حقائق مكررة بإلحاح، هي: الحريق الذى أكل نصف وجهه، وصديقه محمد الذى قضى تحت القصف، ثم لطف الممرضات اليهوديات فى مستشفى (هداسا). «أستاز، ساعدنى أكتب قصة الحرب، بقولوا عنك بتكتب قصص، أنا شاطر فى الكتابة، جربنى بس، شو رأيك أستاز انسمى الكتاب أنا ومحمد والحرب؟».
عبد الرحمن رسام أيضاً، رسم كثيراً من اللوحات فى غزة وألصقها على حيطان الحارة، طلبت منه أن يرسم، فتدفق هدير الدبابات وصياح الأطفال المتألم من لوحاته، جاء المدير وبعض المعلمين متلهفين، دهشوا من الموهبة، عانقوه.
«كل شهر بدقونى فى هداسا إبرة طولها شبر يا أستاز، عشان الحرق يخف، وبعد شهرين راح أعمل عملية تجميل، راح يرجع وجهى زى قبل يا أستاز، راح أرجع أضحك وأسمعك ضحكتي، غزة والضفة راح يسمعوا ضحكتي. أستاز فى على راس منخارك إشى أحمر، شو هادا، حرق؟».
فى المكتبة كان عبد الرحمن يرقص على إيقاع موسيقى، يد تعزف على غيتار غير مرئي، ويد أخرى تتحسس وجهه بفزع، عيناه ما زالتا غير مصدقتين أى شيء يحصل فى العالم، يقول للطلاب فجأة سارقاً منى صلاحية سؤالى وإدارتى للحصة: «احزروا شو قصة رقصتي؟». يقول الطلاب قصصاً كثيرة، وأقول أنا، أيضاً، قصة ما، لكن عبد الرحمن يخيّب ظننا بغضب ويصيح: «ولكم هاى قصة الغيتار اللى كنا نعزف عليه أنا ومحمد، ما حدا فيكم بعرف قصتى وقصة محمد، كنا نعزف على الغيتار إللى أهدانا إياه راجل أجنبى أشقر كثير، كمان هاى قصة وجهى إللى انحرق بنار الطيارة. إنتوا شو بعرفكم ؟».
لم يعد طلابى يضحكون فى الصف، قلت لهم: «الضحك يؤلم وجه عبد الرحمن، تضامناً مع ألم عبد الرحمن، سنوقف الضحك مؤقتاً حتى تلتئم بشكل جيد جروح وجهه». وافق طلابى بتأثر، قطبوا جباههم، توقفوا عن قول النكات، وكان إذا نسى أحدهم وقال نكتة هجم الطلاب على فمه وأغلقوه، أما أنا فقد ألغيت القيام بحركات مضحكة وقراءة القصص المضحكة عن شخصيات مخترعة كخميس الضخم عاشق الملفوف، الذى بول على نفسه لأنه خاف من الفأر.
(أستاز ممكن بلفونك؟ بدى أحكى مع خالتى أم محمد، بتحب تسمع صوتي، هى بتحكى لأمى فى غزة دائماً، خلى عبد الرحمن يكلمني، أستاز ما تزعل منى لأنى ما بضحك لما إنت بضحكنا، أنا ما بقصد، أنا بحب الضحك كثير، بس عشان حُرق وجهى لما أضحك بصير وجهى يوجع كثير، بصير يشعط شعط أستاز. يا أستاز هات بلفونك، إنت إمبين بخيل؟ أستاز ما جاوبتنى شو هذا الإشى الأحمر اللى على راس منخارك شكله حرق قديم؟