حوار: محمد حسنى عليوة
د. سعيد بن محمد السيابى أحد الوجوه البارزة فى عالم الأدب والعمل الأكاديمى العمانى والخليجى، حاصل على بكالوريوس فى الآداب تخصص فنون مسرحية بدرجة امتياز، من جامعة السلطان قابوس عام 1999، ودرجة الماجستير بتقدير امتياز فى الآداب تخصص اللغة العربية فى رسالة عنوانها: «توظيف الأدب الشعبى فى النص المسرحى الخليجى» من جامعة السلطان قابوس2004.
ونال الدكتوراه من جامعة جريفث Griffith University (كوينزلاند– استراليا)2011 فى موضوع (المسرح والتراث الشعبى فى الثقافة العمانية المعاصرة).
عضو ورئيس جمعية المسرحيين العمانيين فى العام 2011. عضو فى مجلس أمناء جائزة الدوحة للدراما العربية 2020. كما شغل عضواً فى عدة لجان تحكيمية لفعاليات ومسابقات أدبية عربية مختلفة.
تنصبّ اهتماماته البحثية فى المسرح والدراما، والتطورات الثقافية فى المجتمع واستخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة، التراث الشعبى، والاستثمار الثقافى والفنى وعلاقته بالتنمية. وصاحب مشروع إبداعى متميز، ممتد عبر محطات روائية تتمثل في: رواية «جبرين.. وشاء الهوى»، 2016. ورواية «الصيرة تحكى»، 2020.
وإسهاماته الأخرى فى القصة القصيرة، من بينها: مجموعة «رغيف أسود»، 2015. و «أحلام الإشارة الضوئية»، 2017. و«المبرأة والقلم»، 2018. و«مشا..كيك»، 2019.
كما كتب للتليفزيون المسلسل التلفزيونى «رياح الحب»، الفائز بالجائزة العربية للإبداع العربى 2013، والعديد من التمثيليات الإذاعية التى تم إنتاجها بإذاعة سلطنة عمان منها: «الوصية المفقودة» و «من منّا لا يعانى».
وله مشروع إبداعى فى الكتابة المسرحية ذات الفصل الواحد منها: «رجلان وظل» و «وداعا غاندى». كذلك كتبه النقدية، منها: «توظيف الأدب الشعبى فى النص المسرحى الخليجى» 2006. و «الآخر فى المسرح العمانى» بالاشتراك مع د. كاملة الوليد زاهر الهنائى، 2013. و«أسئلة النص أجوبة العرض فى المسرح العمانى والخليجى» 2019.
كان لنا معه هذا الحوار..
بدايةً، فى مراحل مبكرة من حياتك، وعبر تجاربك الإبداعية المختلفة، بالطبع هناك شخصيات مهمة ممن كان لها الباع الكبير فى ترك بصمة ما فى تكوينك. من هى تلك الشخصيات التى تتذكرها وتودّ حضورها الآن؟
الذاكرة هى الوعاء الذى نبحر فيه، ومن معينها نستورد العديد من الحكايا والمواقف المؤثرة، وفيها تراكمت أفعال وأقوال الشخصيات التى استطاعت أن تضع بصمتها فى حنايا أرواحنا بداية من الأسرة، فخالى الكبير «سالم صالح السيابى» هو الشخصية المحورية فى تكوينى الصغير الذى أمدنى بالكتب وفتح لى أبواب مكتبته –أهديته آخر عمل روائى لى «الصيرة تحكى» - وهو الأب الكبير الذى يمدنى بفرح كبير فى كل عمل إبداعى أنشره، وهناك زوجتى الدكتورة «كاملة الهنائى» وشريكة مشوارى العلمى والعملى والتى -ولله الحمد- على امتداد سبعة عشر عاماً كانت القارئ الأول التى تمنحنى بصدق وبدون مجاملة رأيها الصريح فيما أكتب وأنشر، وهناك الكتّاب الكبار الذين كنت أقرأ لهم بشغف ومحبة وأتخيل اللقاء بهم ومناقشتهم كـ«عباس محمود العقاد» و«توفيق الحكيم» و «سعد الله ونوس» ونجيب محفوظ ومن الكتّاب الأحياء الذين تأثرت بهم وتعلمت منهم الروائى الكبير «إبراهيم عبدالمجيد»، والكاتب «محمد سيف الرحبى»، والشاعر «عبدالرزاق الربيعى»، وغيرهم من الروائيين العالميين الملهمين.
أنت من الكتاب الذين راوحوا بين كتابة الرواية والقصة والمقال والدراسة النقدية.. ولك إسهامات عدّة فى المسرح تأليفاً ونقداً، فهل أنت مع فكرة الوفاء لنوع محدد من الكتابة دون غيره، أم تقف على مسافة واحدة بينها؟
فعل الكتابة فى الأنواع السردية والدرامية يمثل لى امتحان تحد، فأنا محبٌ للقراءة فى كل ما يسقط فى يدى من كتب وأواظب بشكل يومى على القراءة والتعلم الذاتى وأميل إلى خوض تجربة الكتابة بمجرد أن أشعر بحالة داخلية حول عنوان شدنى أو موضوع استوقفنى أو قضية أثارت بداخلى أحاسيس من التعاطف والرغبة فى التعبير عنها وعما وقع عليها، وبمجرد أن أشرع فى الكتابة أجدنى منجذباً لنوع من الكتابة دون سابق تخطيط، ولكن تتملكنى الحالة الكتابية وأعيش معها معظم الوقت، وبعض التجارب تعيش وتستمر معى لسنوات متقطعة من الكتابة فيها، كرواية (جبرين.. وشاء الهوى)، وبعضها لأشهر متواصلة مثل مسلسل (رياح الحب)، فالتنوع فى محاولة الكتابة وتجربتها بالنسبة لى شىء صحى، ومعظم الكتّاب فى العالم والمفكرين قد دخلوا فى تجربة أنواع كتابية بعضها متشابه فى صناعته كالأنواع الدرامية (المسرح والتليفزيون والإذاعة والسينما)، والبعض الآخر فى السرد (القصة، والقصة القصيرة جداً، والرواية)، وشخصياً أبحرتُ فى تجربة كتابة معظم الأنواع السردية، وساعدنى فى ذلك تخصصى العلمى فى المسرح والدراما، وثانيا شغفى فى قراءة المجموعات القصصية والروائية.
المكان، ليس بوصفه فحسب ذاكرة الوجود الإنسانى الحية، أو الشاهد على خلق نقطة التقاء بين ضمير الكاتب -المشبع بالتراث الشعبى- ووعى القارئ، فهو أيضاً فاعل قوى فى أحداث رواية «جبرين وشاء الهوى» وعناصرها، بما يحتله من أهمية مؤثرة فى تشكيل البيئة ورسم أبعادها بما يتوافق مع ارتباط الراوى بمحيطه الثرى. فما مدى تأثير المكان، وما يمثله لك التراث فى مشوارك الإبداعى؟
المكان عشق متجدد. تستثيرك فيه التفاصيل، وتناديك المحبة المكتنزة فيه، والعبق الأصيل الذى تقف مشدوداً له. المكان محبة زرعها القدماء من حولنا، وبصمات شاهدة على العقلية والجهد والأفعال العظيمة. بوجود المكان فى العمل الروائى تجد الأسئلة شاخصة ومتحركة أمامك ترسم الاستذكار وتنادى لحظات الصدق الفنى، وسلطنة عمان كموقع جغرافى من الدول العميقة تاريخيا، ولها امتداد معرفى وتواصل حضارى، قال عنها الرحالة والمؤرخ «Bidwell» الذى زار سلطنة عُمان فى عام 1865، ووصفها على أنها «مكان ملهم للفنون والتراث»، فالمكان كان ومازال شواهده حاضرة لكل زائر للسلطنة، فتقع عينك على تفاصيل مكانية كثيرة كالقلاع والحصون والبيوت والأسوار والقصور، ومنها قصر «جبرين» الذى ألهمنى بتفاصيله وتاريخه فوقعتُ أسيراً له فى العمل السردى وكان عنواناً لرواية (جبرين وشاء الهوى)، فتاريخياً تحول قصر «جبرين« إلى حصن «جبرين» لأنه تحول من مكان للعيش لابن الإمام ليكون مقراً للحكم عندما تولى الإمام «بلعرب بن سلطان اليعربى» الحكم بعد أبيه، وهذا الحصن تحيط به واحات من النخيل وله العديد من الزخارف والسلالم والغرف التى تحمل بداخلها أسراراً تحكى، فكان شغفى الكبير فى هذا النص السردى الذى يدور حول شخصيتين رئيستين هما حارس الحصن والسائحة القادمة من زنجبار بأفريقيا، وهى الجزيرة التى كانت فى فترات تاريخية امتداداً لعمان والعاصمة الثانية للحكم فى عهد السيد سعيد بن سلطان البوسعيدى، وما زالت هناك امتداد لأسر عمانية تعيش فيها. فالشخصيتان تتقابلان وجها لوجه فى داخل «جبرين» ويربط بينهما الحب الذى يُستدعى من خلال ستة عشر فصلاً فى الرواية وتكون الأسئلة: حول هل يمكن أن يكون الحب بعد الوصول للأربعين؟ وكيف هو حال المحبوب؟ وماذا ولماذا على المحبين أن يعيشوا لحظات المعاناة لأجل أن يكتمل اللقاء بينهما؟ وختاماً، ما أثثه المكان فى قلبيهما، وما تحدثا عنه من أسرار حول المكان التاريخى «جبرين» وما هو القصر الذى سيجمعهما كزوجين، لتبقى أسئلة المكان مشرعة ومفتوحة وتسقط على قيمة وأهمية أى مكان يمكن أن يجمع حبيبين ليشكل ذاكرة لهما.
بناء الشخصية السردية، بناء يعتمد على صنع إشكالية الهوية الذاتية/ الكوزموبوليتانية، هوية البيئة والثقافة والفكر.. هوية تنبع بالأساس من «معين» الكاتب ذاته. فى رواية «جبرين..وشاء الهوى»، نلمس الشخصية هنا هى الحصن، الحاضر بالرموز التاريخية والبعد الجغرافى، وما تحمله خصوصية الحياة آنذاك، وأهمية ما يقوم به الإنسان العمانى من تواصل مع ثقافته وتاريخه الإنسانى. حدثنا عن ذلك.
الشخصية الروائية هى الشعلة التى تخطف البصر بمجرد أن تقع العين عليها لتكون الوهج الجاذب لكل الأحداث والآمال والطموحات والمعاناة والتضحيات تنصب عليها وحولها وبها ومعها، فشخصياتى الروائية أعيش معها وتعيش فى ذهنى طوال فترة كتابة الرواية وبعض الأحيان أتقمصها وأتنازل عن طبيعتى المبتسمة لأدخل فى جوها إذا كانت مكتئبة فى بعض الأحيان، وهذا يحدث معى وربما المحيطون بى يعلمون معاناة أن تكون كاتباً مختلفاً وتبحث عن المصاعب الكتابية، وليس كتابة الشخصية السهلة والواقعية والتى يكون حديثها فى متناول اليد وإنما محاولة تغليف أى حديث بلغة فلسفية قريبة من حكم الحياة..
وخلاصات القول ففى رواية «جبرين وشاء الهوى» نجد هناك حارس الحصن وغالباً ما يكون رجلاً بسيطاً ومستواه الثقافى متواضع ولكن فى الرواية هو كذلك ويزيد على شخصيته استجلاب حكم الأجداد والآباء ويسطر جميع الصعوبات التى تقع على رجل -أى رجل- يفكر فى أن يعيد الحب إلى قلبه ويعيش مع محبوبة من جزيرة بحرية بعيدة «زنجبار» وهى محملة بالكثير من الاختلافات فى التربية والثقافة ولكنه الحب متى ما يقع لا يعرف الحدود ولا يقف أمام الألوان المختلفة ولا يحده اختلافات مكانية فهو توهج نورانى داخلى يشتعل بالشوق واللهفة.
حدثنا عن ظروف كتابة رواية «الصيرة تحكى»، ومآلات الغوص بقارب رحال فى غمار التاريخ، بما كانت عليه حقبة احتلال البرتغال لـ«عُمان»، والتى نلمس فيها أيضاً ثيمة الاتكاء على تصدير «المكان» للمشهد السردى، كما فى رواية «جبرين وشاء الهوى». بالطبع ليس اتكاءً عابراً، بل هو ضمن مشروع بحثك عن كبرياء الإنسان ومكانه/الوطن، ملمحه الوجدانى والهوية.
رواية «الصيرة تحكى» هى تجربة كتابية جديدة بالنسبة لى والخوض فى غمارها لم يكن سهلا لأنها تتحدث عن 100 عام من الاحتلال البرتغالى لسواحل عمان وهذه المرحلة التاريخية لا توجد لها كتابات توثيقية عمانية وما توافر هو بعض الشذرات والإشارات حولها وما توافر هو عن طرد هذا الاحتلال وتوحد عمان على يد الإمام «ناصر بن مرشد اليعربى» وما بين ذلك للأسف لم تكن المصادر العمانية تذكره ربما لأسباب كثيرة منها الانشغال بالمقاومة، ومن هذه النقطة كان التحدى الذى سعيت لتحقيقه «روائياً» أن أكشف عن هذه المرحلة المظلمة عمانيا من التوثيق، واستعنت بما وجدته من وثائق برتغالية ومراسلات حدثت بين القادة البرتغاليين فى عمان ونائب الملك فى الهند والملك فى البرتغال ومن خلال البحث عن الآثار والشواهد التى ما زالت موجودة على أرض السلطنة فخرجت هذه الرواية الواقعية الفنية والتاريخية المتخيلة لتربط بين الحدثين من خلال طالب الدكتورة الذى يعثر على إجابات لبعض الأسئلة ويبحث عن الأخرى.
رواية «الصيرة تحكى» هى بالنسبة لى وفاء لأرضى وبلدى ومنطقتى الضيقة التى أسكن فيها واسمها «ولاية قريات»؛ لأن الأحداث التى تدور فيها مركزة فقط على وصول البرتغاليين لهذه البقعة الجغرافية وماذا حدث فيها من جرائم وصعوبات وبطولات قام بها أهلها لطرد هذا المحتل من خلال الاستذكار التاريخى بمحاكمة حالية فى القرن الحادى والعشرين التى يتصف به الغرب بأنه الرائد فى الحضارة والديمقراطية ويرسل الكثير من الدروس للشعوب الحالية وهو لو رجعنا لتاريخه نجد أنه مر بتحولات كثيرة وارتكب أبشع الأخطاء الإنسانية، وما حضارته الحالية إلا وقوف على ثروات سُلبت كثيرة وسلوكيات وممارسات دينية مجحفة وتجارة ومصالح لم تراع أى قيم إنسانية ولا بشرية، فرواية الصيرة تنتصر لأصحاب الحق وتدافع عن الأرض وأهلها وأن البقاء مهما طال الزمن وسُلب الحق من أصحابه سيعود يوماً بفضل اجتماع واتفاق وتلاحم أصحاب المبادئ والحق والخير مهما طال الزمن.
فى مجموعتك القصصية «مشا..كيك»، عوالم سردية مكثفة، وتضمر رمزيتها كثيرا من «إيحاءات تتوالد من داخل النص مُحدثة حالة من الانزياح والمفاجأة الجمالية» كما جاء فى تقديم الدكتور محمود سعيد، رئيس تحرير مجلة ينابيع ثقافية، لرؤيته النقدية حول المجموعة التى صدرت عن «الآن ناشرون وموزعون» بسلطنة عمان. فكيف تنظر إلى فن القصة القصيرة؟
القصص القصيرة جداً هى مسامير معلقة على جدران أرواحنا بقصصها التى تنسال أمام عيوننا كالإشارات الضوئية المفاجئة والقوية والتى تقول بجمل ومفردات قليلة ما يمكن أن يكتب أمامه عشرات العبارات فهدفها اقتناص من الحكم والأمثال فى ثوب فلسفى قصصى موجز جداً.
فمجموعة «مشا..كيك« سبقها مجموعة «أحلام الإشارة الضوئية« و«المبرأة والقلم« و «رغيف أسود« وهى مجموعات تحمل فى داخلها شعلات من الأمل والمعاناة والإخلاص والجحود والقيم والعبث والحب والكره، وغيرها من المتناقضات الإنسانية فى السياسة والدين والاقتصاد والاجتماع، وعن الشباب والمرأة والأطفال.
«المسرح كان ولا يزال هو أقرب الممارسات التعبيرية عن الحب».. هذا الجانب المهم من جوانب البناء الإنسانى، من ضمن ما تطرحه فى كتابك «أسئلة النص أجوبة العرض فى المسرح العمانى والخليجى».
عمق الفلسفة الإنسانية والتقارب المجتمعى تجسدت فى المسرح بجميع مدارسه الكتابية والإخراجية، فهو لسان كل فئات المجتمع وصندوق مشاعرهم والمعبر عن ماضيهم وواقعهم وهواجسهم المستقبلية، فالحب وزراعة الأمل قواعد قدمتها الكثير من النصوص والعروض المسرحية، فكانت رافدًا استطاع المسرحيون من خلاله نقل هذه القضية المطلقة التى تهم كل إنسان فى كل زمان ومكان وتجسيدها على خشبات المسرح. ومحاولتى لتقديم نماذج مسرحية من المسرح الخليجى والعمانى ما هى إلا محاولة لتسليط الضوء على نجم كبير يضىء سماء أرواحنا ويرشدنا إلى الطبيعة الإنسانية وفطرته السوية وما يقوم به الحب من أدوار كبيرة فى الحياة وما عكسه المسرح من خلال تجارب متعددة.
فى الكتاب نفسه، تطرح مزيداً من التساؤلات حول المسرح ومستقبل توظيف وسائل الاتصال الحديثة فى تشكيل الوعى المجتمعى، وماذا يمكن أن ينتجه التطور التكنولوجى من رفد ثقافة ذات خصوصية بعيدة عن الرتابة والأحادية.
سر بقاء المسرح فى تأقلمه مع مقتضيات كل عصر ودخوله عوالم التجريب المستمرة والتى يمكنها تقديم لغة المسرح حتى وهو يقدم بالتمثيل الصامت «البانتومايم» فكيف ونحن الآن نعيش إسهال وسائل التواصل الاجتماعى والابتكارات الكثيرة فى الأنظمة المتسارعة والتى تستقطب الملايين فى العالم وينتقل بين استخدامات مختلف شرائح المجتمع.
هناك ثورة هائلة تقودها وسائل التواصل وهى بلا شك خلقت منطلقات لوعى مجتمعى وتأثرا وتأثيرا بالغين وهذا ما حاول كتّاب المسرح والمخرجون فى سلطنة عمان تناولها بداية من زراعة الخوف حول الاستخدام المفرط له ودخول هذه المواقع -بلا استئذان- كل بيت عمانى وفى يد كل شرائح المجتمع ومن ثم الأدوار السلبية وكذلك الإيجابية التى حملتها مثل هذه الوسائل فرصدت عددا من النصوص كانت عتباتها الأولى عناوين وسائل التواصل بمسمياتها والبعض الآخر من العروض تناولت ديكورات وملابس تشاركية من وسائل التواصل ورموزها المعروفة.
ثقافة الخصوصية كانت على المحك هذا العنوان العريض الذى تصدر الموضوعات ولكن فى نهاية عدد من العروض كانت الدعوة إلى التأقلم والاستفادة من الإيجابية هو الطريق الصحيح فلا يمكن إغلاق الحدود أمام عاصفة عالمية وإنما تسليح وتجهز الطاقات الخلاقة لدى الشباب هو الدعوة التى قدمتها النصوص والعروض المسرحية العمانية.
المناخ السياسى والاقتصادى فى العالم، بما لهما من تأثير فعلى أو هامشى، وإحداث إزاحة كلية أو جزئية فى بنية مجتمعات ذات هوية ثقافية وعرقية ودينية مشتركة، فهل يمكن لفن «المسرح» أن يكون فارقاً فى مقاومة تلك التغييرات المناخية «السوسيولوجية»، والبقاء ندّا قوياً؟
المسرح سلاح ذو حدين وهو كمظلة فكرية ثقافية فنية يحمل الإيجابيات ويزرعها فى المناخات المجتمعية، وكانت له أدوار تحررية ومسرحية أحدثت هزة فى المتجمد الاجتماعى من عادات وأعراف واستطاع خلق هزات ارتدادية سياسية أحدثت صدور تشريعات وقوانين جديدة.. ومتى ما كان صدق الرسالة وحداثتها المجتمعية كانت دافعًا لذلك؛ فمسرحيات كـ«بيت الدمية» لـ«هنرى إبسن» و«كوخ العم توم» التى تحولت من رواية للمسرح الأمريكى، وهناك مخرجون كبار كـ«برخت» أعماله الإخراجية كانت مرتكزات لثورة نضالية نحو التغيير الاجتماعية وعدم القبول بالواقع كما هو بل محاولة تقديم التغيير المطلوب الذى كانت الجماهير تطمح إليه، لهذا تعرضت شمعة المسرح لأكثر من ريح قوية حاولت أن تطفئ ذلك النور الذى يقدمه ومنعت العديد من النصوص من النشر والعروض من التقديم وأغلقت عددا من المسارح، ولكن تلك الرياح تنتهى مع خفوت قوتها ليعيش المسرح أطول من عمر مانعيه ومنتقديه وتستمر رسالته وقبولها حتى لو بعد حين والنماذج على ذلك كثيرة فقد قوبلت الممارسات القمعية والتجاهل والرفض بمزيد من الإصرار والعطاء من المشتغلين فى هذا الفضاء المعرفى وخلق أجيال تؤمن برسالة المسرح ومنطلقاته التنويرية التى تزيل الاحتقان وتمنح التطهير وتشعل الأمل وشموعه للعالم الإنسانى الذى يتشابك فى الكثير من همومه وطموحه وإنسانيته.
عبر رحلة شاقة امتدت لـ25 عاماً من الكتابة والعمل الأكاديمى، على أى أسس بنيت هذه التجربة، وما كانت أهدافك الشخصية؟
التشاركية الإنسانية وترك البصمة ولو كانت صغيرة هى هاجسى ورغبتى الحقيقية لمد جسور التواصل ونشر المعرفة، والمحاولات الكتابية المختلفة ما هى إلا رسالة ووردة أمل أحاول تقديمها وتوصيلها بلغة مقبولة ودون تكلف، فمن اسمى حملتُ الابتسامة والسعادة فى كل لقاء معرفى وفكرى. أجتهد أن أعمل مع أصدقائى الشغوفين بالثقافة والفن الذين نتشارك فى الهموم الثقافية والتجارب الكتابية ومحاولة منى قدر المستطاع الاستماع للآراء المختلفة والقراءة المتجددة وهى سلاح التنوير الذى أطمح أن أكسبه وأعكسه فى أعمالى بتناولى لقضايا إنسانية تهم كل شرائح المجتمع.
«العزلة ورهانات الإبداع»، مع تفشى فيروس كورونا، وما سببّته الإجراءات الاحترازية من عزلة إجبارية، كيف تعاطيت مع الأمر، وهل عملتْ الأزمة على الحد من مواصلة مشوارك العلمى والأدبى؟
فيروس لا يرى بالعين المجردة كان الشرارة لتغييرات أجدها لا تنتهى من حياتنا والعالم، فما قبل كورونا ليس كما بعده وهذا هو التاريخ العالمى لمن تعمق فيه وقرأ ما أحدثته هذه الموجات من الأوبئة، فمع محبتى للسفر والتنقل بين العواصم العربية والعالمية وجدت نفسى محاصرًا بالإغلاق فى المطارات وعدم التنقل لأسابيع فى المنزل ومع إصابتى شخصيًا بالفيروس وجدت نفسى فى عزلة إجبارية، ومن ثم تأقلمت مع ذلك اختياريًا خصوصًا عندما اشتغلتُ بالانتهاء من كتابة روايتى الجديدة «الصيرة تحكى» والتى نشرتها عن دار اللبان للنشر والتوزيع فى أكتوبر 2020م.
هل هناك فارق تقنى ما بين الكتابة الإبداعية وما بين العمل الأكاديمى، من حيث التجربة والرؤية؟
نعم هناك حساسية أن تكون الدارس والمدرس فى ذات التجربة والقالب الكتابى فالتردد والحيرة تصبح صفة ملازمة لكون العملية الإبداعية هى ابتكار خلاق لا تقف أمامها حدود ولا قيود إلا فلسفة الإنسانية ومكتسباته من تجارب وقراءات، وما بين حساسية المؤسسة الأكاديمية التى تنتمى لها ونظرة المحيط العلمى برصانته المعروفة وهامش المناورة البسيط الذى فيه وجدت نفسى ضعيفا أمام سهام الوقت المستقطع من يومى والمحاورات والجدل الفكرى الذى لم يكن يوما رحيما معى خصوصًا من المنتجين للأعمال الدرامية من جهات تنفيذية تجد فى الأكاديمى منافسا وعليه أن يتخلى عن الكتابة والتركيز على دراسة المحتوى المكتوب، فهناك نصوص درامية تعطلت لسنوات قبل القبول بتنفيذها وبعضها الآخر لم ير النور، فهذه واحدة من معضلات الفهم الحاصل بين الخط الفاصل للكتابة الإبداعية والعمل فى المؤسسات الأكاديمية. وشخصيًا ما زلت أقاوم بتجارب كتابية جديدة وبعضها لا يتطلب الوقت الطويل لإنجازها كمحاولات فى كتابة القصة القصيرة جدًا، بل بهذا النوع الكتابى انتقدتُ ضمنيًا الأكاديميين المتزمتين بمدرستهم.
وكيف تصنع الكتابة -بإشكالاتها القديمة والمعاصرة- مساراً مستقبلياً لجيل مدفوع، بشكل أو بآخر، فى ورطة الحداثة وما بعدها؟
الحداثة ليست غاية بحد ذاتها وإنما هى وسيلة فهم بطرق حديثة وورطة جميلة لمن أراد النظر إلى المستقبل، فمن دون الاهتزازات والدوران فى التجارب الثقافية والفنية لحدث الركود وابتعد المتلقى وتجمد الفكر الفلسفى والنقدى وهذا من المستحيلات وعلينا الاستمرار فى قبول الآخر. وما ينتجه من محاولات متجددة فهذا يعيننا على الفهم وتأصيل ما يمكن أن يكون يومًا فعلا بلا جذور ولا امتداد ولا تقييم ليكون هناك مساحة من إعادة القراءة لما هو منتج والتأكيد على أن البناء مستمر بالمناهج الحديثة التى قدمتها الحداثة وما بعد الحداثة فهى لا تلغى ولكنها بذات الوقت لا تقدس القديم وتفرعنه.
الآن نعيش «عصرا تكنولوجيا» بامتياز؛ فجزء كبير من حياتنا نقضيه على الأجهزة الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى، وهناك طرح يُغذى فكرة اندثار «عصر الكتاب الورقى»، فهل أنت مع هذا الطرح؟ وهل أضافت تلك الصناعة الحداثية للكاتب، ومنظومة النشر بشكل عام؟
كل تطورات العالم فى مجال الكتابة والنشر لم تلغ هذه التجارب منذ قرون، فمن المستحيل الإلغاء ولكن ما هو حاصل أن العصر أنتج وسائل جديدة تعيد تقديم الكتاب والمحتوى الفكرى بوسائل متسارعة فشخصيا إيجابى فى التعاطى مع هذه الوسائل واقرأ الكتب الورقية واستمتع فى ذلك واستخدم التكنولوجيا والقراءة بوسائل حديثة ومريحة، كاستخدام جهاز «الكيندل» من «أمازون»، والذى هو مكتبة متنقلة فى كف اليد وأحدث الإصدارات العالمية ممكن شراؤها فى نفس يوم نزولها من دور النشر العالمية، فالسهولة والسرعة والبحث عوامل شخصيا تجذبنى كقارئ، وككاتب أجد أنها تساعد على الانتشار والوصول بالإنتاج الكتابى لقارات العالم.
فى الأخير، نود أن تطلعنا على آخر مشاريعك الإبداعية؟
المحاولات والتجارب الكتابية مستمرة وهى لم تعد خيارًا شخصيا إنما مسئولية وأمانة، أحاول كغيرى ممن ارتضوا أن يكونوا شركاء للقراء بأن يقدموا الجديد والمفيد للإنسانية، فهناك تحضير لمجموعة خامسة من القصص القصيرة جدا، وكذلك فى الكتابة الدرامية أطمح أن يرى مسلسل رياح الحب النور للإنتاج التليفزيونى، ومسلسل همس الجسور للإنتاج الإذاعى، بالإضافة للكتابات النقدية فى الصحافة الثقافية التى توقفت طباعة الملاحق الثقافية بسبب ازمه كورونا ونتمنى أن تعود لنستمر فى النشر والقراءة لكل جديد الكتاب والمفكرين العرب والعالميين.