فتوى رمضانية أقنعت السلطان بأن النساء سبب البلاء

حظر تجوال بنات حواء لمواجهة انتشار الطاعون!

 الشيوخ أكدوا للسلطان أن خروج النساء للشوارع من أهم أسباب انتشار العدوى!
الشيوخ أكدوا للسلطان أن خروج النساء للشوارع من أهم أسباب انتشار العدوى!

مضى النعش محمولا على الأعناق. رجال قليلون يودّعون الراحل إلى قبره. تغيّب كثيرون خوفا من العدوى، فالطاعون المُنتشر منذ شهور حصد آلاف الأرواح، وباتتْ صرخات العويل على الراحلين أمرا معتادا. امرأة واحدة خرجتْ فى هذه الجنازة، يبدو أن المتوفى عزيز جدا عليها، لدرجة دفعتْها لاختراق حظر التجوّل المفروض على النساء فقط! فجأة ظهر الوالى وجنوده وقبضوا عليها. نفّذوا عليها عقوبة الضرب فورا، وتعالت صرخاتها التى اختلط فيها الحزن بالألم. اتجهتْ بعدها إلى منزلها لتقضى عدة أيام وتموت. هل انهار جسدها بسبب ضرب أفضى إلى الموت؟ أم أن العقوبة أصابتها بأزمة نفسية حادة انتهت بارتفاع مفاجىء لضغط الدم؟

 وربما تكون المرأة قد أصيبت بالعدوى من فقيدها الذى سبقها إلى الآخرة؟ يظل السبب مجهولا لأنه لم يتم اختراع» الطب الشرعي» بعد، كما أن المرأة غير المعروفة، لكن واقعتها جذبت انتباه أحد المؤرخين فأفرد لها سطورا قليلة فى كتاباته، وكانت العقوبة السابقة جزءا من مسلسل بدأ حلقاته قبل أسابيع، وتحديدا فى رمضان 1438 م.
بمناسبة الشهر الكريم، اجتمع السلطان الأشرف برسباى مع قضاة المذاهب الأربعة والشيوخ. كانت المناسبة دينية وهى ختم صحيح البخاري، لكن الحديث تطرّق إلى الطاعون الذى تزايد انتشاره بالبلاد. بدلا من الاستعانة بالمتخصّصين فى الطب، لجأ عدد من الشيوخ إلى الحل السهل، باستدعاء عبارات سابقة التجهيز تجعل المرأة سببا لأى بلاء، وهكذا وقعت مسئولية انتشار» الموت الأسود» على النساء، اللاتى تخرجن إلى الشوارع» وهن مُتبهرجات ليلا ونهارا». التقط آخرون» التشخيص» ونصحوا السلطان بمنع خروج أى امرأة من بيتها، باستثناء حالات الذهاب إلى الحمامات العامة. استجاب برسباى على الفور لـ» الفتوى»، وانتشر المنادون فى الشوارع يعلنون قرار حظر سير بنات حواء فى الطرقات، وبدأت القاهرة تشهد حملات مطاردة لهن. ترك الوالى والحُجّاب أعمالهم وتفرّغوا لاصطياد أى امرأة تخرج من منزلها، ولو للسير خلف جنازة أب أو ابن أو زوج، وكان توقيع عقوبة الضرب يتم فوريا!
يذكر المؤرخ ابن إياس أن القرار العجيب تسبب فى الكثير من التداعيات السلبية، فقد أصابت الناس أضرار شاملة، وتوقّف حال التجارة، وقلّ البيع والشراء. لكن ما مصير صاحبات الحرف التى لا يُمكن الاستغناء عنها؟ يختار ابن إياس حرفة» المِغسّلة»، التى تتولى تجهيز المتوفيات للدفن، ويذكر أن خروجها لـ» تغسيل ميّتة» كان يتطلب الحصول على تصريح مكتوب من الجهات المعنية، تُثبته فى ثيابها بشكل ظاهر، كى يعلم الجميع طبيعة مهمتها فلا يتعرضون لها.
كان الطاعون قد تفشّى قبل هذه القرارات الحاسمة بشهرين. بدأ فى شهر رجب مع الأبقار، ونفقتْ منها أعداد لا تُحصى، ثم انتقل إلى البشر وفتك بالآلاف، فى واحدة من موجات وباء واصل زياراته الدورية لمصر على مدى ثلاث سنوات. الغريب أن حبس النساء فى البيوت واكب قرارا آخر، بإغلاق السجون وإطلاق سراح كل المحتجزين فيها من الرجال والسيدات. غالبا كان السلطان يرغب فى القضاء على مناطق التجمعات كى لا تتحول إلى بؤر لتصنيع ونشر العدوى، لكن النتيجة جاءت عكسية، فقد تزايد اللصوص والسرقات، واطمأن الناس إلى أن العقوبات مرفوعة من الخدمة، فامتنع المدينون عن سداد ديونهم، وضاعت حقوق الناس، وبقيت العقوبة الوحيدة السارية، هى ضرب أى امرأة يتم ضبطها تسير فى الشارع!