حكايات من سيرة الأجداد 

«قفا ملك الترسو».. هدم السينما على أصحابها

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

اعتاد عم وطنى كل يوم «أحد» أن يصطحب أسرته، زوجته وأربعة أبناء، فى رحلة أسبوعية، تُجهز فيها الزوجة وبناته سعاد وحسنية "حلة محشى" كبيرة وقلة فخار وسط، ويتحرك الجميع من حارة أبوالفرج إلى ميدان روض الفرج بجوار سوق الخضار القديم لدخول سينما ألف ليلة بالميدان يدفع عم وطنى تمن التذكرة 2.5 قرش لكل فرد، وأحياناً لا يجد فكة فيطلب (طوفى) بالباقى للتحلية.

 

وسينما ألف ليلة درجة تالتة تعرض ثلاثة أفلام ويُعاد الفيلم الأول لمن دخل السينما متأخرًا وغالبًا كان الكل يجلس لمشاهدة الفيلم مرتين.. وفى حى شبرا وروض الفرج كانت توجد أكثر من سينما شعبية (كليوبترا ـ روض الفرج ـ الأمير ـ مسرة ـ التحرير ـ دوللى ـ جسر البحر ـ مسرة)، حتى أنشأت سينما مودرن درجة أولى وسينما شبرا مصر لعرض الأفلام الهندية فقط، ولم تقتصر سينما الترسو على حى روض الفرج، ولكن انتشرت فى جميع الأحياء الشعبية سينما رخيصة الثمن توفر ثلاثة أفلام، يعلو السينما أفيش الفيلم.. فى الماضى كان متوفرًا الأفيش الأصلى للفيلم، يُمكن لصاحب السينما الحصول عليه من المنتج الأصلى أو يشترى الأفيش، ولكن مع الوقت أصبح صاحب السينما يستعين برسام غالبًا غير محترفٍ يقوم برسم الأفيش بشكل بسيط بدائى بعيدًا عن الأفيش الأصلى أو يقترب منه قليلاً، ويركز الرسام غالبًا على  مشاهد العنف أو المشاهد الحميمة التى يمكن أن تجذب طبقة معينة للمشاهدة, وكان أشهرهم عم أحمد بجوار سينما على بابا ببولاق أبوالعلا، وهناك كان يترش الأرض بكم من الأخبار وكوباية شاى، وتأتيه حسنية زوجته، ويبدأ فى رسم الافيش على ورق مثبت على الحائط، وقبل البدء فى الرسم كان يطلب من صاحب السينما مشاهدة الفيلم بمفرده حتى يتسنى له اختيار مشهد حالة عدم وجود الأفيش الأصلى، وأحيانًا يستعين بزوجته حسنية لاختيار زوايا العمل.. مات هذا الرجل من سنوات قريبة، وبقي الحائط وحسنية شاهدين على فنان عاش وسطنا ولم يُوقع عم أحمد مرة على الأفيش، فقط كان يكتفى بكوباية الشاى وحسنية وشوية قروش بسيطة. 

 

وقبل سينما الترسو الشعبية، قدَّم مقهى زوانى بالإسكندرية 1896أول عرض سينمائى بعدها بالقاهرة فى 28 يناير من نفس العام فى سينما سانتى، واعتبر البعض أنها البداية الحقيقية لمعرفة المصريين بالسينما، ولكن اختلف بعض المؤرخين، واعتبر البعض منهم أن بداية معرفتنا بالسينما في 20 يونيو 1907 مع تصوير فيلم تسجيلي صامت قصير عن زيارة الخديو عباس حلمي الثاني إلى معهد المرسي أبوالعباس بمدينة الإسكندرية، واعتبر هذا الفيلم القصير بداية لمحتوى فنى، وإن كان يفتقر إلى عناصر الفيلم الدرامي. 


وتنقسم سينما الترسو إلى سينما صيفى وسينما شتوى.. السينما الصيفى هى ساحة كبيرة مفتوحة دون (سقف) والإضاءة بها محدودة ومقسمة إلى صالة وبلكون. 


والبلكون هو الكراسى الأعلى أو الأبعد من الشاشة، وعادة ما تقسم السينما إلى صالة وبلكون بسعر مختلف بعض الشىء، ويكثر الذهاب إليها فى فصل الصيف، ونادرًا ما تعمل فى  الشتاء، وأحيانا تكون الكراسى متحركة داخل السينما، وفى الإسكندرية كانت البداية الأولى للسينما الصيفى (سينما توغرافى)، لصاحب الامتياز (هنرى ديللو) فى يناير 1897، وهى عبارة عن ساحة كبيرة وضعت فيها آلآت العرض السينمائى، وبعد وصول المصور (بروميو) الذى استطاع تصوير ميدان القناصل وميدان محمد على وعرضهما بسينما لوميير فى يونيو 1907، اعتبر هذا التاريخ بداية الإنتاج السينمائى المصرى. 


والسينما الشتوى هى الشكل الأقرب، سينما لها سقف داخل مبنى أو منفردة بمبنى خاص، وهو مكان كبير يتسع لعدد من الكراسى وشاشة عرض كبيرة ومقسمة إلى صالة وبالكون وأحياناً (لوج)، وهو المكان الخاص بعدد محدود جدًا من الأفراد وعادة ما يُطلق عيه ملتقى العشاق أو أصحاب الذوق الخاص، وكان المكان الخاص بالعائلات التى تبتعد عن دوشة الصالة والتعليقات المصاحبة للمشاهد. 

 


وبعد أن أنشأ المخرج والممثل محمد كريم (ديسمبر 1896-27 مايو 1972) مخرج مصري، بدأ حياته ممثلاً، أخرج للسينما فيليمن كلاهما يحمل اسم زينب، لكن الفيلم الأول فيلم صامت أُنتج عام 1930، والثاني فيلم ناطق أنتج عام 1952.. ارتبط اسمه مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، حيث أخرج له الأفلام السبعة التي قام ببطولتها من الوردة البيضاء حتى لست ملاكاً.. كما أخرج فيلم دليلة من بطولة عبد الحليم حافظ عام 1956، وهو أول فيلم مصري يظهر بطريقة سينما سكوب.. أيضاً أخرج فيلم أولاد الذوات عام 1932، وهو في رأي البعض أول فيلم عربي ناطق.  


شركة بالإسكندرية لصناعة الأفلام
 زاد الإقبال على الذهاب إلى السينما ربما لرخص ثمنها بالمقارنة للمسرح أو كازينوهات روض الفرج وعماد الدين.. وكان على أصحاب السينما أن تقسم لاستيعاب العدد الأكبر من الجماهير والطبقات المختلفة، وبالفعل تم تقسيم السينما الواحدة إلى البلكون لطبقة الأغنياء والصالة بمسافة أقل من البلكون لأبناء الطبقة الوسطى والأفندية والترسو وهو المكان الأرخص وخاص بالطبقة الشعبية ولما كان الترسو يمثل مصدر إزعاج شديد لأنه غالبًا ما تعلو فيه الأصوات عند مشاهد العنف والألفاظ الخارجة عند عرض المشاهد الحميمية، واستعانت السينما بـ(بلطجى) داخل الترسو يقوم بتنظيم الجلوس ومحاولة السيطرة ومنع صيحات أصوات جمهور الترسو.. تعرف مدى رضا المشاهد عن الفيلم (سينما أونطة عايزين فلوسنا)، ذلك هو النداء الأشهر لرواد الترسو، وعند عرض فيلم الفتوة 1957، لم يرض جمهور الترسو على ضرب فريد شوقى فى أول الفيلم بالقفا، فقام الجمهور بتكسير أبواب وكراسى السينما، وتكبد صاحب السينما الخسائر، لدرجة أنه رفع قضية على فريد شوقى يُطالبة بتعويضه عن الخسائر. 


وأمام عشوائية جمهور الترسو كان لابد من إنشاء سينما خاصة لكل فئة يمكنها المشاهدة بشكل أفضل، فكانت الحاجة لإنشاء سينما للطبقة الراقية والوسطى التى أعادت على اعتبار فسحة نهاية الأسبوع مشاهدة فيلم جديد.. وكذلك القضاء على تميز بعض الفئات داخل المجتمع (سينما ريالتو) و(الكورسال) بالإسكندرية كانت تخصص مقاعد الدرجة الأولى للأجانب، بينما الدرجة الثانية للمصريين، كذلك كانت سينما أولمبيا بالقاهرة تخصص مقاعد الجزء الأيمن لأبناء الجاليات الأوربية، بينما كانت تخصص الجانب الأيسر لأبناء البلد.

 

وفي شارع فاروق أنشأ سينما رمسيس 1931 لجميع المصريين دون تميز طبقى للأجانب واستمر بناء دور العرض السينمائى مع زيادة إنتاج الأفلام المصرية 16 حتى وصل إلى 67 فيلمًا عام 1946، وكانت المحاولات الأولى لتلوين بعض أجزاء من الأفلام. 


اهتم القائمون على صناعة السينما ببناء دور العرض السينمائى المتميزة فكانت أول سينما مكيفة (مترو) بوسط البلد 1940، سينما على الطراز الأمريكانى فى كل شىء، وبقيت سينما الترسو فى الأماكن الشعبية، وانتشرت بشكل كبير والتى عادة ما تعرض الفيلم الجديد بعد مرور عرضه بفترة، ولكنها تعرض المشاهد بأكثر من فيلم (على بابا فى بولاق ـ الزيتون ـ المنصورة ـ عدن ـ فريال ـ الشرق... الخ), واحتفظت بطابعها الخاص كراسى بسيطة متهالكة بعض الشىء، رواد من الطبقات الشعبية، أفيشات أفلام ركيكة فى رسمها، سعر تذكرة رخيص.

 

 واختار جمهور الترسو الفنان فريد شوقى نجم الترسو وسارعت السينمات الشعبية على عرض أفلامه فى كل أسبوع، لدرجة أن سينما ألف ليلة بروض الفرج كانت ملزمة بعرض فيلم لفريد شوقى أسبوعيًا وإلا تعرضت للتكسير من رواد سوق الخضار، مما دفعها إلى عرض الفيلم لأكثر من أسبوع، وهى التى اعتادت أن تغير الأفلام أسبوعيًا، ينافسها سينما التحرير بشبرا فى نفس المنهج.. اختفت مع الوقت سينما الترسو مع زيادة القنوات الفضائية ووسائل الحصول على الفيلم وإن كان بعض أصحاب سينما الترسو مازالوا محتفظين بالشكل الخاص بها (على بابا ـ الزيتون)، وكانت سينما على بابا والكورسال تحفة معمارية خاصة بناه المعمارى نعوم شبيب، صاحب التصميمات المبتكرة، ذات الذوق الأوربى، والقباب العالية التى حصل بها شبيب على براءة اختراع من بناة سينما الكورسال بالبقباب العالية بمساحة 800 متر، وقد تم هدم السينما لتطوير المنطقة، وتحولت بعض مبانى الترسو إلى عمارات (سينما التحرير بشبرا أصبحت برجًا كبيرًا.. سينما كليوبترا تحولت إلى قهوة بلدى.. وسينما روض الفرج إلى مخزن غلال).


وحاول البعض تحويل السينما إلى درجة أولى، ويُعرض فيلم واحد فقط، ولكن المشروع فشل (سينما دوللى بشبرا)، واختفت سينما الترسو وأصبحت ذكرى فى مقال، واحتفظ جمهور الترسو بالباقى، منها يتفرج ويعتبرها تفريغاً لهمومه وأحياناً مكاناً للراحة والبعض اعتبرها سكناً ينام فيه.