تُعساء ولكن ظُرفاء.. مغامرات «م» و«ح» فى مدينة الشمس

مدينة الشمس
مدينة الشمس

كتب محمد عبد النبى

«لا شيء أكثر طرافةً مِن التعاسة، أوافقكَ. لكن ... بلى، بلى، إنها أكثر شيء هَزلى فى العالَم». بهذه العبارة المُقتَبسة مِن مسرحية نهاية اللُعبة لصمويل بيكيت، يُمهّد مينا ناجى السبيل أمامَ القارئ للدخول معه فى لُعبته السردية، لرواية «مدينة الشمس»، الصادرة حديثًا عن دار العين. وتُلقى المفارقة الواضحة فى هذا الاقتباس بضوئها على جميع الفصول تقريبًا، المُفارقة بين التعاسة والإحباط والعَجز وبين تجلى ذلك كله فى صورة كوميدية فاقعة أحيانًا، كوميديا تثيرُ ضحكًا دامعًا، كوميديا سوداء، أو على الأقل قاتمة للغاية، محاصَرة بالانفجارات والأشلاء والدمار والموت المباغِت بلا معنى، غير أنَّ أبطالها يتصرفون كما لو كانوا فى مسرحية هزلية: «شعرَ م. أنه مُتورط بشكل ما فى تمثيلية مضحكة وسوداء جدًا.»، بعَدم اكتراث إلَّا بهمومهم الصغيرة الخاصة واحتياجاتهم المباشرة مِن يوم لآخَر، ورغباتهم غير المشبَعة، وخطواتهم التى تتحرَّك فى المكان نفسه، بلا طريق خارجَ حدود جدرانهم أو خارج منطقة مصر الجديدة التى كانت مسرحًا للُعبة المأساوية-الكوميدية.


تتراوح الأنواع الأدبية والصِيغ الفنية التى يمارسها مينا ناجى (مواليد 1987)، بين الشِعر والقصة والرواية وكتابة السيناريو وإعداد وتقديم برامج حوارية أدبية على الانترنت، إلى جانب بعض المساهمات فى الصحافة والترجمة. مِن السهل أن نتبين وَلع مينا ناجى بالكتابة والكلمة والفَن عمومًا حتَّى عبرَ سطور أعماله الأدبية، وفى روايتيه بالأخص، حيث تكثر الاستشهادات الأدبية أو الإشارات الثقافية أو أن تكون شخصياته ذاتها متورّطة بدرجة أو بأخرى فى العمل الثقافى والفني، وتكاد تعكس همومًا وانشغالات لا تبتعد كثيرًا عنه كمنتج للفن ومتلقى له.


> > >
فى روايته الأولى «بلا أجنحة» (روافد-2016) نتتبع الخط العام لقصة حب بسيطة بين طالبين فى جامعة ألمانية فى قلب الصحراء تقريبًا، ونتعرف على الراوى الذى يُطلعنا على هذه القصة مِن زاويته، ومِن داخل محبسه النَفسى الذى يراكِم فيه الأزمات وأنواع الفوبيا والإحباطات، ويواصل رسوبه فى الجامعة حتَّى تتخرَج حبيبته السابقة وتصبح أستاذته وترتبط بشاب نمطى وناجح بمقاييس الطبقة الوسطى ومن نفس دينها بطبيعة الحال. كل تِلك الدِراما لم تغرِ الكاتب لكى يقع فى فخ الأغانى العاطفية السَهلة أو مواويل الرثاء للذات الرخيصة، بل استطاع أن يفلت مِن تلك الفِخاخ عبرَ السُخرية بالأساس واللغة القوية الصريحة وتصوير كل مآسى الراوى بصياغة مرحة خفيفة، لا تكاد تقترب مِن حافة اللوعة والأسى حتَّى تتراجع نحو فضاءات المرح والضحك.


مِن بين الحِيل التى يلجأ إليها رواى مينا ناجى فى روايته الأولى خلْق ذاتٍ بديلة له، مسرحى فرنسى يدعى فريدو ويعيش علاقة عاطفية وجنسية مُرتبكة مع أخته دورا شِبه المجنونة، وفى فصول تعترض مسار حكايته مع حبيبته يلتقط مشاهد مِن حياة فريدو هذا والعلاقات التى يدخلها وطموحه لإنتاج عمل مسرحى مستلَهم عن أليس فى بلاد العجائب. الخيوط التى تجمع حياة فريدو بالراوى ليست بالقوة الكافية، لكنَّ القصة الموازية بدت كمَهرب خيالى للراوى ينفس فيه عن كبته وإحباطاته العاطفية عبرَ فانتازيات جنسية وأسلوب عيش هو النقيض لحياته الحبيسة. ينتهى الأمر بفريدو إلى قَتل داليا الفنانة المدعية وصديقته هو وأخته دورا. وتبدأ رواية «مدينة الشمس» تحديدًا مِن هذه النقطة التى انتهت عندها بلا أجنحة، حيث ترسل دورا إلى الصديقين م. وح. بصفتهما تحريين خاصّين يعرضان خدماتهما على إعلانات الدارك ويب، وتطلب منهما تفسير لغز اختفاء داليا، التى يشارُ لها بالحرف د.، ولا جدوى مِن السؤال حول معنى أن يبحث كاتبان شابان فى منطقة مصر الجديدة عن فنانة مختفية فى باريس، كما لا جدوى مِن التساؤل حول منطق أحداث أخرى عديدة هُنا إلَّا فى إطار موقعها مِن اللعبة.


> > >
إلى جانب محاولة حَل لغز اختفاء د. فى «مدينة الشمس»، وهى المقتولة فى الصفحات الأخيرة من رواية «بلا أجنحة»، هناك تقاطعات أخرى واضحة بين الروايتين، مِن قبيل الملامح الأساسية لشخصية الراوى فى الأولى وم. فى الثانية، وبعض الإشارات مثل الشاعر اليونانى إيليتس الذى يختار الصديقان اسمه لدار النشر الفاشلة التى يؤسسانها معًا. لكن إذا كان فى الرواية الأولى خيط حكاية ومحاولة لرسم ملامح بعض شخصيات وتناول أزمة الراوى بالتحليل، فإنَّ الرواية الثانية تهزأ بكل منطق وتمزق أوصال الحكاية فى استمتاع هادئ وكسول، لا تحاول أن تبنى حبكة متماسكة أو ترسم شخصيات شبه مكتملة المعالَم، بقدر ما تلجأ لطاقة التخييل الحُر والمفاجأة والسخرية الحادة المريرة وتكرار أزمات شخصيتيها الرئيستين، م. وح.، فى دوائر متواترة كأنها أقرب لحلقات متتالية قصصية منها إلى رواية ذات خط سردى أفقي، دوائر تبتلع نفسها وتلد نفسها بلا انقطاع فى دوامة عبثية مِن الإحباطات المتكررة، تنتهى قَسرًا بانفجار إرهابى يودى بحياة ح. ويدفع بصديقه م. إلى أحضان الدين مِن جديد، ليس بنشوة الوصول ليقين وبر الأمان بعد جحيم الشك والوحشة، بقدر ما يأتى بكاؤه راكعًا أمامَ تمثال يسوع المصلوب أقرب إلى رفع الراية البيضاء وإعلان هزيمة نهائية مريرة.


لكنَّ الرواية التى تنتهى بهذه النغمة الحزينة والمريرة لا تتوقَّف طوال صفحاتها عن إعلان حرب لا هوادة فيها على الجدية والشجن والعُمق، وعلى بعض التوجهات السياسية ومعتنقيها إلى جانب صحبة المكتئبين والمهووسين بأفكارهم الانتحارية وأزماتهم النفسية الحادة. ليست السُخرية الكَلبية التى تستهين بالإنسان وتُحقّر مِن شأن أوجاعه ومعضلاته بقدر ما هى تلك التى تنزع مخالب الأزمة وتستأنسها وتجعل منها رفيقًا طيّبًا على الطريق، طالما أنه لا مهرب واضح منها. وهى أيضًا سخرية تكشف وتفضح مقدار ما قد يبلغه الإنسان من تناقض يصل إلى حد الكوميديا الفجَّة، مثل بعض النشطاء السياسيين الشباب الذين يواصلون الدفاع عن الإخوان بينما هم يزيلون الدماء والأشلاء الناجمة عن أحد الانفجارات عن أجسادهم ووجوههم.


كلٌ مِن م. وح. يشبهان فى أحيان كثيرة ثنائيا كوميديا لذيذا، يكمل أحدهما الآخَر إلى درجة قد تشعر معها أنهما ربما شخص واحد منقسم على ذاته أو أنه أحدهما صنعَ الآخَر، صديقًا خياليًا ليأتنس به، رغم كل المغامرات التى يخوضانها معًا، التى يشتبكان فيها مع عدد مِن شخصياتٍ لا تقل غرابة عنهما فى بعض الأحيان، شخصيات تظهر وتختفي، وعودًا بعلاقات حميمة وصداقات لا تكتمل، مشاريع معلَّقة أو مخفقة تمامًا، قبل أن يعود الصديقان إلى شقتهما (المُكنة) لممارسة طقوس كسلهما المقدَّسة. لهذا لَعلَّ أقرب شكل أدبى قديم لهذا العمل هو الرواية البيكارسكية أو رواية الشُطَّار والصعاليك، التى ظهرت فى القرن السادس عشر فى إسبانيا، وتروى عادات وتقاليد طبقات دنيا من المجتمع ومغامرات ومحن ومخاطر يواجهها شخص جوَّال شريد بلا مستقَّر، ولم تكن تخلو أيضًا مِن هجاء وانتقاد وتنديد بالظلم والقيم الزائفة المنحطَّة للمجتمع الراقي. غير أن م. وح. تنحصر مغامراتهما جغرافيًا فى حدود منطقة مصر الجديدة، نظرًا لما يعانيه م. من رهاب يمنعه مِن تجاوز حدودها، وعندما يتوق للمصيف والبحر يحضر له صديقه ح. حوض سباحة بلاستيكيا كبيرا فى الشقة. وَلع م. بمنطقة مصر الجديدة يظهر كذلك كأحد الخطوط الأساسية فى العَمل، وبين الحين والآخَر يلتقط لمحة سريعة مِن تاريخ ومعمار المنطقة لتسليط الضوء عليه، فى اشتباك محسوب وبلا مبالغة مع الخريطة التى يكاد يتماهى معها. وتنفتح مغامراتهما مِن ناحية أخرى على واقع افتراضى داخلى لا حدود له، ربما يبدأ بالكتب والأفلام والموسيقى ثم يتيه فى أوقيانوس الانترنت ودهاليز الدارك ويب وألعاب الفيديو والمواقع الإباحية. وما إن يخرج أحدهما للواقع الحقيقي، فى موعد عاطفى أو مشروع عَمل أو إقامة مؤقَّتة مع أهله، حتَّى يرجع سريعًا فى نوعٍ من الهزيمة والتسليم.


> > >
الغلاف الجميل لرواية مدينة الشمس يصوّر تشريحًا أفقيًا لحصان مشبوح، وهى نفسها الصورة التى أخذ م. يرسمها مرارًا وتكرارًا خلال إقامته لبعض الوقت فى مصحة نفسية بعد نوبة فقدان أعصاب دفعته لممارسة العنف ضد صاحب محل حيوانات أليفة وطيور زينة. الحصان المشبوح يُستعادُ كذلك فى مخيلة م. بينما يرى صديقتهما المشتركة تتيح جسدها لكل مَن يريد فى حفلة شباب مثليين كأنها ذبيحة معلّقة، ولعلَّ صورة هذا الحصان، وقد كان موجودًا بالفعل فى حفل افتتاح دار نشر إيليتس، هى الخريطة الحقيقية التى ترسمها هذه الرواية لمدينة الشمس، ليست فقط خريطة مصر الجديدة وشوارعها ومبانيها وكنائسها ومحلاتها الشهيرة، بقدر ما هى خريطة الجسد الذبيح، حبيس مخاوفه ورغباته وشراهته، المحاصَر بالتفاهة والاضطهاد والقبح، والمفتت أشلاء بانفجارات صغيرة قد تنبعث فجأة من أى موضع. هذه هى مغامرة م. وح.، اثنين مِن شُطَّار لحظتنا الراهنة بكل ارتباكها وعنفها، وهذه هى خريطة مينا ناجى لمدينته التى نجحَ فى رَسْمها بدم الفؤاد وخِفّة الروح.