هيلارى مانتل: أشعر بوجود عالم آخر يحيط بى

هيلارى مانتل
هيلارى مانتل

حوار: أليكس كلارك
ترجمة: مرفت عمارة

 قبل حوالى 15 عامًا، ركبت هيلارى مانتل طائرة إلى روسيا فى جولة ثقافية بمنطقة بيرم بالقرب من جبال الأورال. وبينما كانت تجهز للرحلة التى بدا أنها ستكون هادئة، كانت تخطط لتغمس نفسها فى مشروع جديد، وهو ما حدث بالفعل، إذ بدأت رواية جديدة تدور فى إنجلترا، فى وقت الهدنة مع روما، وكان أبطالها هنرى الثامن وكبير مستشاريه توماس كرومويل. الآن نحن فى منزل مانتل فى بلدة بودلى سالترون الساحلية الجميلة فى ديفون، وبعد أن باعت ثلاثيتها التاريخية الشهيرة «وولف هول» «إحضار الأجساد» و«المرآة والضوء» أكثر من مليون ونصف مليون نسخة، ومنحتها جائزتيّ البوكر مان. مانتل منظمة جدًا، تنطلق كل صباح لشقة صغيرة على الطريق من أجل الكتابة، والعمل على كتابة مسرحية.


 تقول مانتل: «لقد استمتعت كثيرًا بالناس الذين يعلقون بأن لدىّ القدرة على إنجاز كتلة من الكتابة، كما لو كنت مصنعًا للكتابة» . «لكنها غضبت من اقتراح تأجيل كتابها الأخير لأنها كانت مترددة فى قتل كرومويل، تعلّق: «وهو شىء لم أبح به على الإطلاق، بل هذا ما يعتقد الناس أنه يجب على قوله. ارتباطى بالرواية ارتباط عاطفى،  على عكس الكاتب الذى يريد فقط مجرد شيك». أكثر ما يلفت الانتباه فى الثلاثية هو كيف تناولت مانتل ما يعرفه الكثيرون: شهية هنرى المفتوحة للزواج المتكرر، السقوط الوحشى من نعمة آن بولين، الاضطراب الدينى الذى انزلقت فيه إنجلترا، مع ذلك تصيغ من هذه التفاصيل واحدة من أكثر صور الشخصية دقة وخفة فى الخيال المعاصر.


على يدها، تحول كرومويل إلى الصبى الوحشى الذى يختفى فى الدوامة العالمية لأوروبا الاستعمارية ويعود للعمل على شق طريقه فى قلب محكمة تيودور. تقول مانتل إن «سيرته كانت منثورة فى كتب تتناول علاقة الجنس والسلطة والسياسة العليا، وفن الحكم والتزوير والخداع والأكاذيب». كان لدى مانتل تصور ما عن ثلاثيتها قبل الشروع فى كتابتها، تقول: «بمجرد ما بدأت الكتابة كنت أعرف أن هذا هو ما كنت أعمل من أجله»، وتضيف: «هذه الثقة فى بداية وصولى إلى حيث يجب أن أبلغ».


 كتبت مانتل 10 روايات، تنوعت ما بين استكشافها للثورة الفرنسية وحكاية المحبطين فى وسط إنجلترا. ما الشىء المختلف الذى شعرت به فى كتابة الثلاثية؟
تجيب هيلارى: «الانسجام بين المؤلف والموضوع هو ما شعرت به منذ الفقرات الأولى من «وولف هول» . بعد تقديم الشاى تنظر هيلارى إلى الأفق، تقول «إن بدء ثلاثية كان بمثابة توصيل ما بداخلك بصرخة هائلة من فوق قمة جبل». ليس فى ذلك تنصل من كتبها السابقة، رغم أنها تتناول بذكاء وضعها فى عالم النشر حين تقول: «لقد حققت مبيعات جيدة إلى حد ما مع Beyond Black وكانت تلك المرة الأولى التى حصلت بها على مراجعات جيدة مستمرة، لكن دون مبيعات، وشعرت إلى حد كبير كأننى مقتصرة على شىء واحد، كما تعلمون، نوع ما من الأقلية». كان لدى مانتل فهم حذر بالنسبة للكتابة. تقول عن «مكان أكثر أمانًا»، الرواية الأولى التى كتبتها: «لقد فكرت فى نفسى ككاتبة رواية تاريخية، وفكرت فى الكتابة عن الثورة الفرنسية، ثم الكتابة عن توماس كرومويل. عندما لم أستطع نشر الرواية الأولى، بدأت بكتابة رواية معاصرة، ثم أيقنت أننى لست مجرد روائية تاريخية، وظل ذلك فى ذهنى طوال الوقت». اكتشفت حينها رواياتها المبكرة بدءًا من رواية «كل يوم هو عيد الأم» فى عام 1985، وتكرر ذلك فى «الحيازة الشاسعة» و«ثمانية أشهر فى شارع غزّة»، التى تدور أحداثها فى الفترة التى قضتها بالسعودية، وتجربة فى الحب كشفت من خلالها ضعف النساء ما يورطهن فى علاقات بلا طائل، واهتمام هذه الروايات الغاضبة بالرغبة فى الحرية الشخصية وخلق الذات، وانشغال بالطبقة والظروف، وارتباط كل ذلك بافتتانها بكرومويل. تقول مانتل: «إذا نظرت إلى مأساة مثل عطيل، ستجد أشياء مضيئة حول عيبه القاتل.  والآن يمكننا أن نرى أن مشكلته أنه أسود. من الناحية البنيوية، هناك عيب قاطع.

لا يهم أى نوع من الأشخاص هو، وما القرارات التى يتخذها. وأعتقد أنه مع كروميل لديك ما يمكن اعتباره بدء من المكان الخطأ. لذلك، فإن ما يحققه كل يوم يبدو وكأنه يبصق فى وجه الوضع الحالى. عليك أن تفهم أن فى القرن السادس عشر كان الطموح كلمة قذرة، كما لو كنت تتلفظ بكلمة صفيقة عن الرب».
فى عصر تيودور إنجلترا، لم يكن النبلاء وحدهم من يعترضون على مكانة كرومويل، بل وعامة الناس كذلك، أليس كذلك؟ تجيب مانتل: «كانوا يقولون لا نريد أن يحكمنا أشخاص من هذا القبيل، نريد أن نحكم من قبل الأثرياء مثل الأيتونيين القدامى، أو يعقوب ريس موج، وهو سياسى بريطانى».


 كانت مانتل مفتونًة باكتشافها فكرة متعلقة باللغة الإنجليزية نجدها مرتبطة بكليشيهات جامدة يستخدمون خلالها الشفة العليا فى العصر الفيكتورى وكانت بعيدة عن الطريقة التى لاحظها الأوروبيون فى القرن السادس عشر. تقول: «اعتقدوا أن اللغة الإنجليزية كانت نوعا من الهياج والقتال بصورة جنونية: فى البداية وقبل كل شىء، تحدثوا لغة بربرية لا يمكن لأحد أن يفهمها، كانوا غاية فى الإلحاد وغاية فى العنف، كانوا مثل أمة مليئة بالمشاغبين القدماء».


 تضيف مانتل: «أصبحت مقتنعة أيضًا أنه فى وقت الانفصال عن روما، كانت إحدى الشخصيات الرئيسية فى وولف هول، الكاردينال ولزى، مصممًا على تقريب إنجلترا من أوروبا وتعزيز قوتها. كرومويل نفسه رأى الانشقاق كوسيلة للتوسط فى تحالف مع ألمانيا والدول الاسكندنافية من شأنه إعادة تشكيل هيكل السلطة بأكمله فى أوروبا. إذن هذه صورة لأوروبا لم نكن نعرفها وقد يكون ذلك مستمرا حتى الآن». تعتقد مانتل أن الأمر يشبه دولة مليئة بالمشاغبين فى الملاعب القديمة، كما أصبحت مقتنعة أن ما يحدث وقت الاستراحة شىء لم نألفه، ومع ذلك يمكن أن يحدث.

يتضح من الطريقة التى تتحدث بها مانتل عن كرومويل وولسى عن التعاطف الذى تشعر به اتجاههما. تضحك قائلة: «أنا أحب ولسى لأنه استمتع بكل ذلك كثيرًا، وأدرك كل أسباب التفكير فيه بشكل سيئ ولكن لا يمكننى أن أقتنع به أبدًا. وأنا أفهم تمامًا لماذا ستشعر بالارتباك من ناحيته، ويبدو لى أيضًا أنه كان رجلًا ذا قلب وأستطيع أن أفهم تمامًا ولاء كرومويل الطويل له. أما بالنسبة لكرومويل فأحب فيه الجرأة المطلقة وثقته فى نفسه التى تزيد من جاذبيته". تضيف مانتل: «أحد الأشياء التى أستكشفها حقًا هو السؤال العام عن الحظ، القدر، هل يصنع أى شخص حظه؟ إلى أى مدى يمكنك كتابة قصتك الخاصة؟ وهو شخص لا يجب أن تكون مسيرته المهنية ممكنة.

ولكن فى مرحلة ما فى منتصف العمر المبكر يمسك القلم ويبدأ فى كتابته". فى مذكراتها «التخلى عن الشبح» تحكى قصة نشأة متصدعة فى ديربيشاير، تقول:"انتهت طفولتى فى خريف عام 1963 حيث الماضى والمستقبل محجوبان بنفس القدر بسبب الدخان الناتج عن زوارق أمى المحترقة". لقد انفصل والداها وتزوجت والدتها ثم الدخول فى مرحلة المراهقة وبعدها الإصابة بمرض خطير يتم تجاهله، مع الخطأ فى تشخيصه. مرض فى بطانة الرحم تم علاجه بمضادات الذهان. كانت مانتل فى السابعة والعشرين، وتصف ما حدث لها بأنه «مصادرة خصوبتى وإعادة ترتيب حياتى». أحد الأطباء نصحها بعدم الكتابة، مع تورم جسدها بالألم وتشبعه بالأدوية. مع تكرار النوبات الحادة واعتلال الصحة طوال حياتها، كما هو مسجل فى يومياتها بالمستشفى 2010. بالإضافة إلى الألم والتداعى الجسدى، تلاحق الأشباح أعمال مانتل. تقول: «لدى إحساس بوجود عالم آخر قريب جدًا منى،  إلا أنه أحيانًا يبدو كحاجز أو كجدار حجرى هائل وأحيانًا يكون همسًا خفيفًا.

 

يساء فهمك عند الحديث عنه، لأنه لا شىء منه يمكن أن يكون حقيقيا، كلها مجرد سلسلة من الاستعارات». فى كتابها الأول، طرحت سؤال ما إذا كان يجب أن تكتب عن نفسها. تقول: «أفترض أن موضوع الرقابة والرقابة الذاتية طالما كان يلوح فى الأفق بالنسبة لى. ماذا يُسمح لك أن تقول ومن الذى يسمح له أن يقول ماذا؟ ربما ذلك ما دفعها للرواية التاريخية. تعود إلى كرومويل وتصفه بأنه رجل يصعد نجمه بدون أثر، ويضفى طاقة ديناميكية على كل ما يلمسه. مانتل أيضًا تجمع بين شىء من الرقة مع بعض المشاكسة الواضحة. بين رواية «إحضار الأجساد» و«المرآة والضوء» نشرت مجموعة قصصية بعنوان «اغتيال مارجريت تاتشر». فى القصة الرئيسية تخيلت امرأة تسلل إلى شقتها شخص بغرض قتل سياسى بسبب الازدراء الذى قوبلت به فى أيرلندا. وقد تسبب ذلك، ربما بشكل متوقع، فى الكثير من الغضب لدرجة أن مانتل شعرت «أننا سافرنا إلى مهزلة حين كان الناس يقترحون جلب الشرطة بسبب قتل خيالى لامرأة ميتة». تقول مانتل إنها ترغب فى تحويل الرواية إلى مسرحية، رغم عبء ذلك عليها «صندوق كبير من الأدوات».

هل هى قلقة من نكز الدب النائم؟ تنفجر من الضحك، وتقول «سيكون هجومًا على نطاق لم يسبق له مثيل. سوف أكون صريحة تمامًا فى قدرتى على الإساءة. لذلك سواء كانت ستؤتى ثمارها أم لا ، لا أعرف. لكننى لن أخاف من الناس». فى خطاب ألقته عام 2013، أشارت مانتل إلى كيت ميدلتون، دوقة كامبريدج آنذاك، إلى أنها «دمية على هيئة شماعة تعلق عليها بعض الخرق. امرأة كان هدفها الأساسى تزويد الورثة بوريث واضح». مع تعرض الأسرة المالكة مرة أخرى لأزمة، فإنها تربط الهوس الحالى بالأجساد الملكية بالموضوعات التى تبحث عنها. فى «المرآة والضوء». تسأل مانتل: ما الملك؟ هل هو نوع من الوجود الخارق؟ أم نوع من الوحوش؟ هل يرقى حتى إلى مرتبة الإنسان؟ وكل هذا يتم استكشافه من خلال جسد هنرى.


 فى عمر 67 ، تعلم أنها لن تقوم بمشروع آخر على غرار ثلاثية تيودور، تقول مانتل: «إنها مجرد حسابات رياضية حقًا». ولكن بينما كانت تكتبها، تجد مشاريع أخرى معلقة «كل ذلك مدوّن فى دفاتر الملاحظات، وإذا كان لدى الطاقة والتركيز والإرادة يمكننى سحب نصف دستة من الكتب من الخزانة، مثل السحب من علبة المناديل. «فى لحظات أخرى أفكر: هل أنا مجنونة؟» فى هذه الأثناء، ما تريده حقا أسبوعين: «أو الأفضل من ذلك، شهرًا. يمكننى إعادة صياغة نفسى،  وبعد ذلك سأكون مستعدة لكل شىء، حتى مع صحتى، الأمر يستغرق وقتًا قصيرًا للغاية حتى أستطيع التنقل مرة أخرى. وبتلك الطريقة أصبح كاذبة جيدة».