مصر التى فى خاطرى

يوم الكرامة

إيهاب القسطاوى
إيهاب القسطاوى

«عُرف عن المصريين منذ انبلاج فجر الضمير الإنسانى، بأنهم لا يرضخون للظلم، ولا يسكتون عن امتهان الكرامة، ولا يستسلمون للغزاة، ولا يتصالحون مع المحتلين، فقد خاضوا أشد المعارك ضراوة، وسطروا ولايزالون يسطرون أعظم ملاحم البطولة والفداء ضد كل من تسول له نفسه المساس بأرضهم الطاهرة، بدءاً من الهكسوس حتى تحرير أرض سيناء الغالية، وخروج آخر جندى صهيونى ذليلًا مُهانًا، هى رحلة طويلة من الفداء خاضها المصريون ضد كل المستعمرين عبر كل العصور، ذوداً ودفاعاً عن واديهم الطيب، فكانت مصر أبدا مقبرة الغزاة.
لكن على ما يبدو أن المحتل البريطانى لم يقرأ أو يستوعب جيدا تاريخ مصر، ولم يدرك قيمة الكرامةَ لدى المصريين، وكما قال فيلسوف الرومان وخطيبهم «شيشرون»: «من لا يقرأ التاريخ يبقى أبد الدهر طفلا صغيرا»، فأقدم قائد قوات الاحتلال البريطانية بالإسماعيلية «إكسهام» بجنوده وعتاده الثقيل على حصار مبنى محافظة الإسماعيلية، بعد أن كبدتهم العمليات الفدائية خسائر بشرية ومادية فادحة، مطالبا البوليس المصرى بإخلاء المكان والانسحاب الفورى: فجاءهم الرد من الملازم أول مصطفى رفعت هادرا مزلزلا: إذا لم تأخذ قواتك من حول المبنى سأبدأ أنا الضرب، لأن تلك أرضى وأنت الذى يجب أن ترحل منها ليس أنا، على إثر ذلك توغلت قوات الاحتلال البريطانية، بعد أن صوبت مدافعها وبنادقها باتجاه مبنى المحافظة فى وحشية خاطفة.
وبعد اشتداد رحى معارك عنيفة، سقط خلالها العديد من القتلى والجرحى من صفوف قوات البوليس المصرى، أمر قائد قوات الاحتلال البريطانية «إكسهام» بوقف إطلاق النار لفترة وجيزة، ليجدد من خلالها إنذاره لقوات البوليس المصرى بالاستسلام وإخلاء مواقعهم، إلا أن قرار قوات البوليس المصرى، كان محسوما وهو الثبات حتى الموت، ليسقط فى أكثر الميادين شرفا وكرامة خمسون شرطياً ونحو ثمانين جريحا.
ولأنهم أذهلوا قوات الاحتلال البريطانية بشجاعتهم وبسالتهم وعزيمتهم القويّة، أمر قائد قوات الاحتلال البريطانية «إكسهام» عناصره أن يؤدوا التحية العسكرية لرجال البوليس أثناء خروجهم من المبنى اعترافًا بشجاعتهم وبسالتهم، ليسطر المصريون ملحمة جديدة على امتداد مسيرة الشرف والتضحية والوفاء للوطن، ليخلّدوا التاريخ ويدونوه بأحرف من نور.
ثمانية وستّون عامًا مضت، إلا أن أريج ذكراها مازال ينثر فينا عطر الكرامةَ، ويزيدنا تباهيا وفخرًا برجالنا وبـعزمهم وبـصمودهم، الذين لايزالون يسطرون أعظم ملاحم البطولة من أجل رفع رايات المجد عالياً.
> أديب مصرى مقيم ببيروت