من التتريك في سوريا إلى محاولة عسكرة ليبيا

تحرش تركي يستهدف إرساء الدولة العثمانية الجديدة

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان

 

تأتي محاولة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان "لعسكرة ليبيا" في انتهاك صارخ للقرارات الدولية كمحطة أخرى تضاف إلى احتلاله لشمال سوريا وخطواته لفرض "التتريك" بالقوة على هذه القطعة الغالية من الأرض العربية.

ويري المراقبون أن هذا النهج الإردوغاني المرفوض إقليميا ودوليا يعد بمثابة أحدث فصل في سلسلة محاولاته الرامية للحصول على أي دور على الساحة الإقليمية يتصور أنه قد يساعده على الخروج من وضعه المتأزم سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا داخل تركيا وخارجها وفي الساحة الدولية على اتساعها.

وفي هذا الخصوص، فان إردوغان يحاول اللعب على مشاعر المواطن التركي مع اقتراب الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية التي أعلنت فى عام 1923 وذلك من خلال ما أسماه بـ"العثمانية الجديدة"، متناسيا ما لا يزال عالقا بذاكرة شعوب المنطقة والإقليم من ويلات "العثمانية القديمة".

وفي هذا السياق، فقد انتقل تحرش إردوغان في المنطقة من مرحلة الخطابات الاستعمارية والاستعلائية إلى المغامرة بمواجهات مباشرة بل والتدخل العسكري المباشر حينا وغير المباشر أحيانا أخرى.

وقد جاءت ممارسات إردوغان الأخيرة؛ سواء في غزوة واحتلاله لأراض سورية أو في تدخله العسكري المدان إقليميا ودوليا في ليبيا؛ لتكون بمثابة تجسيد جديد لمسعاه غير الشرعي الرامي من الاستيلاء على أي مكاسب اقتصادية أو محاولة فرض نفوذ عسكري وسياسي وثقافي في المنطقة في نتهاك تلو الآخر لكل الأعراف والقوانين الدولية.

وقد أباحت تركيا إردوغان لنفسها لتحقيق هذه الغايات الاستعمارية الدخول في مقايضات سياسية وجيوسياسية تضمن وجودها كلاعب رئيسي في المنطقة العربية، ومايزال نظام إردوغان مصرا على خرق القانون الدولي بشكل متكرر، فبعد غزو العسكري لشمال سوريا في أكتوبر الماضي، أعلن وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو أن بلاده تسعى لتسريع تنفيذ اتفاق نشر قوات عسكرية في ليبيا في محاولة لتغليب مصلحة ميلشيات متطرفة تفرض سطوتها على حكومة طرابلس.

ففي إطار مساعي إردوغان في إحياء عثمانيته الجديدة ومحاولة بسط نفوذ مرفوض في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قامت القوات التركية التي دخلت سوريا بشكل غير شرعي، بتغيير معالم المناطق التي تسيطر عليها، من خلال عملية إضفاء للصبغة التركية على منطقة شمال سوريا والعمل على إحداث تغيير في التركيبة الديمغرافية للمنطقة، حيث فرضت تلك القوات التعامل بالليرة التركية في المناطق التي تسيطر عليها بدلا من الليرة السورية، وتم رفع العلم التركي "وتغيير المناهج الدراسية"، وكذلك نقل أسماء البلدات من العربية إلى التركية، الأمر الذي استنكره مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، واعتبره احتلالا مسلحا.

والواقع أن مساعي التتريك كانت قد بدأت عقب دخول هذه القوات سوريا منتصف عام 2016، وذلك بإطلاق أسماء ضباط أتراك، قتلوا في معارك السيطرة على شمال وشمال شرقي حلب في عملية "درع الفرات"، على المدارس السورية مع فرض اللغة التركية كمادة أساسية في مناهج التدريس، وتعيين المدرسين الأكثر ولاء لتركيا، وتوجيه المنح الدراسية لاستكمال الدراسة الجامعية داخل تركيا على نفقتها للموالين.

وبهدف خلق واقع مصطنع على المدى الطويل لضم تلك المناطق إلى تركيا مستقبلا، قامت وزارة التربية التركية في يناير عام ٢٠١٨ بتوزيع وثيقة نهاية العام على طلاب المدارس المنتشرة في مناطق سيطرتها في "درع الفرات" شمال حلب، مرسوما عليها العلم التركي دون أي إشارة إلى اسم سوريا في كتاباته، وهو ما اعتبره الأهالي ممارسة لمزيد من التتريك بحق السوريين لا يقتصر على المنهج الدراسي، بعد أن تجلى في شتى مناحي الحياة.

وبعد مرور ٦ أشهر، تزايد "التوغل التركي" في شئون البلديات السورية، حيث تم إقامة نقاط تفتيش للجيش التركي، في مناطق تسيطر عليها الجماعات الموالية لها، مع منح السلطات التركية السوريين العائدين إلى عفرين"هوية نازح"، وامتد التتريك إلى تغيير أسماء قرى سورية بريف عفرين من أسماء كردية إلى أسماء تركية، مثل تغيير الساحة الرئيسة إلى "ساحة أتاتورك"، مما أثار استياء أهالي القرى السورية بالمنطقة، خاصة بعد تهجير مئات الآلاف منهم، وسرقة منازلهم وممتلكاتهم، والاستيلاء على المنازل والمزارع والسيارات ومتاجر والأراضي الزراعية.

 

وفي أكتوبر عام ٢٠١٨، أصدر "المجلس المحلي للمعارضة" الذي يضم مجموعة مسلحة مدعومة من تركيا في مدينة إعزاز بريف حلب "تعميما"، يلزم السكان باستخراج بطاقات هوية جديدة، لاستخدامها في الدوائر الرسمية بالمدينة، متوعدا المتخلفين عن حيازتها بالعقاب.

ولم تقتصر الاستفزازات التركية على دول الجوار فحسب، فكما اتجهت بوصله العدوان التركي شرقا نحو سوريا، فقد تواصلت محاولاتها الطامعة في الثروات والأراضي العربية فوجهت بوصلتها أيضا نحو الغرب باتجاه ليبيا، حيث دفعت بمرتزقتها وآلتها الحربية لبلد عمر المختار بعد سنوات من الحضور غير المباشر فيها. وبحقوق غير مشروعة، وأطماع لا تعترف بالحدود، حاول إردوغان أن يتخفى خلف مذكرة تفاهم غير قانونية مع حكومة طرابس تحركه في ذلك مطامع واضحة للعيان في ما يكمن في قاع البحر المتوسط من ثروات نفطية.

ولم تكتف تركيا إردوغان بسرقة أموال ليبيا ونفطها عبر حكومة طرابس، بل قامت بتوقيع اتفاق معه للسيطرة على ثروات البلاد في مياه البحر المتوسط، وتمديد الجرف التركي من خلال محاولة سرقة البترول والغاز من سواحل دول شرق المتوسط في تجاهل صارخ لحقوق هذه الدول السيادية وقانون البحار والقانون الدولي.

وجاء الاتفاق التركي الليبي المرفوض قانونيا ودوليا لتعيين الحدود في شرق المتوسط ليفتح الأقواس من جديد في جريمة نهب أنقرة لنفط ليبيا، ذلك الملف الذي تأبى تركيا أن تغلقه، رغم أنه أحد حلقات انتهاكها للقانون الدولي، إذ لم يكتف الأتراك باحتلال ليبيا ٤٠٠ عام في ظل الدولة العثمانية، فحاولوا العودة لها حاملين رايات العثمانيين الجدد، فأينما وجدت الثروات والموارد الطبيعية يدب صراع النفوذ ويترعرع، ومرة أخرى يعيد التاريخ نفسه من جديد مع ليبيا الأبية، التي رفض شعبها الهزيمة والاستسلام من قبل، وواجه مقصلة الأتراك بصمود الأبطال.

ورغم أن أنقرة سارعت الخطى من أجل إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا في محاولة لفرض واقع مصطنع ودعم ميلشيات متطرفة إلا أن البرلمان الليبي المنتخب وجه ضربة قاسمة للاتفاق الليبي التركي غير المشروع برفضه لذلك الاتفاق، واعتباره لاغيا وكأن لم يكن بل واعتبره جريمة خيانة عظمى بحق من قاموا بالتوقيع عليه.

وربما كانت آخر الإخفاقات التي مني بها إردوغان في هذا الخصوص هو ذلك الرفض الصريح من جانب دولتي الجوار لليبيا تونس والجزائر والتين رفضتا بشكل قاطع أي عمليات إنزال لقوات تركية على أراضيهما تكون في طريقها للحدود الليبية، مؤكدة رفض أي تدخل أجنبي في ليبيا الشقيقة ليكون ذلك بمثابة خيبة أمل جديدة لإردوغان في سلسلة الفشل لمغامراته وأطماعه غير المحدودة في المنطقة.