وزير الأوقاف يكتب: «فقه الحياة السياسية»

وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة

لعل من العجب العجاب أن يتصدى لفقه الحياة السياسية من لم يمارس السياسة قط أو يقترب من دوائرها أو يدرس كيف تدار شئون الدول يوما من الأيام، ولم يفهم معنى الدولة، ولا ظروف العصر.

وربما لا يعرف كامل أسماء المؤسسات والمنظمات الدولية، فضلا عن معرفة أدوارها ونظمها ولوائحها وطبيعة عملها ومقارها الرئيسية والفرعية، ولم يقرأ كلمة واحدة في القانون الدولي، ولا في قوانين المجال الجوي واستخدام الفضاء، ولا أسس ترسيم الحدود بين الدول، ولا حقوق استخدام المياه المشتركة، ولا طبيعة عمل الشركات العابرة للحدود والقارات، ولا مفاهيم التكتل الاقتصادي، ولا نظام المحاكم الدولية أو قضايا التحكيم الدولي، فضلا عن معرفة ما هو دستوري وما هو غير دستوري، ومهام المؤسسات القضائية المختلفة، ولا نظام إدارة البنوك أو البورصات، ولا حوافز تشجيع الاستثمار، ولا آليات حفظ الأمن القومي ولا إدارة أمن المجتمعات، ولا كيفية توفير الخدمات الأساسية فضلا عن تحديدها، وترتيب أولوياتها، ولا قرأ شيئا عن شئون الحياة السياسية وأسس بنائها والعلاقة بين السلطات، ولا قواعد عمل كل منها.

وقد نرى للأسف الشديد أدعياء أو دخلاء لا يُلمون بشيء مما سبق ومع ذلك يطلقون الفتاوى أو الأحكام في الشأن العام الداخلي والخارجي دون بصيرة بالأمر أو حتى إلمام به، وقد يورط أحدهم نفسه أو مؤسسته أو دولته في مشاكل لا يدرك عواقبها ولا نتائجها نتيجة تسرعه وعدم إدراكه مفهوم العلاقات الدولية.

وربما يسقط بعض النصوص دون فهمها ودون تحقيق مناطها على أحداث غير تلك الأحداث التي تناولها هذا النص آنذاك غير مفرق بين ما هو من شأن العقائد والعبادات وما هو من شئون نظام الحكم وإقامة الدول، وبعبارة أدق بين ما هو ثابت وما هو متغير، مع ما أكده العلماء والفقهاء والأصوليون من أنَّ الفتوى قد تتغير بتغير الزمان أو المكان أو أحوال الأشخاص أو المستفتين أو الأعراف أو العادات، وأنَّ ما كان راجحًا في عصر وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك العصر قد يكون مرجوحًا في عصر آخر إذا تغيرت ظروف هذا العصر وتغير وجه المصلحة فيه، وأن المُفْتَى به في عصر معين، وفي بيئة معينة.

وفي ظل ظروف معينة، قد يصبح غيره أولى منه في الإفتاء به إذا تغيّر العصر، أو تغيّرت البيئة ، أو تغيّرت الظروف، ما دام ذلك كله في ضوء الدليل الشرعي المعتبر، والمقاصد العامة للشريعة، وهو ما أكده علماؤنا الأوائل: يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) : إن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، وبالاستقراء وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور عليه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يُمنَع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز .

ويقرر الإمام القرافي (رحمه الله) : أن إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد فهو خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين … بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه، وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا.

ويقول ابن القيم (رحمه الله) : ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل.

ويقول ابن عابدين (رحمه الله) : إن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وإما أن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي، وكثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد : إنه لا بد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف  أهله.

ومن ثمة علينا أن نفرق بين الثابت والمتغير، وبين ما هو من شئون العقائد والمعاملات، وما هو من شئون نظام الدولة، فإن تنزيل أي منها منزلة الآخر خلل في الفهم وضرب من الجهل، كما يجب أن نفرق بين ما هو من شئون الأفراد، وما هو من شئون الدول، ومن له الحق في الفتوى أو التصرف فيما يتصل بشئون الدول، ولهذا أكدنا أن إعلان التعبئة العامة للدفاع عن حدود الدولة وكيانها «المعبر عنه في كتب التراث» بإعلان الجهاد هو من اختصاص ولي الأمر، وليس من اختصاص آحاد الناس أو جماعة منهم، كما أكدنا أيضًا أنه ليس لآحاد الناس أو عامتهم الحكم على أحد بالكفر أو الخروج من الملة، وإنما يثبت ذلك بحكم قضائي نهائي وبات، لخطورة ما يترتب على الحكم بالتكفير والإخراج من الدين.