قضية ورأي

الريف.. المعضلة والحل

تواجه المدن في دول العالم الثالث الكثير من المشكلات وقضايا النمو الحضري غير المخطط والتي تنعكس وتؤثر بجلاء في نوعية البيئات الجغرافية مع تعدد آثارها البيئية، وذلك خلال مرحلة النمو العمراني السريع في ظل تعثر جهود التنمية المحلية وغياب البعد القومي في التخطيط الإقليمي، نتيجة لتزايد الضغط السكاني عليها وتأجيل الاستثمار في التخطيط للمستقبل، وذلك لانشغال الحكومات في مواجهة التحديات والعقبات التي تؤخر مسيرتها نحو التقدم ولاسيما فيما يخص رفع المعدلات المالية للنمو الاقتصادي.
وتتطلب العدالة المكانية لحيز الدولة توفيرالتمويل المالي ـ الاقتصادي في إطار استراتيجية التنمية المتوازنة والمستمرة، حيث تعاني المدن المصرية من ظاهرة الامتدادات العشوائية منذ منتصف القرن العشرين، والتي تفاقمت مع مرحلة الانفتاح الاقتصادي غير المخطط،تلك المرحلة السياسية بالغة الأثر علي نتائج التنمية البشرية في مصر، بوجه عام، وبذلك طغت المعضلة فلم تستطع الحكومة فك الاشتباك بين مشكلات وتراكمات النمو العمراني العشوائي ووضع الاقتصاد القومي من منظور أزمة التنمية.
وتظهر ملامح العمران ـ منذ عهد الفراعنة وحتي حكم العثمانيين ـ سيادةعنصر الثبات وتغيب عامل التغيير، حتي اكتمال مشروع قناة السويس (1869)ـ بعد مشروعات الري الكبري في عصر محمد علي وإسماعيل ـ وكان وراء تحفيز النمو الاقتصادي بالقري القديمة التي منها خرجت مدن القناة الثلاثة، وأثر الصناعة في نمو المدن التي توطنت فيها، وفكرة المدن الجديدة الصحراوية (بعد حرب 1973) لامتصاص الزيادة السكانية المتوقعة بعيدا عن الأراضي الزراعية، رغم ضعف قدرتها الاستيعابية علي جذب المستهدف من سكان الوادي والدلتا.
ذلك الشريط الضيق بعمرانه وسكانه، مع حركة النهر من الجنوب إلي الشمال، وسط طغيان وغلبة الصحراء القاحلة التي لا تحض السكان علي الخروج إليها للتعمير والاستقرار، فقد استقر المصري القديم في القري والمدن بين اقتصاد خصوبة التربة ومستوي ماء النهر، حتي صار الفلاح المصري مزروعاً في التربة وسط زراعاته، يخاف بشدة من قسوة الصحاري وندرة مائها، فلا يقدر علي ثقافتها إلا جيش قوي ينأي بعيدا عن المدن لحمايتها قبل أن يهاجمها العدو، ومعه سكان البدو في تقويم عناء الصحراء ضد الفلاح القروي الذي اعتاد عطاء النهر.
ولا يقع تعثر برامج السياسة الحكومية وغياب استراتيجية التنمية الشاملة في مصرعلي ثورة يوليه (1952) منفردة،لكونها مشكلة تراكمية نتيجة تعامل الحكومات المتعاقبة (منذ ثلاثينيات القرن العشرين) مع قضايا الواقع المصري بإصلاحات لا ترجو سوي زمانها المحدود حتي وإن عادت بأضرار علي المستقبل،ولم يخل الأمر من تطوير بعض مناطق العاصمة المتدهورة وتنفيذ مشروعات حديقة الأزهر وإحياء الدرب الأحمر وغيرها للارتقاء بالبيئة العمرانية، ولكن الأمر يقتضي المعاملة بالمثل لكافة الأقاليم في الدولة.
ويلزم ذلك مشروع قومي للتنمية المحلية يقوم علي توفير استثمارات رفع الكفاية الإنتاجية في الريف، من خلال مشروعات متوافقة مع اقتصاديات الأرض الزراعية، وذلك للارتفاع بدخل سكان الريف وتقوية قدرتهم الفعلية لتحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، علاوة علي ضرورة الارتقاء وكفاية المرافق والخدمات في الريف لتقليل الفوارق بينها وبين الحضر والحد من تيار الهجرة الريفية ـ وما يتلازم معها من مشكلات بيئية تعود علي الريف والحضر بخسائر اقتصادية فادحة ـ بل توظيفها مع الشرائح السكانية الأخري المهيئة لمشروع الانتشار السكاني خارج الوادي والدلتا إلي الصحراوات والسواحل المصرية، للحفاظ علي الأرض المنزرعة ونشر العدالة المكانية وحق الإنسان المصري في بيئة نظيفة.
وعليه لابد أن توفر له الدولة كافة الجوانب التشريعية والقانونية والمؤسسية والتمويلية مع تفعيل المشاركة المجتمعية.