الدولة الوطنية والهوية العربية

وزير الأوقاف يكتب : الدولة الوطنية والهوية العربية

قضية  الهوية والانتماء من أهم القضايا التى إما أن تؤدى إلى الأمن والاستقرار، والازدهار والنماء، وإما أن تؤدى إلى التشرذم والتفكيك، وإثارة الاضطرابات والقلاقل والفتن، وربما العمالة أو الخيانة.
وللهوية أركانها ومعالمها التى يقاس من خلالهما مدى انتماء المرء لوطنه وهويته، ولا شك أن جميع الدول والقوميات والأعراق والمذهبيات سواء تلاقت أم تداخلت أم توازت أم تناقضت، فإن كلا منها يسعى ويعمل على تعميق الولاء والانتماء له لدى منتسبيه أو مستهدفيه، غير أن هناك صراعًا تاريخيًّا أو شبه تاريخى يقوى ويطفو على السطح حينًا، ويخفت ويستتر حينا آخر، لكنه موجود بصورة أو بأخرى على أية حال، وهو ذلك الصراع بين الحريصين على هوية الدولة الوطنية ومن يعملون أو يدينون بولاءات أخرى.
والفهم الخاطئ الذى أصلته ورسخته كثير من الجماعات المتطرفة لدى عناصرها هو أن الولاء للجماعة والتنظيم فوق الولاء للوطن، وهذا الفهم تتبناه جميع الجماعات الإرهابية والمتطرفة التى ترى أن الدولة الوطنية بحدودها الراسخة المستقرة تقف صخرة وعقبة كئود فى وجه مشروعاتهم السلطوية للقفز على الدولة الوطنية.
ونؤكد على الآتى : أهمية تعميق وترسيخ الولاء والانتماء الوطنى، والاعتزاز بالوطن والاستعداد لفدائه بالنفس والنفيس مع الشعور بفضله، والحفاظ على ترابه وثراه، والتأكيد على أن الوطنية ليست نقيضًا للدين أو مقابلا له، بل هى من صلب الدين، وهذا نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول مخاطبًا مكة المكرمة : والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت، وظل (صلى الله عليه وسلم) يصوب نظره إلى السماء آملا أن يرده الله (عز وجل) إليها ردًا جميلا، ولو بالتحول تجاهها فى صلاته، حتى نزل قول الله تعالى : «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «.
أن ترسيخ الهوية الوطنية له معالمه الظاهرة من احترام علم الدولة والعمل على رفعه عاليًّا، وترسيخ نشيدها الوطنى وكل ما يحفر اسمها فى النفوس والقلوب، وله ما يدعمه مضمونًا وجوهرًا من العمل والإنتاج، وإيثار المصلحة العامة للوطن على أى مصالح أخرى، وإدراك أن مصلحة الوطن هى مصلحة لجميع أفراده وأبنائه، وأن رجلا فقيرًا فى دولة غنية قوية خير مائة مرة ومرة من رجل غنى قوى فى دولة فقيرة ضعيفة مهددة فى كيانها وأصل وجودها.
أن الهوية الوطنية قد تتلاقى مع هويات أخرى عربية، أو إسلامية، أو أفريقية، أو أسيوية، حسب ظروف وموقع كل دولة، على ألا يكون ذلك توجه أفراد أو جماعات أو أحزاب أو قبائل بمعزل عن التوجه الوطنى، فيذهب هذا إلى الشرق وذاك إلى الغرب وآخر إلى الشمال ورابع إلى الجنوب، مما يؤدى إلى تمزق الدول وتفككها وتشتيت كيانها بل ربما تشرذمها، بل أن تكون الدولة الوطنية على قلب رجل واحد فى توجهاتها بما يعطيها القوة فى محيطها الإقليمى وفى علاقاتها الدولية.
أننا مع اعتزازنا بهويتنا وحضارتنا وثقافتنا الإسلامية وإدراكنا لأهمية العمق الاستراتيجى الأفريقى، فإننا نرى فى بعدنا العربى بعدًا مهمًا يتطلب مزيدًا من العمل المشترك فى ظل التحديات التى تواجه عالمنا العربى فى وجوده وكيانه وتماسكه، متطلعين إلى دور أكبر وحركة دءوب لجامعة الدول العربية بما يحقق جمع الشمل العربى، إذ نرى أن هذا الأمر صار ملحًا، وأن المصلحة العربية المشتركة تقتضى أقصى درجات التنسيق والمشاركة فى كل المجالات بما يحفظ للأمة العربية هويتها، ويحقق لها مجتمعة أمنها واستقرارها، ويسهم فى القضاء على الإرهاب فى المنطقة، ويخلصها ويسهم فى تخليص العالم كله من شر التطرف والإرهاب، آملين أن يُشكل عملنا المشترك قوة ضاغطة فى جميع المحافل الدولية بما يسمع صوتنا للعالم، ويبرز أننا ضحايا ولسنا جلادين، وأننا فى مقدمة المواجهين للإرهاب لأننا أكثر من يكتوى بناره، وأننا دعاة سلام لا دعاة حرب، غير أنه سلام لا يمكن أن يكون ولن يكون أبدًا استسلامًا، وأن هذه الأمة لن تستسلم ولن تموت، وأن روح المقاومة فيها لاتزال وستظل حية قوية، وأنها لا يمكن أن تكون صيدًا سهلاً لأعدائها، وأنها على قدر المسئولية والتحديات، غير أن الأمر يتطلب تحركًا سريعًا على كل المستويات قبل فوات الأوان، لأن الخطر داهم، والخطب شديد، والعدو شرس لا يهدأ ولا ينام، ويجب أن تكون يقظتنا أشد وهمتنا أعلى، لأن الأمر يتعلق بأصل وجودنا، فإما أن نكون أو ألا نكون، مع التأكيد على أننا معًا سنكون قادرين على تجاوز التحديات، معًا على المستوى الوطنى، والمستوى العربى، والمستوى الإسلامى، والمستوى الأفريقى، والمستوى الدولى، معًا مع الدول الصديقة والمحبة للسلام، معًا وفى كل ميدان بحسبه وما يناسبه، وليس أى من هذه العلاقات على حساب علاقة أخرى تتساوق معها أو تتوازى، على أننا إن أحسنا إدارة الأمر فستكون كل علاقة منها دعمًا للعلاقات الأخرى، وبما يحقق مصالح الجميع، إذن ينبغى على كل طرف أن يحمل الخير لنفسه ولغيره وللإنسانية لنحيا معًا حياة هادئة هانئة، لا أن تتحول الساحة الدولية إلى صراعات مختلفة لا تبقى ولا تذر، ولا تعود بالخير على أحد، فالعاقل من يعمل للسلام له ولغيره، والأحمق من يسعى للهلاك والدمار والقلاقل والفتن، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وإنا لنرجو أن نكون منهم إن شاء الله تعالى.