يوميات الأخبار

لا مستقبل ولا أمل لأمة لا تعتنى العناية الكبرى الفائقة بالطفولة، بل أجزم بأن صناعة الوطن ورقيه فى الحقيقة تبدأ بالصناعة الناجحة للطفولة، وصناعة الحضارة فى حقيقتها تعنى حشد العناصر اللازمة لبناء سليم للطفل فى نموه العقلي، وغرس الأمل والطموح عنده، وإشباع نهمه للترفيه والتعلم والتدلل، والصناعة التدريجية للعقل القادر على تشرب المعرفة وارتشافها ببطء، مع اكتشاف المواهب، وتنمية النبوغ، وفتح منافذ العبقرية والابتكار، والذى يرصد السيرة النبوية المشرفة فى التعامل مع الطفولة يرى فيها حكمة النبوة المنيرة فى العناية واللطف والاهتمام بالطفل، وإشباعه النفسي، وإحاطته بكل متطلبات متعته ولعبه وتدليله، والسير به فى اتجاه تفجير مواهبه، واكتشاف مواضع نبوغه، وشدة ثقته فى ذاته، ولياقته الاجتماعية بحيث لا ينشأ عدوانيا، ولا متطاولا، ولا منطويا، ولا مستهترا.
ولقد عكفت على مدى فترة زمنية طويلة أتأمل اللمحات والومضات المختلفة من التعامل النبوى الرفيع والحكيم والجميل مع الطفولة، فصرت أرى تجميد الصلاة رغم جلاها ووقارها وعظمة شأنها بسبب أن الحسن والحسين قد صعدا على ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم، فلا يتعجلهما، بل يترك لهما الوقت كاملا بلا حدود حتى قضى كل واحد منهما نهمته للعبة، وانصرف إلى شأن آخر يستهويه، فحينئذ رجع صلى الله عليه وسلم إلى استئناف صلاته، وكفى بهذه اللمحة عناية وحماية للطفولة، بل يمر عليه الصلاة والسلام على الطفل وهو جالس فى جانب من الطريق، وعليه مسحة الحزن، لموت طائر النُّغَيْر الذى كان يقتنيه ويلهو معه، فيقبل عليه، بكامل الحدب والحنان، وهو يقول له: (يا أبا عمير، ما فعل النغير!!)، مع ما يحيط بهذا الموقف من إقبال نفسى غامر، وعدم ترك الطفل لحزنه، وإخراجه من هذه الفجوة النفسية التى تخيل إليه أن الدنيا كلها قد توقفت موت طائره.
إلى غير ذلك من مشاهد عناية الهدى النبوى بالطفل، والرحمة به، وإشباع نفسيته، وبث معانى الجمال والحب واللطف والإكرام فى وعيه، ويمكن لمن يتتبع المواقف النبوية أن يجمع كتابا كبيرا فى هذا الباب.
ومنه نسطيع أن نرى أن هذا الدين يحمل للإنسان مخزونا هائلا من العناية والتكريم، والحفاوة، فى مختلف أطوار هذا الإنسان، طفلا، أو رجلا، أو امرأة، أو جارا، أو طالبا للعلم، أو مخالفا، أو عدوا، وأن هذا الدين الحنيف فى مجموع أحكامه حافل بكل رقى وإنسانية، وتقدير للحياة، وإحاطتها بكل مظاهر التكريم، وأنه لا يرضى لخاطر أن ينكسر، ولا يرضى لإنسان أن يحزن، وأنه جاء للناس رحمة وراحة.
والخيط الذى أنا مهتم به فى هذا المقال هو قضية الطفولة، ونحن هنا فى مصر كانت عندنا عناية كبيرة بالطفل على مستوى المجلات والبرامج والتنشئة الأولى ابتداء من الكتاتيب إلى مختلف صور الحفاوة والعناية بالطفل، وما كنا نعرف ظاهرة الأطفال فى حالة الشارع، ولا تشيع بيننا ظاهرة عمالة الطفل، ولا تشرده، ولا التعليم الأجنبى الذى يتلقاه من أول مراحل الحضانة، فيصنع منه طفلا يعيش بجسده فى مصر، لكن ولاءه وعقله هناك فى بلد آخر، مما يجعل انتماءه إلى هذا الوطن واهيا جدا أو منعدما، لا يصمد أمام أى أزمة أو ضائقة، وكانت عندنا عدة إصدارات ودوريات ومجلات عريقة تخاطب الطفل، ومسابقات وأعمال تخصه، لكن ذلك كله تراجع فى السنوات الماضية، حتى سبقتنا عدة دول مجاورة من الدول الشقيقة، فقطعت شوطا كبيرا فى مجلات الأطفال، وحولت أحد هذه المجلات إلى قناة فضائية كاملة، صار لها أثر عميق على شرائح من الأطفال تحولت لهجهتم إلى لهجة تلك الدولة الشقيقة، إلى غير ذلك من مظاهر الإشكالية المتعلقة بالطفل.
والذى أريده هنا أننا فى حاجة ماسة إلى عمل واسع واستراتيجى يخص الطفل المصري، ويضع له خطة عمل عاجلة، تعيد بناء نفسيته، ووعيه بقيمة مصر وعراقتها وقدرها العظيم، وتبث فيه معانى الانتماء العميق لهذا البلد، وتطلق فى نفسيته معنى الثقة فى النفس والوطن، مع التألق والجمال فى كل شيء، والشغف بالإبداع والاختراع، إلى غيرها من المستهدفات التى لابد من سريانها فى الأجيال القادمة من المصريين، وذلك من خلال عشرات الوسائل المخدومة من خلال التعليم الترفيهي، والتطبيقات الإلكترونية التى تتاح على أجهزة الهاتف الذكية وغيرها من الوسائط الرقمية.
فضلا عن تعديل فلسفة التعليم لترجع إلى اكتشاف مواهب الطفل ونبوغه، والبناء التراكمى الذى يصنع منه شخصا مستقرا نفسيا، قادرا على التحدي، واجتياز الأزمات، عميق الارتباط بهذا البلد، مؤمنا به وبقيمته، يفتديه بنفسه وروحه.
لابد من عرض خلاب لكل رجال هذا الوطن من العباقرة والمبدعين والعلماء والقادة والزعماء عبر مراحل التاريخ، لترى الأجيال عظمة هذا الوطن من خلال الحشود الهائلة من القامات العظيمة التى نبتت فى أرضه، وعرض مقاطع معينة من كيفية تكوين تاريخ هذا البلد العظيم وتفرده وعبقريته، تجعل الناشيء لا يرى مكانا فى الدنيا يوازى عظمة هذا المكان الكبير.
إن الطفولة هى الملف الحقيقى الجدير بكل صور العناية، وهو القضية القومية الأولى فى نظري، والتى تضمن لمصر أن تظل تنتقل من جيل إلى جيل، كريمة شامخة، دون أن تصل إلى جيل من الأجيال فتضيع عنده، ولابد من بداية عاجلة تتضافر فيها مؤسسات الوطن على منح الطفولة كل وسائل العناية والدراسة لمشكلاتها، وتسخير كل طاقات هذا الوطن على سريان مكونات شخصية الإنسان المصرى الأصيل إلى أطفال مصر، مصحوبة بالأمل العظيم، والروح النابضة، والوفاء، والحب، والبناء النفسى المنسوج بدقة بالغة لصناعة طفل مصرى قادر على أن يصون هذا الوطن، وينقله إلى الجيل الذى يليه، وسلام على الصادقين.