حق ربنا

الحج .. مرة واحدة تكفى

قبل سنوات كنت معارا للعمل صحفيا في سلطنة عمان ووقتها أصدر السلطان قابوس بن سعيد قرارا مذهلا بمنع زواج العمانيين من غير العمانيات، ورتب على من يخالف هذا القرار عقوبات منها الحرمان من الجنسية العمانية. وقلت كيف يخالف السلطان ما أحل الله ويمنع زواج مسلم عمانى بمسلمة من أى جنسية. وأسرعت إلى المفتى العام للسلطنة أطرح عليه اسئلتى. وفهمت أن لرئيس الدولة أو ولى الأمر الحق فى إصدار قرارات للمحافظة على مصالح الرعية حتى ولو كانت فى ظاهرها متصادمة مع الشريعة. وقد رأى السلطان استفحال ظاهرة العنوسة بين بنات وطنه. وبسبب حالة غلاء المهور المتفشية أصبح كل شاب مقبل على الزواج يستسهل الزواج بامرأة من جنسية أخرى يأتى بها إلى بلده وينجب منها أولادا نصف عمانيين بينما بنات البلد يعشن عذاب الهجر والإعراض. وقد صاحب قرار السلطان قابوس وقتها قرار آخر بألا يزيد المهر الذى يقدمه أى شاب لأى فتاة مهما كانت عائلتها أو قبيلتها عن ثلاثة آلاف ريال عمانى. ورغم غرابة القرار إلا أن المجتمع تجاوب معه وظهرت آثاره الايجابية بعد ذلك فى شكل وئام وسلام اجتماعى وتصحيح لأخطاء انساق المجتمع إليها تحت ضغط الظروف الاجتماعية.
أقول هذا الكلام الآن لأطالب باتخاذ إجراءات لتحجيم اندفاع المصريين فى اتجاه الحج والعمرة فى ظل النقص الحاد فى العملات الأجنبية والارتفاع القياسى للدولار والريال السعودى..  ورغم ذلك فالراغبون فى الحج مستعدون لبيع ملابسهم لشرائه فى سبيل السفر لأداء الحج. وكثيرون منهم سبق لهم الحج لأكثر من مرة حتى أصبح السفر عندهم عادة أكثر منها عبادة.. وإذا كانت الدولة الغارقة فى الأزمات ترى وتسمع فلماذا يترك ولى الأمر هذه الأزمة تزداد اشتعالا وبيده أن يصدر قرارا بتحجيم أعداد الراغبين فى أداء الفريضة لأقل عدد ممكن حفاظا على الوضع الاقتصادى المتراجع للدولة والذى يدفع ثمنه الفقراء والمساكين من أبناء الوطن الذين يجدون لقمة العيش بمشقة بالغة؟! سيقول المصممون على أداء الحج ولو للمرة العاشرة هذه أموالنا كسبناها بعرق جبيننا وليس لأحد أن يفرض رأيه علينا فى إنفاقها.  وهنا دور مهم لعلماء الدين ومشايخ الأزهر ليجلوا للناس الحقائق ويوضحوا لهم بابا من أبواب الفقه وهو »المصالح المرسلة« يجيز للحاكم أن يتخذ الإجراءات المناسبة لحماية مصالح الأمة.. ولاشك أن هواة المخالفة الذين ستأخذهم العزة بالإثم سيبحثون وراء كل باب على طريقة للسفر بعيدا عن أعين الدولة ولا أجد غضاضة أن أطالب باتخاذ إجراءات رادعة أمام كل من تسول له نفسه مخالفة هذا الإجراء. فالأمن الاقتصادى للدولة لا يقل أبدا عن الأمن الاجتماعى والأمن السياسى.. وهذا يذكرنى بالقرار الذى اتخذه الرئيس الراحل أنور السادات بحظر بيع اللحوم لمدة شهر للسيطرة على أسعارها التى انفلتت ووقتها وجدنا أناسا تذبح خارج القانون وآخرين يشترون وكأن القرارات جاءت عقابا لهم بينما هى تحقق صميم مصالحهم.
لقد رأيت بنفسى قبل أسابيع مدى تهافت الناس على السفر.. ولو فكر واحد من الذين تجهزوا للحج أن يوجه نفقة حجه لعلاج مريض أوشك على الهلاك أو لمساعدة أرملة تجهز ابنتها للزواج أو تقديم جزء من احتياجات أسرة انكشف سترها لكان خيرا له.. نعم الدنيا مليئة بالمآسى وتحتاج لأصحاب القلوب الرحيمة، ولكن فكرة السفر وركوب الطائرات والسفن والطواف بالكعبة والوقوف بعرفة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم تستبد بهم وتحجب عنهم أبواب خير كبيرة هى أفضل عند الله من هوى النفس الذى يدفع بصاحبه أن يتجاهل مصائب الناس ليذهب هو للتنعم بالحج.. فمتى نرى ولىّ أمرنا يتخذ مثل هذه الخطوة لصالح وطننا؟!