يوميات الأخبار 1

السماتُ الثمان وحسن البنا

شهدت السنوات الثمانون الماضيات بروز أنماط من الخطاب الدينى الموصوف بعدد من الصفات والسمات، صنعت لنا ظاهرة الخراب والعنف، وهذه الطريقة فى التفكير ضاربة بجذورها فى أطروحة حسن البنا، حيث إنه هو شخصيا يمثل حالة عارمة من الحماس والاندفاع الأهوج، والإفراط فى الحركية العشوائية المشتعلة، دون أن تكون مسبوقة برؤية علمية رصينة مدروسة ومؤصلة، مع كونه يفتقد افتقادا تاما للعمق وأدوات فهم الوحي، ومثله سائر الشخصيات التى تزعمت التيارات الإخوانية أو المنبثقة من الإخوان، حيث يشتركون جميعا فى هذه السمات المشتركة لطريقة تكوين عقولهم، والمتأمل لهذه العقلية يجد أنه موصوفة بثمانى سمات:
أولها: الحماس المطلق واشتعال حالة من اللهج والشغف بقضية الإسلام، مع تهييج المشاعر، وتعبئة العواطف، والإفراط فى الخطابة بكل صورها، والضغط على المشاعر واستفزازها بقضية فلسطين، وقضية المعاصى والمخالفات فى المجتمع، دون الصبر على العلم بكل ما يتطلبه من هدوء، وصبر، ومناهج دراسية عميقة، وصناعة طريقة تفكير علمى رصين، ووجود أساتذة وعلماء وخبراء.
ثانيها: الاندفاع الأهوج، ووضع خطط عمل لخدمة الإسلام، لكنها خطط عمل قصيرة الأمد، متعجلة، هوجاء، تكتفى بإحداث حالة من الإشباع الوقتى للمشاعر، وتصنع إنسانا يبحث أبدا عن الحركية والنشاط والأعمال والنقابات والتجميع والحشد والتجنيد، دون هدف ولا رؤية علمية، ودون علوم ومناهج وعلماء ومفكرين وباحثين ودارسين، فيستثار الناس ويتجمعون ويحتشدون، ثم يتم ضخهم جميعا فى رؤية منخفضة أنتجها لهم عقل حركى مغرق فى الجزئيات والتفاصيل، كل ذلك مع كبر فى باطن النفس، وادعاء الخيرية فى الذات، واستبطان معنى الاستعلاء، وأبرز مثال لذلك هو حسن البنا نفسه، الذى اعتمد على مقدرته الخطابية وبيانه وفصاحته، فى حين أن فكرة الإخوان انبثقت عنده وسنه تسع عشرة سنة، بل توفى هو نفسه وعمره أربع وأربعون سنة، وندم فى آخر عمره على فكرته الإخوانية نفسها، مما يجعله حالة حادة من العشوائية الفكرية التى تركت لنا من بعده آثارا مدمرة.
ثالثها: افتقاد أدوات العلم ومفاتيحه ومناهجه وصنعته الرصينة الثقيلة، وكتبه، ومدارسه، ومناهجه، وتراتيبه، فليس هناك أدنى وجود لدوائر علوم فهم الوحي، من علوم النحو، والصرف، والبلاغة، وأصول الفقه، والتفسير، والفقه، ومقاصد الشريعة، ولا تمرس بذلك، وتدريب عليه، فضلا عن علوم إدراك الواقع بكل عوالمه، وتعقيداته، وتطوره، وتشابكه.
رابعها: غياب مقاصد الشرع الشريف، من حفظ النفس، والعقل، والدين، والأموال والممتلكات، والنسل والأعراض، ومنظومة قيم هذا الدين، وطريقة تفكيره، وأخلاقه، وهدايته، وعلومه، وصورته الناصعة، فتسببوا باندفاعهم هذا فى إزهاق الأرواح، بعد الحكم بتكفيرها، والتوسع فى التكفير، وأباحوا لأنفسهم التدمير والتفجير، وأثقلوا على الناس وضيقوا عليهم.
خامسها: التباس فهم الواقع المغرق فى التداخل والتشابك والتغير، حيث إن الواقع مكون من عالم الأشخاص، وعالم الأشياء، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، مع العلاقات البينية الرابطة بين تلك العوالم، مما أنتج طفرات فى عالم المواصلات والاتصالات، فتشابكت فلسفات العالم وأنماط معيشته على نحو بالغ التعقيد، وتداخلت المناهج البحثية، ونظم الإدارة، ونظم الاقتصاد، والعلاقات الدولية، وأثر كل ذلك على دولنا ومجتمعاتنا وثقافتنا، وما ينبغى أن يترتب على ذلك من تطوير فى خطابنا، حتى نستطيع إقامة الجسور بين الوحى بكل جلاله وتساميه، وبين الواقع بكل تعقيده، مع الحقيقة الثابتة والتى هى أنه لابد من وجود علاقة بين هذا الوحى الثابت وهذا الواقع المتغير وإلا انعدمت الفائدة من وجود الوحى أصلا، فغابت عن عقول تيارات التطرف كل هذه الأبعاد تماما، وصار إدراكهم للواقع مسطحا ساذجا، بل وصلت المكابرة أحيانا إلى نفى الواقع وجحوده وعدم الاعتراف بوجوده أصلا.
سادسها: الانحراف بسبب كل ما سبق إلى حالة من الفظاظة وعدم الإنسانية، حتى ظهر فى خطابهم الفحش والسباب والتحقير وإهانة المخالف بل وصل العمى والانطماس عند عدد منهم أن يقول-كذبا وافتراءً-: إن الله أمرنى أن أسب وأشتم، ومن خلال ممارساتهم هذه غابت تماما القيم الرفيعة للشرع الشريف فى إدارة الاختلاف، حيث أمرنا ألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتى هى (أحسن)، وأمر موسى أن يخاطب فرعون الذى ادعى لنفسه الألوهية بأن يقول له قولا لينا.
سابعها: اللا معقولية والغياب التام للمنطقية، وافتقاد المقدرة على صناعة خطاب قادر على تقديم أطروحات معقولة منطقية قابلة للإقناع.
ثامنها: هو الانتهاء إلى حالة حادة من القبح والتنفير، والأطروحات الحادة الصادمة، مما يترتب عليه آثار اجتماعية فى غاية الاضطراب، وتنجرف بسببهم الأوطان والبلاد إلى القلاقل والنزاع، مما يهتزُّ بسببه اليقين، وتتزلزل بسببه العقول والأفئدة، فيؤدى حتما إلى بروز تطرف مضاد يفضى إلى الإلحاد.
وقد وصف القرآن الكريم هذه المسارات بأوجز عبارة، وأبلغ إشارة، فى قول الله جل جلاله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران، الآية 159)، فقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) تلخيص للمعالم الكبرى لكل خطاب شرعى دينى نابع من روح الشريعة، مؤسس على علومها وأدوات فهمها، محقق لمقاصدها، وقوله سبحانه: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) تلخيص للمعالم الكبرى لكل خطاب مؤسس على الحماس، مفتقد لأدوات الفهم، منجرف فى الحركية، والنتيجة الحتمية لهذا النمط الثانى من الخطاب هى قوله سبحانه بعدها: (لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).
وهذا الخطاب المتطرف فى الثمانين عاما الماضية له فلسفات وأدبيات وكتب وتنظيرات وتأويلات منحرفة للآيات والأحاديث الشريفة، آلت إلى عدد من المنطلقات المظلمة كالحاكمية، والجاهلية، والفرقة الناجية، والولاء والبراء، وحتمية الصدام، وغيرها، مما ينتهى إلى صناعة تيارات كثيرة، تتعدد مظاهرها، وتختلف أسماؤها، لكنها جميعا تدور فى هذا الفلك، وتردد المفاهيم ذاتها، وتختلف فيما بينها فى جزئيات وفروع، ويكفر بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا.