مؤامرات الداخل أخطر من مؤامرات الخارج، والمؤامرات من داخل النظام أخطر مما يأتي من جماعة الإخوان، والفساد الذي ينخر في بدن الدولة أخطر من الإرهاب، وهشاشة المؤسسات أخطر من إسقاط الطائرات، وبعض ما يصدر عن البرلمان المصري أخطر من انتقادات وتهجمات البرلمان الأوروبي.
وقد فزع الناس، وعندهم كل الحق، من تصريحات متكررة نسبت إلي الدكتور علي عبد العال رئيس مجلس النواب، ومفادها تحريم وتجريم المناقشة العلنية للسياسة النقدية والمالية للدولة في البرلمان أو في وسائل الإعلام، واعتبار ذلك موجبا لإحالة النائب المتهم بالمناقشة العلنية إلي لجنة القيم، وبدا الكلام عجيبا غريبا، خاصة حين يصدر من رجل كان أستاذا للقانون الدستوري، فألف باء البرلمان هي الرقابة والتشريع، وألف باء الرقابة هي إقرار أو رفض الموازنة العامة للدولة، وألف باء المناقشات البرلمانية هي التعرض الوجوبي لتصرفات الحكومة المالية، بل إن البرلمانات نفسها نشأت تاريخيا لأسباب مالية، فقد تعود حكام أوروبا قبل البرلمانات علي فرض وجمع الضرائب دونما رقيب ولا حسيب، ونشأت البرلمانات بهدف مراقبة تصرفات الحكام بالضرائب المحصلة، ثم تطورت فكرة البرلمانات إلي إعطائها حق إصدار القوانين، وإلي مراقبة كل شاردة وواردة في إيرادات ومصروفات الدولة، وقد عرفت مصر سيرة البرلمانات قبل مئة وخمسين سنة، ونشأ في العام 1866 مجلس شوري النواب، وكان مؤلفا من 75 عضوا، ورفض النواب أن يكونوا مجلسا للزينة وتلقي البدلات والمكافآت، وصمموا علي أداء واجبهم النيابي المفترض، وطالبوا بالرقابة الفورية علي السياسات المالية للحكومة، كان كبير النظار ـ رئيس الوزراء ـ وقتها اسمه رياض باشا، وكان وزير المالية إنجليزيا اسمه ريفرز ويلسون، ودخل النواب عثمان الهرميل ومحمود العطار وعبد الشهيد بطرس وعبد السلام المويلحي في معارك طاحنة مع الحكومة، التي حاولت أن تحجب البيان المالي عن مجلس النواب، وهدد رياض باشا بفض الدورة وحل البرلمان المصري الأول، فما كان من النائب عبد الشهيد بطرس إلا أن قابل الغلظة بالغلظة، واتهم رئيس الوزراء بالوقاحة، وزاد النائب عبد السلام المويلحي بالرد العاصف علي تهديد رياض باشا، وقال «إننا لن نخرج من مجلس النواب إلا علي أسنة الحراب»، وخضعت الحكومة في النهاية، وعرضت البيان المالي بتفاصيله لمناقشة ساخنة في مجلس شوري النواب، ودون أن يحال نائب إلي شيء اسمه «لجنة القيم»، ولا اتهام نائب بإسقاط الدولة، لأنه أراد مناقشة أو معارضة موازنة الدولة وسياستها النقدية، وكما يفعل عبد العال الآن في خطايا ترتكب بحق مصر وتاريخها البرلماني.
وقد يقول لك أحدهم إن القصة مختلفة، وإن سبب عصبية عبد العال شيء آخر، وأنه هدد بالويل والثبور وعظائم العقوبات بسبب مراكز تدريب النواب علي مناقشة موازنة الدولة، وأن عددا من مراكز التدريب إياها ممولة أجنبيا، وهذه قضية تستحق التوقف بدون خلط للأوراق، فليس عيبا أن يتم تدريب النواب في مراكز مصرية بتمويل مصري، لكن العيب والخطر في التمويل الأجنبي، وهذه قضية ليست من اختصاصات عبد العال، فمجلس النواب ليس جهة أمنية ولا قضائية، وبوسع من أمدوه بالملفات إياها، أن يبلغوا النيابة العامة لو استطاعوا أو أرادوا، وثمة قضية محظور النشر فيها، ولاتزال إلي اللحظة في أدراج النيابة ودهاليز المحاكم، وثمة سوابق معروفة، بينها قضية تمويل أجنبي ظهرت في 2011، وانتهت إلي متاهة بعد تهريب الأجانب المتهمين علي متن طائرة أمريكية عسكرية أقلعت علنا من مطار القاهرة، ثم دخلت الدولة في «تهتهات» وتفاسير عبيطة لم تقنع أحدا، فالأصل في المأساة هو ارتعاش الدولة، وأنها لا تحرم ولا تجرم التمويل الأجنبي، وقد تحديت الدولة أن تفعل علي مدي العقود الثلاثة الأخيرة، ولم تجرؤ علي الفعل برغم تغير أسماء الحكام، ولا جرؤت علي محاسبة أحد، ولا حتي حاسبت أجهزتها نفسها المتورطة في فساد وتوزيع «تورتة» التمويل الأجنبي، ولا التحقيق مع عبد العال نفسه، والذي اتهمه أحد مراكز التدريب بتلقي مكافأة تمويل أجنبي، وبمشاركته شخصيا في دورات تدريب من التي ينهي عنها، ويهدد بعقاب المشاركين فيها، وينسي أن يعاقب نفسه، أو أن يبادر بدفع الاتهام الشائن.
المأساة ـ إذن ـ أعقد من كلام عابر يلقي علي عواهنه، فلم يجرؤ أحد من رؤساء برلمانات مصر علي مثل أقوال عبد العال عظيمة الشذوذ، لم يجرؤ أحدهم علي تحريم أو تجريم مناقشة أو معارضة موازنة الدولة أو السياسة النقدية، حتي في العهود التي زورت فيها انتخابات البرلمانات، بينما البرلمان الحالي لم يأت بانتخابات مزورة في صناديق التصويت، ويراد حجب الحق البرلماني البديهي عن نوابه، وبما يزيد الطينة بلة، فقد وضعوا للبرلمان قانون انتخابات مشوها مطعونا عليه، شارك في صياغته علي عبد العال نفسه، واعترف وقتها بأن تقسيم الدوائر العجيب جاء لأسباب أمنية، ثم تواطأت ظروف مضافة علي إضعاف البرلمان قبل انتخابه، وتعاونت جماعة البيزنس مع جماعة الأمن علي التحكم في تشكيله، وجرت أوسع عملية من نوعها في تاريخ مصر لشراء المرشحين قبل الناخبين، وكان رد فعل الناس ساطعا مدويا، وقاطعوا بأغلبيتهم العظمي، وفاز من فاز في البرلمان بعشرة بالمئة لا غير من إجمالي أصوات الناخبين المقيدين، وصرنا بصدد «ميني برلمان» انتخبه «ميني شعب»، وبصدد ضعف مريع إلي حد التلاشي في تمثيل «الميني برلمان» للقاعدة الشعبية، والذي يخاف أغلب نوابه إلي حد الفزع من احتمالات الحل، ويريد لهم عبد العال أن يقولوا للحكومة «آمين» في كل وقت وحين، وأن يتعاملوا مع السياسة المالية والنقدية كأنها «الحرم المكي»، لا يجوز فيه اللغو ولا المناقشة ولا الاعتراض لا سمح الله.
وهذه هي المصيبة مجددا، فمؤامرات الخارج قد تسقط لنا طائرة، لكن خطايا الداخل قد تسقط الدولة، وتشوه ذكرها وسيرتها في العالمين.