على بعد خطوة ثمة أسئلة تفتقد أجوبتها

صورة موضوعية
صورة موضوعية

إبراهيم أحمد أردش

الذات الإنسانية المبدعة فى حيرة دائمة، تبحث عن ماهية وجودها فى العالم، وما يمكن أن تحققه وسط ذوات أخرى تسعى إلى التحقق، ذات تبحث عن مكمن الصراع ومن ستصارع، هل الآخر؟ هل الذات نفسها؟ ولماذا تتصارع؟ ولماذا تعيش الذات فى هذا القلق الوجودى والتوتر والصراع؟ لقد كان على الذات أن تطرح أسئلتها الخاصة، لكن هل ستجد الإجابة؟ ومن سيجيبها؟ هل الآخر الذى يتموقع فى صراع دائم مع الذات، أم الذات نفسها التى لا تملك تفسيرًا لما يدور فى دواخلها؟ وعن هذه الحيرة التى لا تخمد نارها المشتعلة فى التفكير ولا يغمد سيفها المسلط على العقل، يحاول الشاعر زين الرزيقى طرحها على الورق؛ ليدخل قارئه فى دوامته، ربما يبحثان معًا عن خلاص يتمثل فى جواب شافٍ.

وذلك فى ديوان «على بعد خطوة» للشاعر زين الرزيقي، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة ديوان الشعر العامى فى طبعته الأولى، عام 2023م، ورغم أن عنوان الديوان يوحى بالقرب وبالوصول، إلا أن متن الديوان يبتعد كثيرًا عن هذا المراد الذى يظن أنه أوشك على الحدوث، إن الذات لا تصل إلى شيء، هى خطوة سرمدية لا تتقدم فى المكان؛ فالهدف قريب، لكن السبيل إليه لا يتحقق، إنه تيه متصل من الأسئلة حول هذه الخطوة التى لا تتقدم إلى الأمام وتصبح الأسئلة ضوارى مفترسة:

«وأسئله نياب مطلوقة عليه
 يصرخ.. اللوم ع السوط ولا الأحلام!
 إن كان الفر من الجدران ما وهبش حياه..
ولا سكة أمان للحرية» (ص11)
لم يعد يتحكم فى أسئلته ويسيطر على تداعيها، فيصرخ بها، أسئلة تتعلق بالقيد والحلم بالحرية، وعلى أيهما يقع اللوم، وهل يمكن أن تحقق الذات وجودها الحقيقى إذا انسلخت من جدران العقل؟ هل ستنال حريتها، أم ستقيد فى عقل آخر يشيد حولها جدرانه بأفكاره، فيعيش مستلبًا بأفكار غيره؟ لقد أصبحت أسئلة الذات ممتلئة بالموت: 

«نسأل.. وكأن سؤالنا ماليه الموت» (ص16)

إن الذات تحتاج الإجابة على هذه الأسئلة التى يحاوطها الموت وتشتتها الحيرة، لكى تشعر بإنسانيتها:
«باسعى أكون إنسان

 والقى جواب يستر صدرى..
بمد إليكم حيرتي
الدنيا بتخلص وأنا بغرق.. وأبكيى

وكفوفى العمى بتمزّع ضرعي» (ص26)

قد أصبحت الذات عدوة نفسها، وكأنها تستلهم من زمن بعيد بيت أبى العلاء المعري: «مهجتى ضد يحاربني، أنا منى كيف أحترس» لكن الذات الشاعرة هنا لا تحارب من الداخل، بل امتدت هذه الحرب من الباطن، لتسيطر على الجوارح الظاهرة التى لم تعد الذات تتحكم فيها؛ فتلجأ إلى الآخر وتمد يدها، لعلها تجد الجواب، ليس الشافي، بل الذى يسترها ويخلصها من معاناتها وانقسامها، فهل يجيب الآخر الذات الشاعرة ويخلصها من حيرتها؟ وهل تجد الإجابة الصحيحة:

«نلاقى فين الإجابة.. أم العيون الرحابة

 أم الأيادى البيض والكفوف خضابة!» (ص28)
 إنها الإجابة بالأفعال، التى تشيد ما هُدم داخل الذات وتعمره من جديد، إجابة تمتاز بالرؤية البعيدة، وتترفع عن ضيق الأفق، لتبحث عن كون رحيب للذات التى يمتلئ علقها بالصخب:
«عقلى مليان بالصخب» (ص29)
 إن حيرة الأسئلة تلقى الذات الشاعرة فى حرب من البحث عن جواب:
«دقت راس الحيرة فى ساحة الفكر
وسابتنى أتساءل: إيه المغزى فى عبور النمل
من جهة للتانية!
مش هنا نمل وهناك نمل؟
ولا فيه فى الفعل بذاته حاجات متخبية!
هل كانت تايهه وبتدوّر على أرض خصيبة
مليانة حقيقة تزيح الحيرة أم إن التاريخ كاتب على كل المخلوقات تعبر
من أرض لأرض!
تاخدها طول، أو عرض!
توصل لبقع مالحسش ترابها نعال الخلق!
أم إن شريك الرحلة سبقها وبيشاور!
وانا واقف تصلب طولى الحيرة
ويجول خوفى م المجهول فى الخاطر
نظرت لى وقالت: الغاية تبرر أى وصول
بكرا هتتذكر وتعيبها النشوة
ويسيل من جوفها حلم بسيط
يفعل فيه الشيء ما يشاء
من غير ما الكون ياخد باله، ويبرر أفعاله
ويدق بإيده ناقوس الحيرة فى ساحة فكرة
ويتساءل.» (ص36)
   إن الذات قد صارت تبوح بالأسئلة أخيرًا، لكنها لم تنشغل بنفسها أو بالإنسان، بل لجأت لكائن صغيرٍ، وليست العبرة به، بل كون الذات معنية بأدق التفصيل، فلماذا تنشغل الذات بهذا الفعل للنمل، وما سر هذا العبور؟ إن النمل لم ينتقل إلى مكان خالٍ يتخذه موطنًا، بل لجأ لمكان فيه نمل آخر، فهل النمل يسعى للتواصل مع النمل الآخر ولا يتقوقع على نفسه، وقد صار هذا الفعل غريبًا للإنسان، حتى يستفهم عن جدواه؟ وهذا التفسير الأول، أما التفسير الثانى وأظنه الأقرب، هو أن النمل سيظل على حاله نملًا، سوءًا ظل فى مكانه أو رحل، فلماذا يسعى للتغيير؟ أم أن النمل قد صار يملك مفاتيح تغييره ويسعى لها والذات ما زالت فى خطوتها لا ترتحل إلى البعد الذى يليها، ويتحول السؤال الاندهاشى من أفعال النملة إلى تعاطف، لتلقى الذات بحيرتها على النمل، الذى صار هو الآخر فى دوامة من الأسئلة يبحث لها عن أجوبة فى أرض أخرى، ويصبح التاريخ سابقًا للفعل صانعًا له لا مصنوعًا من خلاله، وتأخذ الذات دورة من الأسئلة المتلاحقة تحاول من خلاله تفسير عبور النمل، لتجيبها نملة بجواب يزيدها من حيرتها ويولد عندها الأسئلة التى لم تتوقف عن التناسل.
  لم تعد الأسئلة تغيب عن الذات فى أى من لحظاتها، وتتكرر الأسئلة ذاتها كأنها تطرح للمرة الأولى فى فعل ديمومى لا فكاك منه:
«مع كل دقيقة تمر..
 يخطر لى سؤال: هل كان لى خلاص فى الغيب!» (ص42) 
ومع ذلك تحاول الذات التفكير فى خلاص يحررها، فهل يكون الجهل سبيلها؟
«الحيرة طريق ممدود..
 وانا واقف بسأل: لو غرقت روحى جوا سهول الجهل
هكون مرتاح!
ولا السؤالات هتبل الريق!» (ص45)
حتى فى الجهل والخلاص من ألم المعرفة، قد تطرق الأسئلة باب الذات ولا تتركها تنعم بما جهلته، وكأن التطلع الدائم إلى كشف الحقيقة ومعرفة البواطن، قدر لا يترك الذات أبدًا. لقد تحولت الأسئلة إلى هاجس كبير، حيث صارت الأسئلة نفسها ترفض أى جواب، أى حدث يمكن أن يطرأ عليها، إنها تستلذ بعذابها فى هذه الحيرة والخطوة فى المحل، حيث صارت الذات عدوة نفسها ومصدر خوفها: 
«بندارى جلودنا..
إن هبت ريح للتغير
 وننام
خايفين م الذات
 أكتر ما بنخاف م الغير» (ص60)
 لقد صارت الذات –فى بعدها الجمعى هنا- تخشى أى فرصة للتغير، ليس لأن تصبح مثل الآخر، بل لأنها تخاف من أن تتغير، فهل يمكن أن تكون ذات الإنسان هى أكبر عدو له؟
 إن ديوان «على بعد خطوة» قد قدم أسئلة لا أجوبة لها، ونقل حيرة الإنسان من الحاضر الموجود ومن المجهول الغائب ومن ذاته نفسها، فمتى يكف الإنسان عن حيرته وأسئلته، وكيف؟ أم عليه أن يبقى فى ساحة التفكير، ينزف أسئلة؛ لعله يومًا يصل إلى إجابة تؤدى إلى شفاء الذات من نفسها، وتصل إلى بها العالم الباطنى الهادئ الذى تنشده، فتعيش فى سلام مع نفسها، وينعكس هذا السلام على الآخر.