شجون جامعية

المِساحةُ الشَخصيةُ

د. حسام محمود فهمى
د. حسام محمود فهمى

حسام محمود فهمى

اِنتهاكُ المِساحةِ الشَخصيةِ تجاوُزٌ قد يَدفعُ لردِ فعلٍ غاضِبٍ

تَخيَّلْ أنك تَسحَبُ مبلغًا من ماكينةِ ATM واِقترَبَ الواقِفُ خَلفَك واِطَلَعَ على خُصوصيةِ مُعامَلَتِك البَنكيةِ، أو أنك تجلِسُ على كرسى فى اِنتظارِ القِطارِ فإذا بمن يأتى للكرسى المُجاورِ ويمِدُ يدَه وراءَ ظَهرِك على مَسنَدِ مَقعَدِك، أو من يُخاطبُك فيُطبطِبُ عليك أو ينغُزَك أو يقرُصَك من ذقنِك، أو أنك أمامَ مِنضدةٍ مع نفسِك وفنجانِ قَهوتِك فيأتى أكثرُ من شخصٍ لمشاركتِك الجِلسة دونَما مَعرِفةٍ. إنها بعضُ أمثلةٍ للتَعدى على المِساحةِ الشَخصيةِ أو الفضاءِ الشَخصى Personal space.
اِنتهاكُ المِساحةِ الشَخصيةِ تجاوُزٌ قد يَدفعُ لردِ فعلٍ غاضِبٍ. من الضرورى إذن مَعرِفةِ الحُدودِ الفاصلةِ بين الحاجةِ للخُصوصيةِِ والاِختِلاءِ بالنفسِ فى مقابلِ العِلاقاتِ الاِجتماعيةِ أو علاقاتِ العملِ، حِرصًا على تعامُلاتٍ رائدُها الاِحترامِ المُتَبادَلِ وتفادِيًا للنِزاعاتِ.


المِساحةُ الشَخصيةُ هى الفَضاءُ الذى يَجِبُ تحديدُه والاِحتفاظُ به عندَ التعاملِ مع الآخرين. وهى تَختلِفُ باختلافِ المُجتمعاتِ، فهناك مُجتَمَعاتٌ تَتَقَبلُ العناقَ والقُبُلاتِ بين الرجالِِ عندَ اللِقاءِ، وهناك مُجتَمَعاتٌ السلامُ فيها من بعيد لبعيد، ومن المُجتَمَعاتِ من يَسمَحُ بتقبيلِ الرجالِ للنساءِ على الخدِ أو على اليدِ عند اللقاءِ، كما أن منها من لا يتقَبَلُ مُلاطفةِ  الغرباءِ للأطفالِ. كذلك تختلفُ المِساحةُ الشَخصيةُ مع تبايُنِ الطباعِ الفرديةِ لأسبابٍ عِدةٍ مثلَ التفاوتِ الثَقافى والاِجتماعى، الطفولةِ والتربيةِ، الاِنطواءِ أو الاِنبساطِ، العُمرِ والجنسِ، اِضطراباتِ الإجهادِ، سابقِ التعرُضِ لسوءِ مُعاملةٍ.


لكن، كيف تُقَدَرُ المِساحةُ أو المَسافةُ الشَخصيةُ؟ قد يكونُ طولُ الذِراعِ مَسافةً مُريحةً مع زُملاءِ العَملِ  بينما مع المُديرين لابدَ من زيادتِها؛ أما التَعامُلُ مع الغُرباءِ فتكون مَسافتُه بحدودِ القُدرةِ على التواصلِ سَمعِيًا وبَصَريًا. وتُشيرَ الرَغبةُ فى زيادتِها إلى تَحَوُلٍ سلبى فى المَوقفِ تجاهَ شَخصٍ؛ المِساحةُ الشَخصيةُ إذن هى إشارةٌ بدونِ لفظٍ تَسبَقُ الكلامَ وتَدُلُ على كيف سيكونُ الحِوارُ.
للمِساحةِ الشَخصيةِ تفريعاتٌ حسب المَسافةِ:
المَسافةُ الحَميمةُ Intimate distance، بالاِتصالِ عن قربٍ أو التلامُسِ، وتُحجَزُ لما بين الأزواجِ وأفرادِ الأسرةِ والمُقرَبين.
المَسافةُ الشَخصيةُ Personal distance، تُحَدَدُ بطولِ الذراعٍ، حوالى المِترِ، وقد تقلُ بعضَ الشيء وفقًا للعلاقةِ بالطرَفِ الآخرِ. الحِفاظُ عليها فى علاقاتِ العَملُ دليلُ اِحترافيةٍ واِحترامٍ.
المَسافةُ الاِجتِماعيةُ Social distance، من مترٍ حتى ثلاثةِ أمتارٍ، وهى لازِمةٌ للمواقفِ التى تَتَطلبُ شَكلياتٍ، كالتفاعُلِ مع العُمَلاءِ، أو فى الاِجتماعاتِ بين المديرِ والموظفين.
المَسافةُ العامةُ Public distance، تَتَراوحُ من ثلاثةِ أمتارٍ حتى عشرةِ أمتارٍ أو أكثر، وهى للتَعامُلِ مع جمهورٍ كبيرٍ فى مُحاضرةٍ أو خِطابٍ وعادةً ما تُراعيها مَراكِزُ المؤتَمراتِ.
مع تَطَوُرِ تِكنولوجيا الاِتصالاتِ والحاسباتِ ظَهَرَت «المِساحةُ الشَخصيةُ الاِفتراضيةُ» على مواقعِ التواصلِ الاِجتماعى، وجَدَت وقائعٌ مؤسفةٌ إما بسبب اِختراقِها أو للتفريطِ فيها. لذا من الضرورى تَوخى الحَذَرِ بعَدَمِ نَشرِ البياناتِ الخاصةِ والصورِ أو تبادُلِها أو إفشاءِ كَلِماتِ السِرِ، كما يجبُ تفادى الاِشتراكِ فى مجموعاتٍ تَطلُبُ عناويِّنٍ وأرقامِ تليفوناتٍ، مع الاِبتعادِ عن الإنجرارِ لحواراتٍ وتعليقاتٍ مع مجهولين، والتحَفُظِ فى أى نقاشاتٍ حتى مع معروفين. حِواراتُ مَواقعِ التواصُلِ هى كلامُ بلكونات، جَعجَعةٌ واِستعراضُ صوتٍ، دونَ خصوصيةٍ أو اِحترامٍ مُتَبادَلٍ.  
كَثرةُ الأصدقاءِ أو المُتابعين على مواقعِ التواصلِ ليسَت دليلَ مَحَبةٍ، مُجَردُ وسيلةٍ لجذبِ المُتابعين لنَشرِ أفكارٍ أو للدعايةِ الشَخصيةِ أو للترويجِ أيًا كان. «يُؤتَى الحَذِرُ مِن مأمَنِه»، قالتَها العَربُ تذكيرًا بأهميةِ الحيطةِ وتَجَنُبِ التَسليمِ للأشخاصِ أو الظروفِ التى تُظَنُ أمِنَةٌ.
من اِنتهاكِ المِساحةِ الشَخصية، بيعُ شَرِكاتُ الاِتصالاتِ بياناتِ المُشتركين، دونَ رضائهم، لكَياناتِ التَسويقِ، دونما ‏رَدعٍ  واجبٍ من وزارةِ الاِتصالاتِ وأجهزَةِ الدولةِ.
المِساحةُ الشَخصيةُ أيضًا سلوكياتٌ فى عِلاقاتِ الجيرةِ، فلا يَتَعدى الجارُ على مِساحةِ جارِه بغسيلٍ وسجاجيدٍ تَتَدلى حتى نوافذِه، وبأكياسِ قِمامةٍ قُربَ بابِه.
المِساحةُ الشَخصيةُ مرآةُ المُجتَمَعاتِ...
اللهم لوجهِك نكتبُ علمًا بأن السكوتَ أجلبُ للراحةِ والجوائزِ،،
● أستاذ هندسة الحاسبات بهندسة عين شمس