رحلة فى ذاكرة التراث الفرعونى

د. آمال عثمان تكتب: الحضارة المصرية شكلت فجر الضمير الإنسانى ورسمت الطريق إلى مملكة الأخلاق

 حجر رشيد رمز للهوية المصرية وعلى المتحف البريطانى
حجر رشيد رمز للهوية المصرية وعلى المتحف البريطانى

الاستيلاء على حجر رشيد بموجب معاهدة الإسكندرية غنيمة حرب استعمارية

«تجلى إبداع الإنسان المصرى منذ أقدم العصور التاريخية، مخلفاً تراثاً إنسانياً عظيماً، يتلاحم فيه الفن مع العلم، ويستمد سحره وبهاءه من ينابيع روحية، وقيم فكرية راسخة، شكلت عصر بزوغ فجر الضمير الإنساني، وإشراق شمس العدالة، ورسمت الطريق إلى أبواب مملكة الأخلاق الرحبة، تلك المملكة التى مازال أمام العالم مئات الآلاف من السنين لارتياد حدود أطرافها المترامية».

أعادت الاكتشافات الأثرية إحياء فصول من حياة المصريين القدماء، وجاء فك رموز اللغة المصرية القديمة ليزيح الغموض عن تطور الرقى الحضارى والأخلاقى على ضفاف نهر النيل، ويلقى الضوء على مرحلة فريدة غيّرت شكل حياة الإنسان على الأرض، ويميط اللثام عن أول فصل من فصول تقدم البشرية، وأقدم مجتمع عظيم، توافرت له كل مقومات وأسس إقامة دولة متحضرة كبيرة، لديها حكومة مركزية قوية، ويحكمها ملك واحد، فى وقت كانت أوروبا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة، ومتفرقة من صيادى العصر الحجري.

وبعد فك رموز الكتابة المصرية القديمة، استطاع العلماء قراءة، وفهم مجموعة من أوراق البردي، تعود إلى «العهد الإقطاعي» 2000 ق.م، وصفها المؤرخ «جيمس هنرى برستيد» فى كتابه الشهير «فجر الضمير» بأنها نصوص سُطرت بأسلوب أدبى رفيع، تضم بين ثناياها آراء اجتماعية، كتبها المصرى القديم لتكون شاهداً على أول كفاح فى سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية، وهى تعد أقدم بحوث معروفة فى علم الاجتماع، وبذلك يكون مؤلفوها هم أول المصلحين الاجتماعيين فى التاريخ، ويكون وادى النيل، أول مسرح اجتماعي، خرج منه الإنسان منتصراً فى رحلة كفاح طويلة مع الطبيعة، لينتقل من الوحشية إلى المدنية، بكل مظاهرها الخارجية فى الفن والعمارة، ويُحدث انقلاباً مدهشاً، يحوّل الأرض القاحلة إلى مدن زاهرة، يَدخل بعدها رحلة كفاحه مع الذات، ويعرف مفهوم الحق والباطل، والنظم الأخلاقية العليا التى تجسدت فى كلمة «ماعت» وتعنى الحق والصدق والعدل، ويُحدث تطوراً حضارياً مستمراً ، ويُظهر الحياة الإنسانية بمظهر لم يعرف الكون كله أرقى منه.

حجر رشيد.. والغنائم الاستعمارية

يعد حجر رشيد مفتاحاً لفك رموز اللغة المصرية القديمة، وهو جزء من لوحة يرجع تاريخها إلى عام 196 ق.م، ويحتوى على مرسوم من كهنة «منف» يظهرون فيه امتنانهم للملك «بطليموس الخامس»، بمناسبة إعفاء الشعب من الضرائب، وما يجعل حجر رشيد أثراً فريداً أنه كُتب باللغتين اليونانية، والمصرية القديمة التى تشمل الهيروغليفية «لغة المعابد»، والديموطيقية «لغة العامة»، وتلك الكتابات المختلفة الموجودة على الحجر، مكنت عالم الآثار الفرنسى «جان فرنسوا شامبليون» من فك رموز اللغة المصرية القديمة، ومهدت لنشأة علم المصريات.

اقرأ أيضاتعامد الشمس في معبد الكرنك: رمزية وتأثيرات على الحضارة المصرية القديمة

ويرجع تاريخ اكتشاف «حجر رشيد» إلى يوليو 1799، أثناء قيام المهندس الفرنسى «بيير فرانسوا كزافييه بوشار» بأعمال حفر لتدعيم حصن قديم، بالقرب من مدينة رشيد، وأثناء العمل لاحظ وجود حجر مختلف عن باقى الأحجار المُستخدمة فى الحصن، وبعد رفعه أدرك أن النقوش الموجودة عليه لها قيمة مهمة، لذا نقله إلى معهد مصر بالقاهرة، الذى أقامه نابليون للعلماء الفرنسيين للعمل على اكتشافات بعثتهم، وبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، انتقلت ملكية الحجر إلى بريطانيا، بموجب شروط معاهدة استسلام الإسكندرية عام 1801، والتى نصت فى الفقرة 14 منها على تنازل فرنسا عن الحجر، وجميع القطع الأثرية التى اكتشفتها فى مصر لصالح بريطانيا.

وقد جرى التفاوض على المعاهدة، وتوقيعها من قبل القوات العثمانية والفرنسية والإنجليزية، فلم يكن لمصر آنذاك سيادة على تراثها الثقافى، وبموجبها قام الفرنسيون بتسليم حجر رشيد، رمز الهوية المصرية إلى القوات الأنجلو - عثمانية، بمعنى أن من لا يملك منح الحجر لمن لا يستحق، بموجب اتفاقية ظالمة ليس لنا فيها ناقة ولا جمل!! وبعد عام استولى الجيش الإنجليزى على حجر رشيد، بدون تنازل عثمانى موثق، وأرسله إلى المتحف البريطاني، لُيعرض بشكل غير قانونى منذ ذلك الحين.

وحصول بريطانيا على «حجر رشيد» بموجب معاهدة، تنتهك القوانين الدولية والعرفية، يعد نوعاً من الاعتداء الصارخ على الممتلكات الثقافية، ونتيجة مباشرة لتاريخ طويل من العنف، والماضى الاستعماري، ولمساعى نهب التراث الذى يحرم البلد الأم من الوجود المادى لذخيرتها الحضارية، وبذلك يعتبر حجر رشيد غنيمة حرب، ومن حق الدول ذات السيادة استعادة تراثها الحضاري، إذا كان قد اُنتزع من موطنه الأصلى عن طريق العنف والمعاهدات غير القانونية، وفى ظل الحديث الآن عن ضرورة إنهاء الممارسات الاستعمارية التى تنتهجها المتاحف الغربية، لم يعد مقبولاً تمسك المتحف البريطانى بهذا الأثر الذى يمثل رمزاً للهوية المصرية، وعلى المتحف استصدار قرار من البرلمان الإنجليزى بإعادته إلى موطنه الأصلي، لإظهار رغبته فى تصحيح الماضى الاستعمارى، وتعويض مصر عن الضرر الذى حدث نتيجة اغتصاب جزء مهم من تراثها الثقافى.. صحيح إن التاريخ لا يمكن تغييره، إنما يمكن تصحيحه.

القبة السماوية وتشويه معبد دندرة

ولا تختلف كثيراً قصة الاستيلاء على «القبة السماوية» عن قصة نهب حجر رشيد، تلك القطعة الأثرية الفريدة التى تفك شفرة علم الفلك القديم، وتجسد ما توصل إليه المصرى القديم من تقدم مذهل فى مختلف العلوم، ويصور نقش «القبة السماوية» بأبراجها، مصر السماوية التى آمن المصريون القدماء بأنها طبق الأصل من مصر الأرضية، بما فيها من أقاليم وتضاريس أخرى، اكتشف هذا الأثر القائد الفرنسى «ديزيه» خلال غزو مدن الصعيد، لذا اعتبره الفرنسيون أثراً فرنسياً قومياً، وصمموا على سرقته، حتى بعد رحيل الحملة الفرنسية من مصر.

ويشير المؤرخون إلى أن الفرنسى «سباستيان لويس سولينيه»، ابن أحد أعضاء مجلس النواب الفرنسى آنذاك، جاء إلى الإسكندرية فى أكتوبر 1820، لشحن القبة السماوية إلى باريس، بمعاونة وكيله «جين بابتيست ليلوريان»، الذى أعلن أنه ينوى القيام بعمل حفائر فى الأقصر، خوفاً من «هنرى سولت» القنصل الإنجليزى الذى كان يتنافس مع الفرنسيين فى نهب آثار مصر، ثم ذهب إلى دندرة لتنفيذ مخططه، وكاد كل من «سولينيه» و«ليلوريان» أن يفجرا معبد دندرة بالديناميت، لنزع أبراج القبة السماوية الضخمة من سقف المقصورة، حيث لم يكن معهما سوى بعض الأدوات البسيطة كالأزاميل والمناشير، فاستخدما البارود لعمل فتحاتٍ فى السقف حول القبة، ثم قاما بنشرها، واستمر العمل فى نزعها 3 أسابيع، ثم نُقلت إلى النيل باستخدام رافعة، وُوضعت فى مركبٍ كبيرة اتجهت بها شمالًا نحو الإسكندرية، وعندما علم القنصل الإنجليزى بعملية السرقة، حاول أن يستولى عليها بكل الطرق.

خاض السارق الفرنسى مغامرة بالبحر المتوسط، لكى يتخفى عن أنظار القنصل الذى كان يتعقبه، حتى نجح فى الوصول إلى باريس، وكانت فى استقباله حشود غفيرة، وتحدثت الصحافة الفرنسية عن «القبة السماوية» التى تعتبر أشهر السرقات غير المشروعة فى تاريخ الآثار المصرية، وانزعج رجال الكنيسة من شغف الفرنسيين، وتسابقهم لرؤيتها وهى تخترق شوارع العاصمة الفرنسية فى موكب مهيب، جمع كبار الساسة والعلماء، وربح «سولونيه» و«ليلوريان» من وراء تلك السرقة 150 ألف فرانك، دفعها لهما «لويس الثامن عشر» ملك فرنسا الملقب بالمفضل.

.. وللحديث بقية