جيل رأى الملك عاريااً!

صورة موضوعية
صورة موضوعية

احتال خيَّاط على أحد الملوك، وأقنعه أنه سيصنع له ثوباً سحرياً، لا يراه إلا الحكماء. اقتنع الملك بالحيلة، وخرج على الناس عارياً مزهواً يسألهم عن رأيهم فى الثوب السحرى. خافوا ولم يخبروه بالحقيقة، بل قالوا: لم نرَ فى حياتنا أجمل ولا أروع من هذا الثوب!

مرت السنوات وجاء طفل صغير صارخاً: أين هذا الثوب؟ إنى أرى الملك عارياً. لقد رأى ببراءته الحقيقة دون زيف أو خوف بعد أن ظلت الحاشية زمناً ترى الوهم! وجيل التسعينيات يشبه هذا الطفل الذى رأى ليس فقط الملك.. بل المجتمع عارياً من كل الأوهام، التى صدَّقتها الأجيال السابقة، فكما احتال الخيَّاط على الملك، احتالت السياسة على المجتمع المصرى فى عقود سابقة. 

رأى جيل التسعينيات المجتمع عارياً ولم يصدِّق حيلة الثوب الوهمى، ولِمَ لا وقد سقطت الأقنعة، بعد أن أصبحت الحياة السياسية فارغة، نتيجة لممارسات السنوات السابقة، ومن ناحية أخرى كانت الحرب على الإرهاب والتطرف ومحاولة الوقوف فى مواجهة الرجعية هى الهدف، حيث شهدت تلك الفترة حراكاً ثقافياً كبيراً أنتج مصطلحات وأفكاراً، مشاريع ثقافية واتجاهات حديثة، وكان لمصطلح التنوير الكلمة العليا، ونتج عن هذا الحراك فضاءات ثقافية جديدة، خلقت اتجاهاتٍ معاصرة، خاصة فى المسرح، فالجميع على تباين الاتجاهات واختلاف المشارب كان لديهم هدف واحد، هو الارتقاء بمستوى الوعى ومحاربة التطرف والخروج من نفق التدين الزائف، الذى تغلغل بقوة فى الفكر المصرى فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى. 

كان هذا الجيل محظوظاً، إذ تفتَّح وعيه فى لحظة تاريخية هبَّت فيها رياح التغيير بقوة على المجتمع المصرى، فلم يعد مؤمناً مثل الآباء بالشعارات الجوفاء التى ملأت أسماعه لسنوات طويلة، وأنتجت واقعاً عشوائياً، كل ما فيه يؤكد أن العشوائية ليست حالة متجسِّدة فى الأحياء الفقيرة وأساليب العمارة والأزياء، بل هى رمز لنظام اجتماعى واقتصادى وثقافى، ليشهد المجتمع المصرى تحولاً كبيراً وحراكاً استثنائياً، فراح جيل التسعينيات يكتب ويُمسرِح ما يعرفه وما يعيشه، واحتلت تفاصيل الحياة اليومية والكتابة عن الذات باعتبارها الموضوع اهتمام هؤلاء، فبعد سقوط الأقنعة والشعارات لم يجد هذا الجيل إلا تفاصيل حياته وذاته التى يعرفها وتعيش فى هذا الواقع! ومن ناحية أخرى لم تعد المؤسسة الثقافية تستطيع أن تقنعه بأوهامٍ وأكاذيب راجت سنوات طويلة، ولم تستطع أن تبيعه ذات السلعة أو ثوب الخيَّاط المحتال، خاصة بعد أن تحول المجتمع إلى بنية اجتماعية مرتبكة فاقدة لهويتها السياسية، وظنى أنه من هنا بدأت فكرة خلق فضاءات جديدة والسعى إلى أساليب أخرى لجذب الشباب ومحاولة بناء جسور الثقة التى تهدَّمت بين أجيال الشباب والمؤسسة الثقافية الرسمية، وكانت أيضاً الفنون المستقلة التى تميزت بها حقبة التسعينيات أحد الحلول فى سياق رفض شعارات المؤسسة الثقافية السابقة فتم السماح وتشجيع الكثير من الجماعات الفنية والأدبية من قبل المؤسسة الثقافية خلال التسعينيات، فى محاولة لمد جسور الثقة، فبدأ الهامش فى الصعود إلى المتن، وأصاب التغيير المسرح والشعر والقصة والسينما والفنون الأخرى، فكان شعر التسعينيات الذى طرح شعرية جديدة من خلال الانحياز إلى نموذج قصيدة النثر وإلى لغة مغايرة تماما للسائد والمألوف، وامتدت الطفرة إلى القصة والرواية، ومن قبل سينما التسعينيات التى تغيَّر فيها مفهوم البطل التقليدى.

ناهيك عن أن هذا الجيل تفتح وعيه فى لحظة أصبح فيها الحلم القومى المصرى من الذكريات وخفت الاعتزاز بالهوية كثيراً، وخرج ليجد أن دولة النهضة والمدنية التى كانت حلم أجيال سابقة ولَّت وذهب زمانها، وشعارات ثورة يوليو التى قادت المجتمع المصرى إلى هذه النتائج قد ذهبت أيضاً، وأن الحضارة المصرية القديمة العريقة تحولت إلى رموز وثنية بعد أن تم تأثيمها، بفضل تغلغل الفكر السلفى فى أعماق المجتمع المصرى الذى أصبح الحاكم والمسيطر، وكأن كل سنوات النهضة ومشروع الدولة المدنية قد سقط فى لحظة خاطفة، فقد تم دهسه تحت أقدام الفكر الأصولى، وصارت المصطلحات الدينية لغة سائدة ومعتمَدة فى الواقع اليومى، تكتنف كل ممارسات المجتمع وتخترق تفاصيل الأكل والشرب والملبس، تحت رعاية التدين الزائف، وصار منهج التفكير الغيبى أشد ما يكون حضوراً فى المجتمع. 

فى تلك اللحظة أيضاً أدرك جيل التسعينيات طبيعة الواقع الاجتماعى المصرى الذى رآه عارياً من كل الأوهام، فى ظل سيطرة الفكر الظلامى حين أصبح الفن كفراً يستحق التوبة، والإبداع خطيئة، والمفكرون والعلمانيون فئة مرذولة يجب التخلص منها! وواكب ذلك حوادث اغتيال بعض الرموز الفكرية، حيث سادت المجتمع فوضى مخيفة أصابت كل مفردات الواقع المصرى، بداية من فساد العمارة وحتى فساد السينما وصولاً إلى تدهور الغناء والموسيقى والأزياء التى جسَّدت ضياع الهوية المصرية، وبنظرة واحدة للشارع، تظن أنك فى حفلة تنكرية حيث تختلط الملابس العثمانية والأفغانية والفارسية بالأمريكية والأوروبية، بما تعكسه من أفكار ومعتقدات وهويات مستعارة. 

ونتيجة لما سبق كان من الطبيعى أن يبرز الاتجاه نحو الاستقلال مع هذا الجيل، وتنمو نزعة التمرد على إرث الآباء، ليس فقط هروباً من هذه العشوائية المخيفة ولكن فى محاولة حقيقية من قِبل الجماعة الثقافية للبحث عن صيغة للاختلاف والوجود، بل للتفرد والانتماء فى آن واحد، وهى محاولة لاسترداد العقل المصرى، حتى لو تمت فى بعض الأحيان على استحياء، وحتى لو لم يكتب لها النجاح، والاستمرار! فكان المسرح المستقل والسينما المستقلة والجماعات الأدبية المستقلة والأهم الرؤية المغايرة للواقع، فثمة كتابة جديدة ورغبة فى التغيير. 

ومع نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة خفت كل شىء.. لم تعد الفضاءات الثقافية كما كانت، تراجعت الرغبة القوية فى الارتقاء بالوعى مع تراجع خطورة الارهاب أو هكذا ظنَّ البعض، وحلت المنح والعطايا فى وزارة الثقافة بدلاً من الأفكار الكبرى والأهداف القومية، وحلت المهرجانات بدلاً من العروض المسرحية، ويبدو أن إنتاج الوعى الحقيقى كان يسير جنباً إلى جنب إلى جوار الوعى الزائف، وكأننا كنا نحلم فى حقبة التسعينيات! لتبدأ الألفية الجديدة بأزمة الروايات الثلاث، ولا تنتهى الأزمات ولا ينتهى التآمر على الثقافة لتتحول فى العقد الأول من الألفية الثالثة إلى مجموعة من المهرجانات، التى هى ضوضاء تملأ الفراغ الثقافى. نعم كانت النوايا صادقة وآثارها تشهد فى المطبوعات والفضاءات الثقافية الجديدة وأيضا الكتابة التى تم إنتاجها فى تلك المرحلة، فإذا كان المصطلح يولد من رحم التاريخ فقد وُلد مصطلح التسعينيات بكل ما أنتجه من رحم تلك الحقبة، بكل ما شهدته من تحولات اجتماعية وثقافية. 

 وأخيراً ربما أكون ما زلت متحفظا ًعلى فكرة الجيل بالمعنى التقليدى، أى وضع مجموعة من الكتَّاب فى حزمة واحدة والبحث عن ملامح مشتركة، ولكن ما زلت مديناً لحقبة التسعينيات بوعى مغاير وتحولات اجتماعية وسياسية كان لها تأثير كبير فى وعى هذا الجيل، وظنى أن هذا سيبقى، أى الحراك الذى أحدثه هذا الجيل، فى سعيه نحو الاستقلال، ليس فقط عن المؤسسة الثقافية الرسمية، ولكن نحو كتابة جديدة، لا يمكن إنكارها أو تجاهل تأثيرها فيما بعد.