الموقف السياسى

«التنسيقية».. مصنع السياسة الوطنية

محمود بسيونى
محمود بسيونى

مرت عملية صناعة الكادر السياسى فى مصر بمراحل عديدة، لم تستقر فيها على طريقة محددة لصناعة ذلك الكادر المهم والضرورى لإنجاح أى تجربة ديمقراطية، ومع كل فرصة للإصلاح السياسى كانت تقفز تيارات متطرفة، سواء تنتمى إلى اليمين أو إلى اليسار لتسرق المشهد السياسى، وتحاول احتكاره لصالح تيارها أو أفكارها، دون أن تضع فى حساباتها أى اعتبار لفكرة السيادة الوطنية أو أولويات المواطن المصرى، فى ظل أزمات وتحديات إقليمية ودولية تفرض نفسها على صانع القرار المصرى.

وكانت السنوات الثلاث ما بين 2011 و2013 كاشفة لتلك الحالة من الاحتياج لكوادر سياسية وطنية، تقدر فكرة السيادة، وتسعى لتعميقها والمحافظة عليها، واتضح الأمر أكثر عند تأييد شخصيات من تلك النخبة لمرشح التنظيم الإرهابى، فيما عرف باجتماع فيرمونت الشهير، وظهور مصطلح «عاصرى الليمون»، لمحاولة إخفاء تأييد المرشح المناقض تماما للأفكار التى تدعى تلك النخب اعتناقها.

قبل ذلك المشهد بقليل كانت كثير من الأحزاب السياسية الكبرى تتحالف مع ذلك التنظيم الارهابى، وتتقاسم معه المقاعد، وبعضها ذهب إلى المرشد وقبل يده، من أجل ضمان عدد من المقاعد، فى مشهد يدلل على فشل تلك النخب فى العمل الجماهيرى، وغياب قدرتها على إقناع الناس بأفكارها، ودفعهم لانتخابها، فعلى الرغم من معارضتهم الشديدة للنظام آنذاك إلا أن الشارع كان فاقد الثقة فيهم، وكانت الجماعة المحظورة المستفيدة من تلك التحالفات، لأنها كانت بوابة حصول مرشحيها على الشرعية القانونية المفقودة.

كانت تجربة سياسية مشوهة بكل تفاصيلها، تلاعب فيها التنظيم الإرهابى بالدين، واستخدم الطائفية للسيطرة على الصندوق الانتخابى، مستغلا حالة الفراغ السياسى، ودفعت مصر الثمن غاليا فى سنوات الفوضى، وكادت تخسر تماسكها المجتمعى، وانتهت بمواجهة ضخمة مع تنظيم إرهابى، انقلب من السياسة إلى حرب العصابات فى لحظة واحدة، وسعى بكل الطرق إلى فتح الطريق أمام التدخل الأجنبى فى القرار المصرى .

كانت أزمة مصر الدائمة فى نخبتها، وفى غياب مدرسة الكادر السياسى الوطنى، بعدما تفرغت الأحزاب إلى البحث عن مقاعد برلمانية على حساب مبادئها.
فى عام 2006 تأسست فى لندن «أكاديمية التغيير»، بقيادة الإخوانى هشام مرسى زوج ابنة يوسف القرضاوي، ودربت الشباب على الثورة ضد أجهزة الدولة، وتشويهها عبر برامج تدريبية، رسخت مفاهيم العصيان المدنى، واستخدام السوشيال ميديا فى تحريك الناس ضد مؤسسات الدولة، وقد كان لهذه البرامج أثر مدمر على الشباب وعلى الدولة المصرية قبل 30 يونيو .

واستغل التنظيم الإرهابى الشباب المتحمس للثورة والتغيير لإسقاط الدولة، حتى حانت لحظة الحقيقة مع أول انتخابات عقب 25 يناير، وفيها أسقطت الجماعة كل الرموز الشبابية، فيما عدا المنتمين للجماعة أو القريبين منها، وبدأت خطة التمكين، واتجه التنظيم الإرهابى لاستبعاد كل الوجوه غير الإخوانية من المشهد السياسى.

وتحرك الشباب فى ثورة 30 يونيو لإصلاح ما أفسده التنظيم، ونجحت الثورة فى اقتلاع حكم المرشد، وتعاملت دولة 30 يونيو بشكل مختلف مع الشباب، واهتمت بتأهيله وإغلاق الباب أمام عودة أفكار الجماعة بعملية تثقيف سياسية واسعة، وصناعة وعى حقيقى بما يواجه مصر من مخاطر. 

ومع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى للرئاسة توجه إلى الشباب، وبدأت عملية صناعة كوادر سياسية شابة على أرضية وطنية جامعة، إذ تمكنت المبادرات الرئاسية لتأهيل الشباب وعلى رأسها البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة (PLP) من تجديد دماء وخلايا جسد الدولة المصرية فى النواحى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالشباب المصرى المؤهل. 

وقد تخرج من رحم تلك التجربة آلاف الشباب المؤهل، وزادت خبراته وتطورت بشكل أوسع وأكبر بعد إنشاء الأكاديمية الوطنية للتدريب، والتى توفر تدريبًا على خبرات الإدارة والتشغيل بشكل علمي، يقارب فى مستواه مدرسة الإدارة الفرنسية، التى يتخرج فيها كل كوادر الدولة الفرنسية، وكذلك المؤتمرات الوطنية للشباب التى تحولت إلى مطبخ حقيقى لصنع السياسات المصرية.

كم هائل من الملفات والمسارات والمشاكل والحلول المعروضة على الدولة المصرية كان مطروحًا أمام الشباب، وتم الاستماع لرأيه، ولأول مرة يشعر الشباب أنهم شركاء حقيقيون فى إدارة دولتهم، فقد أصبح المحافظ ونائب المحافظ والوزير ومساعدوه من الشباب، وأخيرًا ظهرت تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، لنجد الشباب نوابًا فى المجالس التشريعية.

قبل أيام حلت الذكرى السادسة على تأسيس «التنسيقية»، والتى يمكن أن نطلق عليها بالفعل مصنع الكادر السياسى الوطنى، وهو قصة نجاح لتجربة غير مسبوقة لحالة حوار دائمة لشباب ينتمى إلى 26 حزبًا سياسيًا، بالإضافة إلى مئات الشباب السياسى من مختلف الأيديولوجيات والأفكار، وهى تجربة برهنت على أن الاختلاف قوة، وأن الوطن يتسع للجميع.

قدمت التنسيقية للشباب التجربة العملية فى المجالس النيابية والوزارات والمحافظات، عبر تمكينهم من مناصب قيادية تكفل لهم رؤية دولاب العمل اليومى للدولة المصرية، فضلا عن تنظيم الحوارات المجتمعية والسياسية والورش والفعاليات والندوات، وتوقيع بروتوكولات التعاون مع الجهات والهيئات المختلفة، لتبادل الخبرات واستثمار طاقة الشباب.

وكانت التنسيقية خلال السنوات الماضية سباقة فى تبنى مبادرات اجتماعية مهمة، مثل مبادرة التماسك الأسرى لعلاج التفكك الأسرى، ومبادرة دعم الأطقم الطبية خلال أزمة كورونا، ومبادرة دعم ذوى الهمم، ومبادرة ابنى أديبا لدعم الأدباء الشباب، و مع اشتعال الموقف الإقليمى فى غزة أطلقت «التنسيقية» مبادرة شعبية عالمية فى إطار الدبلوماسية الشعبية، لدعم الشعب الفلسطينى وإدانة الجرائم التى يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلى ضده، وجمعت توقيعات من البرلمانيين والأحزاب والنشطاء والمنظمات غير الحكومية والشخصيات العامة والإعلاميين والصحفيين، على عريضة تطالب بالوقف الفورى لكل أشكال العدوان على الشعب الفلسطينى، والتى يتم ممارستها من قوات الاحتلال الإسرائيلى، ودعت المحكمة الجنائية الدولية لاتخاذ الإجراءات اللازمة نحو النظر فى الأدلة المقدمة إليها من جرائم حرب، ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلى تجاه الشعب الفلسطينى.

تجربة «التنسيقية» تضاف إلى تجارب أخرى تدعم تواجد مصر كعنصر فاعل داخل منظومة التحديث والتنمية المستدامة، التى ترعاها الأمم المتحدة عبر تجربتها فى تمكين الشباب.

لقد عالجت الدولة المصرية تصلب شرايين الحياة السياسية فيها بالشباب، وبدأت تظهر نخبة سياسية جديدة، سواء من الموالاة أو المعارضة من الشباب المؤهل، الذى يملك اطلاعًا واسعًا واحتكاكًا بالعالم وتجارب التحديث الشبابية الجارية فيها.

والأهم أن «التنسيقية» تقود تجربة ديمقراطية واعدة، تنطلق على أساس استدامة الاصطفاف الوطنى، خلف تجربة بناء ديمقراطى قوى ومتماسك لجمهورية جديدة، تستحق سياسة بمفهوم جديد .