كلمة والسلام

اللهم عودة

سعيد الخولى
سعيد الخولى

الأمواج الهادرة كان علينا أن نذوب فيها طوافًا ومن ثم اقترابًا من ذلك الحجر الأسود

فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كانت رحلتى الأولى فى حياتى خارج مصر، الرحلة الوحيدة التى جعلتنى أستخرج جواز سفر لأول مرة بعدما رفضت الغربة بشتى صورها لعمل أو لغير عمل. رحلة العمر إلى أرض الله الحرام، وكعبته الشريفة ومسجد رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم، وعشنا فيها أكثر لحظات العمر استقرارا فى النفس بعد رحلة سفر مثيرة.

بعد ليلة طويلة بلا نوم قضيناها ما بين مطارى القاهرة وجدة، على امتداد سبع عشرة ساعة، ولم يكن لنا على أجسادنا من سلطان فقد فرض سلطان النوم قانونه على من استجابوا للإثارة وعاشوها دون أن يغمض لهم جفن أرضا وفضاء فأرضا وحافلات وتضاريس جغرافية تأخذ بالأبصار، وحملتنا المصاعد إلى حجرات الإقامة وصلينا الظهر ثم العصر وألقى كل منا بنفسه فوق سريره مستسلما لسلطان النوم واستعطاف الأجساد طلبا للراحة ومعظمنا يناهز الستين أو يتخطاها، لكن هذا المطلب العادل الملح لم يستطع أن يطغى على ضمائرنا الباطنة ورغباتنا الظاهرة بقطع تلك الأمتار القليلة التى تفصلنا عن الحرم المكى وشفاء عطش النفوس ورفرفة القلوب واشتياق العيون، وما هو إلا أذان المغرب حتى كنا جميعا نستعد للحظات فارقة فى العمر، وساقتنا جميعا رغبتنا المحمومة لقطع تلك الأمتار التى تناهز كيلومترا واحدا إلى هناك، وتسابقت رغباتنا فتفاوت وصول كل منا وزوجته رغم اتفاقنا على التحرك معا، لكن طريق أم القرى الواصل إلى المسجد الحرام والكعبة لا تسمح أجواؤه وازدحامه بالانتظار كى نتجمع، وما كدت أنزل وزوجتى حتى وجدنا رفاقنا قد سبقونا، فاقتفينا الأثر ومضينا نقطع الشارع الذى يرتفع شيئا فشيئًا مع أرضه ومنشأته وأبراجه ليصل بنا إلى هضبة تهبط ثانية إلى أرض الحرم بفنائه المترامى ومئات الآلاف من الحجاج يتحركون هنا وهناك من ساحته إلى داخله ما بين الكعبة وساحات المسجد الداخلية.

يا الله.. يا الله ها نحن فى الساحة نتلمس خطواتنا الأولى سائلين حجيجا أو مستفسرين من الشرطة ورجال تنظيم هذه الحشود وتحركاتها، نسأل عن باب الكعبة وصحنها للطواف.

الأمواج الهادرة كان علينا أن نذوب فيها طوافا ومن ثم اقترابا من ذلك الحجر الأسود بركن البيت الحرام الذى طالما هفت القلوب لملامسته، وها هى ذى زوجتى يقفز منها القلب سابقا اليد والقدمين نحوه وقد حال بينها وبينه أقدام سمراء لا تعرف التراجع عنه وتصميم أجساد قوية تدفع كل من يعوق طريقها وحدها إليه، هؤلاء السمر الأفارقة من بنى الإسلام يكادون لا يتركون فرصة لغيرهم كى ينال تلك اللحظات الأسطورية باستلام واحتضان وتقبيل ذلك الركن العظيم من المناسك، يتدافعون فى تصميم ويقتربون زرافات ووحدانا ويدفعون كل أصحاب الأمل العظيم الجليل ممن تخذلهم أجسادهم عن نيل مرادهم هم الآخرون.

لقد أخذتنى وزوجتى تلك الجموع الهادرة باقترابها وابتعادها وتدافعها وتزاحمها وتراحمها أيضا، وكان أكثر ما يشغلنا مثل غيرنا أن نقترب ونقترب ونمد أيدينا، فاقتربنا حينا وابتعدنا حينا وتجمدنا مكاننا حينا وكدنا نسقط حينا حتى كانت اللمسة الأولى، مد وجزر فى أجلى صورهما، لا لبحر بل لمحيط فيه أمواج متلاطمة ودوامات متوالية.

كانت أول نظرة وأول لمسة تدشينا لتلك الرحلة الروحية الممتزجة بشتى أنواع المعاناة، لكنها المغلفة بأجمل مشاعر الحب والراحة والمتعة النفسية.
اللهم عودة لنا وتحقيقًا لأمل كل مشتاق.