لطفية الدليمى: لم أتخيل في أشد كوابيسي أن أغادر العراق

لطفية الدليمى
لطفية الدليمى

عاصرت الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمى محطاتٍ فارقة فى حياتها إذ تستعيدُ فى كتابها «عصيان الوصايا» بوادرَ شغفها المعرفى واهتمامها بالبحث عن العوالم الموازية فى الأعمال الأدبية.

أما فى كتابها الأحدث «كراساتى الباريسية» فتُسجلُ ما كابدته فى منفاها الباريسى من المُعاناة والمواقف الصادمة، وبخلاف كثير من المثقفين العرب ممن أعجبهم التكوين الاحتفالى لمدينة النور فإنَّ باريس لا تُدِهش صاحبةَ «مشروع أوما» لأنَّ جمال المدينة المهرجانى هو امتداد تاريخى لأهلها، يترافق مع الفكر والفلسفة الفرنسية والأدب. والنزوع البشرى نحو المُتع. واللافتُ فى هذه الرحلة أنَّ الكاتبةَ لا تبدوُ مغتربةً فكرياَ لأنَّها قد صحبت معظم أقطاب الأدب والفكر فى الثقافة الفرنسية قبل أن يُقدرَ لها الإقامة فى مدينة باريس.

ما تقدمه لطفية الدليمى فى كتابها ليس مجرد يوميات المنفى أو المذكرات بل ملحمة إنسانية، وما يشدك إلى هذه السردية أن الكاتبة اختبرت محناً وتحديات مُضنية لكن القارئ لا يسمعُ فى كلماتها نبرة تضخم الذات حول «كراساتى الباريسة».

نُشِرَ لك حديثاً كتابُ «كراساتى الباريسية». ماذا يميزُ العنوان الأخير عن «عصيان الوصايا» علماً بأنَّ المشترك بين الاثنين هو التناول السيرى؟
نعم. الكتابان يتناولان مفاصل من سيرتى الشخصية؛ لكن المقاربة متمايزة نوعياً، وهذا التمايز ليس محض ميل فى التميّز؛ بل هو ضرورة تفرضها طبيعة التناول وحالتى الذهنية والنفسية وقت الكتابة. 

«عصيان الوصايا» هو أقربُ لما يسمّونه فى الأدبيات البيوغرافية السائدة «سيرة فكرية Intellectual وأدبية Literary متداخلة». هذا النمط من السيرة يتناول الأعالى الفكرية والمهيمنات الفلسفية والأدبية التى شكّلت معالم شاخصة فى مسيرتى المهنية فى الكتابة منذ بداياتى الأولى، أوائل سبعينيات القرن الماضى. الكتابة فى هذا النمط تتطلبُ منطقاً بارداً وعقلاً سردياً ليس فى حاجة إلى وخز الذاكرة الدفينة؛ بل أزعم أنّ هذه الوخزات ربما تساهم فى التعمية على ما يبتغيه الكاتب من كتابة تتوفرُ على القدر المعقول من الموضوعية المبتغاة. الحال مع «كرّاساتى الباريسية» مختلف تماماً.



الذاكرة فى هذه السيرة مُسْتفزّة إلى أقصى الحدود، ولا مجال لتحييد الذاكرة أو إلهائها فى لعبة مراوغة كيفية. التطهّر من أعطاب الذاكرة وجروح الروح جزء متمّم لرحلة التعافى مثلما هو أحد الدوافع المختبرة والمؤكّدة لكلّ كتابة جادة تسعى لنقل خبرة ذات قيمة معينة للقارئ الشغوف. 

من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ هذا التمييز بين نوعى الكتابة فى سيرتى الشخصية فى الكتابيْن أمرٌ أنا اخترته واعتمدته ولم يكن خياراً مفروضاً من كائنات علوية تملى علىَّ ما أفعل أو لا أفعل. الاستراتيجية الكتابية لكلّ كاتب هو وحده من يتحكّمُ فيها تبعاً لما يتصوّرُ فيه المقاربة الأفضل فى نقل تصوّراته وخبراته للقارئ. لن أثق أبداً بمن يقول أنّ كتابته انقادت لسلطة ما ورائية.

الكاتب وحده هو من يمسكُ بِـ(ريموت) التحكّم فى وسائله الكتابية بكلّ تقنياتها وعناصرها التعبيرية والسردية. 

بخلاف الصورة التى تمثّلت فى ذهنية المثقف العربى عن باريس بتكوينها الاحتفالى وعمقها الفكرى والحضارى فإنَّ هذه المدينة لم تدهشك. هل شعرتِ بفجوة بينك وبين بيئة المدينة؟
باريس مدينة أنوار حقيقية وليست نتاج حلم تخييلى أو فانتازيا جامحة، وهى تستحقُّ أن تكون وريثة أحد الحواضر الكبرى لعصر التنوير الأوربى. كل ما فيها يحكى عن العظمة والإبهار والرفعة الثقافية، وربما من حسن حظى أنى رأيتها وساكنتها شهوراً طويلة وغادرتها قبل أن تترى علينا الأخبار التى تحكى عن أكوام القمامة التى تعشعش فيها الفئران الكبيرة فى الشوارع الباريسية. هذا أمر مؤسف بالتأكيد ولا تستحقه باريس الجميلة.

بقدر ما يختصُّ بى الأمر فأنا لم أجد ألفة فى منفاى الباريسى. ما تراه العين فى ضوء النهار غير ما تسمعه فى الكواليس البعيدة. الصورة التى لطالما ارتسمت فى أذهاننا عن مدن قريبة أو بعيدة هى صور مثالية، مطلقة، تبدو وكأنّها نتاجُ آلهة متعالية. إنها سلسلة مواضعات تراكمت بفعل أفكار مسبقة تستحثها قناعة يقينية غير مسبّبة بالتفوّق الغربى على كلّ الأصعدة. أظنّ أنّ أحد إيجابيات المنفى هو أنه يجعلك وجهاً لوجه مع الواقع الصلب وليس ذلك الواقع المرسوم فى ذاكرة إسقاطية مسترخية بعيدة عن أتون التلظّى فى تجربة المعيش اليومى وإفرازاته التى لا تنتهى سلباً أو إيجاباً.

هناك أمر آخر جوهرى وعظيم الأهمية. المرء منّا ليس كاميرا حيادية تلتقط الصور والمشاهد المرئية وتعالجها بمعزل عن خلفياته الثقافية وإعداداته الذهنية ورغائبه الروحية. الصورة التى نراها أمامنا هى نتاج تفاعلات مركبة لا يمكن التغافل عنها أو تحييدها. أنت عندما تذهب لباريس زائراً لبضعة أيام أو أسابيع لن تكون كمن يقصدها طلباً للجوء أو لمنفى مؤقت أو دائمى ويكابد سلسلة من المشقات والإحباطات والصدمات النفسية.

الفارق كبير بين الحالتين. كنتُ فى باريس وحيدة ألتمسُ العزاء فى «عراق» أراه نهباً لتدمير ممنهج قادم لا محالة. لم يكن بوسعى تحييد هذه الحالة أو تسكينها خلال إقامتى الباريسية. الحالة الضبابية الذهنية لا تترك لك فرصة للاسترخاء الذهنى واستجلاء معالم الجمال والبهجة إلى أقاصيها الممكنة والمتاحة. هذا فضلاً عن حالة الإعتام التى شابت مستقبلى هناك باستحالة حصول اللاجىء على السكن وهو فى عمر لا يؤهله للعمل، هذا واقع مناقض لواقع معظم دول اللجوء الأوروبية.  

تشيرين فى كراساتك إلى أن الجغرافية الآسيوية تستهويك أكثر من نظيرتها الغربية، ولم تتجه دفة أحلامك نحو الغرب. هل لهذا الموقف دورُ فى مغادرتك لباريس والبحث عن المنفى البديل؟
نعم هذا صحيح إلى حد ما ومن الأفضل الكشف عنه. قناعتى أنّ الغرب بكلّ تلاوينه الثقافية حاز على كلّ الجبهات المتقدّمة من الاهتمام الثقافى والحضارى والعلمى والتقنى. سيكون من الافتئات القولُ إنّ هذا الاهتمام ليس له ما يسوّغه؛ فكلّ تقدّمنا العلمى والتقنى المعاصر نهض على أكتاف الغرب، ومن بعض الحق الطبيعى للغرب أن ينتظر المكافأة المعقولة لفتوحاته العلمية والتقنية؛ لكن فى الوقت ذاته لا بأس من بعض الفسحة من الاهتمام فى جوانب ثقافية محدّدة (الرواية والأدب مثلاً) للشرق والجنوب.

ليس من مسوّغ أن تظلّ عقولنا وقلوبنا مأسورة بالرواية الغربية والأدب الغربى فى وقت يمكن لنتاجات غير غربية أن تمنحنا رؤية غير مسبوقة. ثمة أصوات روائية وأدبية وفلسفية شرقية ومن دول الجنوب برهنت على قيمة استثنائية استطاعت كسر الحدود المسوّرة للمركزية الغربية. 

هذا على الصعيد الثقافى؛ أما على صعيد المعيش اليومى فالأمر مختلف. أنت ستختارُ العيش حيثما شعرت بتحقق شروط كرامتك البشرية ووجودك الإنسانى.

توجد أماكن كثيرة فى الغرب يمكن العيش فيها وبناء حياة منتجة تنطوى على العديد من المزايا الطيبة. لا يمكن – مثلاً - نكران أهمية التطبيب الجيد وأماكن التعليم المتقدمة فى الجامعات الغربية. أظنّ أنّ الغرب لم يزل متقدّماً على سواه (آسيا على سبيل المثال) فى هذا الميدان الإنسانى رغم تناقص مناسيب المزايا الجيدة بفعل زيادة أعداد المهاجرين وضغطهم الثقافى الذى تكتنفه أحياناً اضطرابات سيئة تخرج عن اعتبارات اللياقة تجاه المضيف الغربى.

يفهمُ مما ذكر فى مذكراتك الباريسية أن نظرتكِ إلى معطيات الواقع أقرب إلى اليسار. هل يعكسُ هذا الجانب من تكوينك التأثر بالمدِّ الثورى وبالموجة السائدة أو أن هذا الأمر ليس مواكبة بقدر ما هو وعى ناشئ من التجربة؟
هذا سؤال مفصلى شديد الأهمية بالنظر إلى قيمته النوعية الراهنة. أنا يسارية الهوى ومحبّة للماركسية كفكر وفلسفة. أقول هذا بوضوح وبقناعة كاملة ومن غير استحياء.

لو درسنا تاريخ الأفكار والثقافة العالمية لوجدنا أنّ معظم الكتَّاب والمفكِّرين فى عالمنا أبدوا نزوعات يسارية على نطاقات متباينة تبدأ من الماركسية المتشدّدة وتنتهى بميل نحو دولة الرعاية الاجتماعية؛ بل إنّ العديد من الدول الأوربية (بما فيها بريطانيا التى خُلَقت فيها الرأسمالية) اعتمدت توجهات يسارية عقب الحرب العالمية الثانية. لو تساءلنا عن السبب وراء ميل المفكّرين والمثقفين لليسارية بكل أطيافها فهذا موردُ بحث استكشافى معمّق سأكتب عنه فى أيام قادمة. 

إذن لأختصر الجواب سأقول: ميولى اليسارية نشأت معى ونمت منذ بواكير شبابى، مدفوعة بحسّ إنسانى عالمى التوجه بالعدالة، ولم تأت ردّة فعل عابرة أو انفعالية على إقامتى الباريسية، وأجد يوماً بعد يوم أنّ الوقائع العالمية تؤكّد ضرورة كبح جماح التغوّل النيوليبرالى الذى حوّل الرأسمالية إلى سرقات ومافيات متقنّعة بأقنعة عديدة وكثيرة. لن تستطيع الرأسمالية تجديد نفسها كلّ مرّة، ولن تسلم (جرّة) الرأسمالية عقب كلّ أزمة مؤكّدة من أزماتها الدورية العديدة. 

من الظواهر اللافتة بالنسبة إليك هى الفوضى فى بوصلة التسميات والالتباس فى التموضع؛ إذ لم يعد اليسار يساراً ولا اليمين يميناً. ما هى تداعيات هذا الخلط على المستوى الفكرى؟
أشعرُ أحياناً بوجود مؤامرة محبوكة بالضد من اليسار بغية تبشيعه وتصويره بأقبح النعوت المتخيلة؛ فبعد أن كان اليسار مناوئاً عنيداً للحروب والاستغلال والفقر والهيمنة الاستعمارية صارت بعض أجنحته اليوم (أؤكّد: البعض، حتى لا نقع فى حبائل التعميمات المبتسرة) تؤكّد على موضوعات الجندر والهوية الجنسية والدراسات النسوية المتطرّفة؛ بل إنّ الغريب والمثير فى الوقت ذاته أنّ الرئيس الأمريكى بايدن - ومن ورائه الحزب الديمقراطى - صار ممثلاً لليسارية المتطرفة والمدافع العتيد عنها فى الوقت الذى أصبح فيه بوتين مدافعاً عن القلعة الأرثوذكسية اليمينية الموصوفة بالراديكالية الدينية. يبدو أننا نشهدُ انقلاباً فى محاور السياسة العالمية شبيهاً بالانقلاب المناخى المتطرّف. 

هذا التحوّل من القضايا العالمية التى تهمّ أغلب البشر فى عالمنا نحو سياسات موغلة فى الفردانية ليس خصيصة لليسار الراهن بل هو مَعْلمٌ من معالم اليمين كذلك.

هناك تغوّل فى تغليب الفردانية لا بكونها دعوة إلى تدعيم حقوق الفرد الطبيعية والقانونية بل باتجاه صناعة ممارسات تحرف النظر عن البشاعة التى تسود عالمنا. أكرر: لم يعد اليسار يساراً ولا اليمين يميناً. صار كل منهما تركيبة هجينة تحتمل كلّ التشوّهات مثل قطعة صلصال سائل.  

ربما يخالفكِ الكثيرُ من المثقفين بشأن ما ورد فى كراساتك بأنَّ البيئة الغربية تريد إعادة تشكيل الوافد والإقامة فى هوية مستعارة. هل اختبرت هذه الحقيقة فعلياً؟
اختبرتُها بالطبع. أظنّ أن هناك تداخلاً غير صحى فى فهم طبيعة وحدود وممكنات إعادة التشكّل الثقافى والحضارى. أولاً: لا بدّ من الاعتراف الصريح بحقّ الغربيين فى إعادة تشكيل الوافدين إليهم من مهاجرين ولاجئين فى الحدود التقنية والحضارية التى ستساهمُ فى دفع هؤلاء ليكونوا منافسين قادرين فى سوق العمل والإنتاج.

لو بقى الأمر فى هذه الحدود فعلينا – تبعاً لاعتبارات اللياقة - إبداء إمارات الامتنان والشكر. أنا أنتقد فى كراساتى الباريسية الرغبة الرسمية فى اقتلاع الذاكرة ومسحها بطريقة قصدية موجّهة. هذا أمرٌ فضلاً عن عدم إمكانيته فهو نوعٌ من البتر الثقافى المتسم بالقسوة، وهناك غربيون منصفون يتفقون معى بهذا الشأن. لا أحد يرغب فى قتل ذاكرته، وحتى لو أراد هذا فلن يسعه العيش بلا ذاكرة.

الأفضل هو التعايش مع الذاكرة وتدعيمها بخبرات جديدة لا تعادى الخبرات القديمة طالما بقيت فى الإطار الثقافى الهادئ وغير المتّسم بالعدوانية أو التطاول على ثقافات الآخرين. 

مَنْ يقرأ ما ورد فى «كراساتى الباريسية» عن الصعود بأسماء متواضعة إبداعياً لأغراض سياسية وإعلامية يتخيل بأنَّ الغرب يقيم حفلة تنكرية تحت يافطة الحرية والإبداع. هل هذا الشعور فى محله؟
نعم يحصل هذا الأمر، وقد شهدتُ بعض تمثلاته بنفسى؛ لكنى لستُ أسعى لتصوير الامر وكأنّ الغربيين لا عمل لهم سوى استغلال أسماء محدّدة وتلميعها إعلامياً بغية إطلاقها فى سماء الثقافة العالمية لخدمة أغراض محدّدة هو (أى الغرب) أعرفُ بها منّا جميعاً. أنا أشرتُ إلى هذه الحقيقة كواقعة حصلت ويمكن أن تحصل، وعلينا توقّع حصولها. الغرب فى النهاية مجموعُ سياسات ومخابرات وإعلام وجيوش وصحافة وجامعات،،،، ومن بديهيات الأمور أنّ سياساته يجب أن تسعى لخدمة مصالحه. هذه أمور يجب أن نقبلها ونتعامل معها بأريحية ومن غير تحميل الغربيين أوزاراً مفترضة. الأفضل فى هذه الجزئية أن نتعلّم من الغربيين بدلاً من الاكتفاء بلعنهم.  

يتناولُ «كراساتى الباريسية» مرحلة مفصلية من تاريخ العراق. برأيك هل تحمَّلَ المثقفون مسؤولية رصد تبعات الكوارث التى حلت بالواقع على الفرد العراقى؟
تناولى للوضع العراقى فى «كراساتى الباريسية» جاء كتمهيد أولى للكشف عن الأسباب التى دفعتنى لمغادرة العراق الذى لم أتخيل يوماً حتى فى أشدّ كوابيسى المروعة أن أغادره. أعترف أننى اختزلت الكثير من المشهد التمهيدى العراقى الذى كتبته أول الأمر؛ إذ وجدتُ من المنطقى أن لا يطغى المشهد العراقى ووقائعه المروّعة على مذكرات موصوفة فى العنوان بأنها «باريسية». 

 هل رصد المثقفون العراقيون المشهد العراقى؟ هذا سؤال يجيب عنه المكلفون بهذه المهمة الرصدية؛ فهم الأقدر على الإجابة. سأكتفى بالقول أنّ المثقفين العراقيين - أو الثقافة العراقية لو شئت الدقة فى التشخيص - حصيلة مناخ سياسى افتقد الحد الأدنى من الليبرالية اللازمة لكلّ إنتاج ثقافى رصين، ويمكننى القول هنا أن جزءا كبيرا من الرصد أتى متعشقا بالتخييل فى عدد لا يستهان به من الروايات والقصص، إنما لم تظهر حتى اليوم دراسات اجتماعية ونفسية قائمة على بحوث ميدانية وإحصاءات دقيقة، وفى العموم - كان المثقفون العراقيون الذين كابدوا آثار الكوارث ولبثوا فى البلاد - يعملون فى مناخات قمعية وتحت مظلة الأنظمة السياسية السابقة والراهنة ويعتاش معظمهم من الوظيفة، كيف يمكن لمثقف فى هذا الوضع أن يكون حرا وقادرا على تدوين أو مواجهة كل ما تنبغى مواجهته؟ القبضة السياسية المقترنة بسطوة اقتصادية متغوّلة أمر لا يمكن معه لكاتب إنتاج كتابة حقيقية تصف الكارثة العراقية وتشخّص معضلاتها. الوضع العراقى بكلّ مستوياته لا يزال فى حاجة إلى التوصيف والدراسة البحثية الدقيقة التى لا أظنّ أن الوضع الحالى قادرٌ على الإيفاء بشروطها ومتطلبات الحد الأدنى منها.

استوقفتنى العبارة التالية فى كرّاساتك الباريسية «القيامة النووية فى مشروع سيرن». يجد القارئ لتفاصيل هذا العنوان شغفاً بالعلم (الفيزياء). ما مدى اهتمامك بالثقافة العلمية؟
ربما ستكون إجابتى غير متوقعة. أنا أهتمُّ بالثقافة العلمية بمقدار اهتمامى بالأدب والرواية تماماً، وليس هذا الاهتمام وليد اليوم بل هو متجذر فى انطلاقتى الثقافية الأولى. هنا أريد التأكيد على أنّ اهتمامى بالعلم والثقافة العلمية أكبر من ثقافة سياحية عابرة؛ بل هو إيغال فى التفاصيل مدفوع بشغف وقناعة أنّ العلم دعامة أساسية فى تشكيل الثقافة الإنسانية. العلم أكبر من تفاصيله التقنية ورمزياته ومعادلاته وتجاربه. إنه قبل هذا وذاك نظامٌ نسقى فى التفكير والسلوك والفاعلية الثقافية. 

كنت أثناء تجربة سيرن المثيرة التى أشرتُ إليها فى كراساتى مقيمةً فى بيت ابنى قريباً من جنيف حيث موقع المصادم الهادرونى الكبير LHC، وقد أتاحت لى هذه الإقامة متابعة تلك التجربة المثيرة عن قرب وبكل تفاصيلها التى كانت تتابعها وسائل الاعلام بدقّة وتفصيل. كانت تجربة استوطنت ذاكرتى ولا يمكن أن تُنسى.
 
زرتِ فى رحلتك الباريسية العديد من أضرحة المثقفين والكتّاب الفرنسيين؛ لكنّك وضعتِ باقة زنبق على قبر ألبير كامو دون سواه. هل هناك فى ذاكرتك ما يميّز كامو عن غيره؟ 
نعم. فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، وحتى بعد سنوات عديدة من وفاة كامو بحادث سيارة مؤلم، ظلّ شخصية ثقافية مؤثرة تقف بموازاة القطب الثقافى الباريسى الآخر: سارتر. قد يكون سارتر أكثر تمكّناً فلسفياً ومقدرة تقنية فى الكتابة؛ لكنّى أحببت قراءة كامو أكثر من سارتر وسواه من أقطاب الثقافة الفرنسية.

أنت تجد فى كامو شيئاً من بقية العقل البرى الطافح بالرغبة المتوهجة فى عيش حياة يتزاوج فيها الدافع الأبيقورى بالحس الإنسانى العالمى من غير إيغال كثير فى الأطروحات الأيديولوجية.