«شقاوة شمس» قصة قصيرة للكاتب الدكتور رضا عبد الرحيم

 الدكتور رضا عبد الرحيم
الدكتور رضا عبد الرحيم

 من نافذة القطار، تشاغلنى شمس الأصيل، تداعب خيالي وتبهرنى، فى كل جزء من الثانية، ترسم لوحة كونية جديدة وعجيبة ورائعة. يزداد لونها اصفرارًا، وقطرها اتساعًا. تُبدع وهي تمضي نحو الأفول.. أراها تزيح كتلة الضباب الكثيف فتحوله إلى كتلة سوداء بعيدة.

تموجات تتضاغط فى تناغم مدهش، تلوح لىً وتبعد عنى كلما اقتربت منها، مُذهبة بلون أشعتها الباردة. تتأرجح بين خطوط متباينة من الضوء الشاحب. كتل السحب تتحرك كعائمات الجليد: بيضاء، حالمة، تخفى أكثر مما تُظهر.

تتشكل السحب الركامية وقد تجمعت– كما رآها عجوز همنجواى - مثل أكوام من الآيس كريم، وكان الريش الرقيق من سحب القزع يزاحم سماء سبتمبر العالية. فجأة، تأخذ شكل شجرة؛ فتبدو الشمس كثمرة كبيرة فوق فروعها، يتحرر بعضها مبتعدًا، فتصير نخلة باسقة تختبئ الشمس وراء شواشيها كزهر يتوارى بين أشواكه.

تصعد الشمس أعلى سحابتين شكلا معًا رأس تمساح.. جسد بلا ذيل..  أو ذيل تلاشى قبل أن ألحظه تتوسط فك التمساح تمامًا.. فيبدو عاجزًا عن التهامها. تنجح الشمس فى أن تبدد فك التمساح العلوي، وتحول فكه السفلى إلى مقعد وثير تغوص بداخله ثم سرعان ما تذوب كأنها تغرق فى لجة غائمة، تخرج بعدها صاعدة لأعلى وقد استردت وهجها البرتقالى الذي يستحيل بعد هنيهة إلى لون قرمزي وهاج- كما راتها زوجة الصيدلي لتشيكوف- وكأن نارا عظيمة تنعكس على صفحتها أو كأنها مرتدية "جيبونه" شفافة طويلة تكشف عن نصفها السفلى بلا حياء أو خجل.

 ثم راحت تتقافز خلف الشجيرات البعيدة وأبراج الكهرباء المنتشرة على طول الطريق- بسرعة تفوق سرعة القطار المترنح- وفجأة تنزوى معلنة عن إقتراب المحطة التالية.

 وسرعان ما تتجاوزها لتطرز الحقول الخضراء بخيوط من ذهب. تمضي مسرعة وكأنها تريد أن تفضي بسر يشغلها قبل أن تلفظ آخر أنفاسها.

 يخبو سريعًا الوهج المنبعث منها وحولها. "تتماوت".. تعود لسيرتها الأولى.. تتثاقل حركتها، فيتلاشى نصفها السفلى. وكأنها أودعته أمانة لدى الحقول.

 يذبل نصفها الأوسط. تتحول حولها السحب إلى سديم غامض، وعلى عمود كهرباء مزروع فى الأرض يقف طائر أبى الفصاد، ذو ذيل طويل يهز كثيرا.. يتداخلان.. فتشعر بأنك أمام التل -الفرعونى- الأزلى، والطائر الذي "صاح" من فوقه معلنًا عن بداية خلق هذا الكون.