البرازيلية تاتيانا سالم ليفى: تربيتُ في بيت يدرك حقوق الفلسطينيين| حوار

عائشة المراغى وميلاد رشيد وتاتيانا سالم ليفى
عائشة المراغى وميلاد رشيد وتاتيانا سالم ليفى

تحمل وصية ومفتاحًا، وتستقل الطائرة المتجهة إلى تركيا. تنطلق من البرازيل وهى تظن أن رحلتها جغرافية، ستنفِّذ خلالها الطلب الأخير لجدِّها، لكنها تدرك فى النهاية أن الهدف الحقيقى كان استكشاف ذاتها والتشافى من آلامها، أى أن «الكنز فى الرحلة» مثلما اكتشف «الخيميائى» فى رواية باولو كويلو.

لم يكن الغرض من خوض «تاتيانا سالم ليفى» لتلك الرحلة؛ أن تكتب رواية، وإنما إنجاز أطروحة حول الأدب البرازيلى، ضمن مسيرتها الأكاديمية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة «ريو دى جانيرو»، رأى فيها مشرفها مشروعًا روائيًا لا بحثيًا، فنصحها بالإقدام على تلك الخطوة، وكانت النتيجة رواية «مفتاح البيت» التى حصدت عقب نشرها جائزة «ساو باولو فى الأدب» لأفضل كتاب، وتمت ترجمتها إلى عدة لغات، من بينها الإنجليزية بعنوان «المنزل فى سميرنا»، والتركية بعنوان «مفتاح إزمير»، والعربية بعنوان «بيتنا فى إزمير» الصادرة عن دار العربى للنشر والتوزيع.

تستدعى الرواية أن يكون قارئها صبورًا، ليتجاوز بدايتها المربِكة قليلًا ويتمكن من ربط أحداثها وخطوطها المتشعبة، فهى تشبه «اللغز» الذى يتطلب حلَّه جمع عددًا من القطع؛ الواحدة تلو الأخرى. تحملنا كل منها إلى رُقعة مختلفة من الجذور وأصل الهوية؛ بدءًا من الجد اليهودى الذى هاجر من البرتغال إلى تركيا وعاش فيها، وحملت الأقدار ابنه لأن يغادر بعد ذلك إلى البرازيل، وهربًا من الديكتاتورية العسكرية ينتقل بأسرته إلى البرتغال، ثم يعود إلى البرازيل مجددًا، ومن هناك تبدأ الحفيدة رحلتها إلى بيت جدَّها العتيق فى إزمير «سميرنا سابقًا؛ قبل الحرب العالمية الأولى».



المعلومات حول بطلة «بيتنا فى إزمير» لا تختلف كثيرًا عن حياة مؤلفتها، لدرجة اليقين – أحيانًا – بأنها «سيرة ذاتية»، لكن «تاتيانا» (المولودة فى لشبونة بالبرتغال عام 1979) تصنِّف كتابها كرواية، وتراوغ – بقصد – حول الحقيقى والمتخيَّل منه، لتضع القارئ فى حيرة بين واقعية الحدث وعدمه، وخاصة رحلتها مع «مفتاح البيت» التى تحمل دلالة تحيلنا – بقوة – للقضية الفلسطينية ورمزها الصامد «مفتاح الدار» أو «مفتاح العودة»، ما جعلنى أبدأ معها حوارى، بمشاركة المترجم ميلاد رشيد؛ بالسؤال عن موقفها ككاتبة تجاه ما يحدث فى فلسطين، وكيهودية تجاه أسطورة «أرض الميعاد»، فأجابت: «لا أتفق مع الفكرة المطالِبة بأن يتواجد كل اليهود فى العالم داخل أرض فلسطين، ولم أذهب إلى هناك مطلقًا.

وعلى مستوى العائلة؛ لا أنتمى لبيت متدين، وإنما مثقف بالدرجة الأولى، فقد عمِلت والدتى كمراسلة حربية خلال حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل، وأصدرت كتابين عن حقوق الفلسطينيين، وتم مهاجمتها فى البرازيل من قِبل الجماعات اليهودية.

وبالتالى؛ يمكنك القول إننى تربيتُ فى بيت جعلنى أدرك جيدًا حقوق الفلسطينيين، وكانت والدتى حريصة – على الدوام – أن تشرح لنا أن الكراهية بين العرب واليهود شىء دخيل وجديد، فلو تمعنا بنظرة عامة نحو الشعبين العربى واليهودى؛ سنجد أن هناك مشتركات كثيرة، وأن الاختلاف الرئيسى ظهر مع ظهور إسرائيل، وهذا شىء حديث.

لكن على مر الزمان؛ كان هناك تعايش بين اليهود والعرب. وبشكل شخصى؛ عندما أزور بلدانًا عربية أجد أن بها أشياء كثيرة تشبه هويتى وما نشأتُ عليه، كالطعام والموسيقى. وقبل أن أقص شعرى؛ كان يظن من يرانى أننى من أصل عربى». 

تقولين إن والدتك نشرت كتابين عن حقوق الفلسطينيين. هل يعنى ذلك أنك سرتِ على دربها؟
لا فقد نشأتُ، أنا وأختى؛ على تجربة ما نحب. لكن والدتى كانت تعمل فى الصحافة والكتابة، ووالدى مثقف ومجال تخصصه الفلسفة، وبالتالى كان بيتنا مليئًا بالكتب فى كل مكان، فصارت عادة القراءة عندى مثل «تنظيف الأسنان».

أصول العائلة تركية، والميلاد فى البرتغال، ثم النشأة والحياة فى البرازيل. إلى أى وطن تنتمين؟
ترجع أصولى لعائلة يهودية (سفارديم) فى البرتغال، لكنهم أثناء حملة التطهير التى حدثت منذ عدة قرون، انتقلوا إلى تركيا، وبالتحديد إزمير، ثم هاجروا منها إلى البرازيل. أرى أن وطنى هو البرازيل؛ فقد قضيتُ فيه طفولتى وحياتى كلها، وأتحدث اللغة البرتغالية البرازيلية. لا أنكر أن البرتغال بمثابة وطن آخر لى، وكانت ملجأ لعائلتى فى وقت ما، لكن البرازيل هى الأقرب لقلبى.

أحيانًا يشعر الأبناء بالنقم تجاه آبائهم وأجدادهم، لأنهم بقرار طائش كانوا سببًا فى تعاستهم. هل شعرتِ يومًا بذلك وفكرتِ ماذا لو أن الهجرة لم تحدث؟
بالتأكيد فكرتُ هكذا يومًا ما، لكنى لم أقف كثيرًا عند ذلك، لأن الحياة – بشكل عام – عبارة عن أحداث، ووقوع بعضها يعنى بطبيعة الحال ألا تحدث أخرى غيرها. على سبيل المثال؛ خروج أجدادى من تركيا تسبب فى وجودى، ربما لو لم يخرجوا، لم أكن موجودة الآن. 

لماذا لم تعطِ بطلة روايتك «بيتنا فى إزمير» اسمًا؟
لأن الرواية تنتمى إلى نوعية «التخييل الذاتى». لا أنكر أنها تتضمن الكثير من سيرتى، لكن بها – أيضًا – الكثير من الخيال. إن أعطيت البطلة اسمًا سيتأكد القارئ أنها ليست أنا وتختفى حالة الغموض العصية على الفصل أو الحسم.

لكنك قيدتِها بالمرض، وسيرتك توضِّح أنكِ حرة، أم أنك تملكين قيودًا مماثلة؟
لا شك أننا نعيش فى عصر تحرر، حتى وإن كانت هناك أماكن كثيرة فى العالم تفتقد الحرية. لكن قيود البطلة فى الرواية كانت فاصلًا بين الماضى والمستقبل، من مرضها فى البداية إلى العبور والتحرر خلال رحلتها نحو اكتشاف جذورها. ما أؤمن به أن القيود بإمكانها – على الدوام – أن تصير ماضيًا، لأن المستقبل فى يدنا.

هل تتبعين خُطى «باولو كويلو» فى النهاية التى اخترتِها لروايتك؟
ربما تلك هى الحياة، فالهدف من الرحلة لم يكن الوصول لمكان محدد، والمفتاح لم يكن للبيت، وإنما مفتاح لرحلة استطاعت البطلة من خلالها اكتشاف ذاتها، ولذلك لم تحزن فى النهاية.

وقد قصدتُ أن أترك الخاتمة مفتوحة ليفكِّر كل قارئ ويضع تصوراته، فالرواية لا تعطى إجابات لكل الأسئلة.

بمناسبة التصورات؛ شعرتُ أن مقاطع روايتك أقرب للمشاهد السينمائية. هل قصدتِ ذلك؟
لم أقصد ذلك أثناء الكتابة، لكن معكِ حق؛ فرغم أننى درست الأدب، وأحمل درجتى الماجستير والدكتوراه فى الأدب، إلا أن أسلوب السرد كان معتمدًا على التنقل بين المشاهد، وألا أقول كل شىء. لكن دعينى أقول إننى بعدما انتهيتُ من الرواية بدأتُ فى كتابة السيناريوهات وصِرتُ على علاقة جيدة بالسينما.

تقولين إنه إذا لم تنزف كتاباتك فهى بلا فائدة، وإن الألم هو الشعور الأساسى للحياة، وداخل الرواية أجد أنها متخمة بالآلام. هل تستخدمين الكتابة لتفريغ ما لديكِ من مشاعر سلبية؟
لا أقصد إطلاقًا تصدير طاقة سلبية أو حزن للقارئ، لكنى أردتُ أن أقول إننى لو لم أكتب النص بكل حواسى ودمى؛ سيكون مصطنعًا ولن يصل للقارئ. وبالتأكيد لا يسبب كل شىء ألمًا لى، فوجودى فى مصر – مثلًا – لم يألمنى، لكنى فى المقابل ضد فكرة أن الحياة جيدة تمامًا وكل ما فيها يبعث على السعادة، فذلك ما تحاول «السوشيال ميديا» أن تروِّج له فى أوروبا والغرب، وهذا غير حقيقى. لابد أن نعيش الحياة بكل ما فيها وبكل تعقيداتها؛ بكل آلامها وسعادتها دون انحراف فى التعاطى مع أى شعور منهما.

من الجيد أن وجودك فى مصر لم يؤلمك. كيف كانت رحلتك؟
أسرنى الود الذى يتعامل به الناس، وأعجبنى الطعام بشدة. لم أزر أماكن كثيرة؛ لكنى ذهبت للحى الإسلامى ومصر القديمة والأهرامات. ففى البرازيل؛ لطالما كنا نتلقى المعلومات عن مصر منذ سن العاشرة؛ عن نهر النيل والأهرامات، لكن حينها لم يكن الإنترنت موجودًا لأبحث عن صور وأتعرف عليها بشكل أكبر، وبالتالى وجودى بين هذه المعالم يشعرنى وكأننى فى كتاب حكايات.

يبدو من سردك وعباراتك أنك تقرأين كثيرًا فى الأدب التركى، وأن أسلوبك يميل له – ربما – أكثر من البرتغالى أو البرازيلى. هل هذا صحيح؟
قرأتُ لأكثر من كاتب فى الأدب التركى – بالفعل – مثل «أورهان باموق» و«طانبينار» و«أليف شافاق»، لكنى – فى الوقت نفسه – بحكم نشأتى ودراستى؛ أعرف الأدبين البرازيلى والبرتغالى جيدًا، وأطَّلع – أيضًا – على الأدب العربى والشرق آسيوى. أظن أن الأمر يعتمد على القارئ وكيفية تلقيه للنص وإحساسه به.

لمن قرأتِ فى الأدب العربى؟
أمين معلوف، أدونيس، نجيب محفوظ، وبعض الكتاب من المغرب والجزائر؛ إذ عشتُ سنتين فى فرنسا، وبحكم وجود المغاربة والجزائريين هناك قرأتُ لهم، لكنى لا أتذكر الأسماء. 

هل يوجد فى البرازيل أدب عربى مترجم؟
البرازيل – بشكل عام – فيها تواجد عربى كبير جدًا، بسبب الهجرة السورية واللبنانية إلى هناك؛ مجتمع كبير من العرب وأشياء صارت جزءًا من ثقافتنا، مثل الأكلات اللبنانية والسورية. بالإضافة إلى أن اثنين من الكتاب الكبار فى البرازيل من أصول عربية لبنانية؛ ميلتون حاطوم ورضوان نصار. وبالتالى يمكن أن نقول إن هناك أدباً عربياً مكتوباً بالبرتغالية فى البرازيل، فضلًا عن حركة الترجمة كذلك، لأن هناك من يكتبون ويقرأون العربية والبرتغالية، وهناك كليات للغات بها أقسام للغة العربية.

ما الجديد لديكِ حاليًا؟
أصدرتُ مؤخرًا كتابى «رؤية صينية»، وهو عنوان مزار سياحى فى ريو دى جانيرو بالبرازيل. وأنتظر فى يونيو القادم صدور كتابى الرومانسى «من الأفضل ألا تقول».