خارج النص

«الأكاذيب» المؤسسة للسياسة الإسرائيلية!!

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

يحلو للساسة فى إسرائيل أن يتهموا كل من يوجه انتقادًا حادًا لأفعالهم وجرائمهم بأنه يروج لـ «النازية»، وتاريخ العداء بين النازيين فى زمن الحرب العالمية الثانية وبين يهود أوروبا معروف، لكن ما لا يريد ساسة إسرائيل أن يعترفوا به، هو أنهم باتوا أكثر من يعيد تدوير أدوات الدعاية النازية التى أسس لها ووطد أركانها وزير الدعاية فى تلك الحقبة، جوزيف جوبلز، صاحب المقولة الشهيرة: «اكذب.. ثم واصل الكذب، حتى يصدقك الناس»!!  

ويبدو أن التاريخ الإسرائيلى الطويل فى صناعة الكذب، بات جزءًا من البنية المؤسسة للسياسة التى تتبعها حكومات تل أبيب المتعاقبة، لكن من الواضح أيضًا أن حجم الأزمة والضغوط التى تعانيها حكومة بنيامين نتانياهو تجعلها - عن جدارة واستحقاق - صاحبة الرصيد الأكبر فى التلفيق والتزييف.

دولة الاحتلال التى احتفلت بالأمس بذكرى تأسيسها السادسة والسبعين، قامت على حفنة من الأكاذيب التى استطاعت آلة الإعلام الغربى أن تسوقها إلى العالم، بداية من أكاذيب «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، مرورًا بتلفيق الأدلة الدينية والتاريخية لاختلاق حق مزعوم لهم فى أرض لم ينتموا يومًا إليها، لم تتوقف يومًا عن ممارسة الأكاذيب وإطلاقها، لكننى أتوقف أمام مجموعة من الأكاذيب التى باتت «عرضًا مثيرًا للشفقة» من جانب هذه الحكومة الأكثر تطرفًا فى تاريخهم القصير.

فقبل أن تتحرك الآليات العسكرية الإسرائيلية للانتقام من عملية 7 أكتوبر، كانت أدوات الدعاية والتلفيق أكثر سرعة، وبدأت تفبرك القصص عن الأطفال مقطوعى الرءوس واغتصاب النساء فى مستوطنات غلاف غزة، وهو ما ثبت لاحقًا زيفه، لكن بعد أن تلقفته وسائل الإعلام الداعمة لإسرائيل فى العالم، وتورط قادة دول كبرى فى الترويج لتلك السردية الزائفة، واستخدموها أداة لابتزاز المشاعر بدولهم وتبرير الانحياز المطلق لجنون الانتقام الإسرائيلى.
ومع تنامى حجم الجرائم وعمليات الإبادة الجماعية التى تقوم بها قوات الاحتلال فى غزة، بدأت بموازاة ذلك حملات ممنهجة لترويج الأكاذيب وتلفيق الأدلة للتغطية على وقائع مثل قصف المستشفى المعمدانى واستهداف الصحفيين والأطقم الطبية وموظفى الإغاثة الدوليين، فضلًا عن فبركة اتهامات، لم تستطع إسرائيل إلى الآن تقديم أدلة على صحتها، لمنظمة (أونروا) لتبرير إرغام المنظمات الدولية التى تفضح جرائم الاحتلال على الخروج من غزة، وتعمية أنظار العالم عن توثيق ما يجرى من قتل وإبادة.

ولأن مصر كانت السد المنيع أمام مشروع تهجير الفلسطينيين، والصخرة التى تحطمت عليها مساعى حكومة التطرف الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية، فكان لا بد أن ينال الدور المصرى نصيبًا وافرًا من أكاذيب آلة الدعاية الإسرائيلية، فلم يكتفوا بتقاريرهم المسربة مجهولة المصادر دائمًا، بل إنهم لم يستحوا فى إطلاق أكاذيبهم على مرأى ومسمع من أرفع المنظمات الدولية، دون أن يدركوا أنهم يدينون أنفسهم ويوثقون جرائمهم بأيديهم.

أمام محكمة العدل الدولية زعموا أن مصر هى التى تحول دون دخول المساعدات إلى قطاع غزة، وعاد وزير خارجيتهم ليردد نفس الأباطيل، متناسين أن العالم كله بات شاهدًا على مدى الإصرار الإسرائيلى على إغلاق جميع المعابر مع غزة لاستخدام التجويع سلاحًا لقتل من لم يطله رصاص الانتقام الإسرائيلى.

تناسى الإسرائيليون أن كبار مسئولى المنظمات الدولية جاءوا إلى معبر رفح، الذى ظل حتى احتل الإسرائيليون جانبه الفلسطينى وأغلقوه، الشريان الوحيد المفتوح لإغاثة غزة وإفشال مخططهم، وشاهد هؤلاء المسئولون بأعينهم ووثقوا فى تقاريرهم واقع الدعم غير المحدود الذى تقدمه مصر للأشقاء فى القطاع المنكوب، وسجلت وسائل الإعلام العالمية شاحنات المساعدات تتكدس أمام المعبر فى انتظار فرصة الدخول لإنقاذ حياة مدنيين أبرياء لا ذنب لهم سوى خضوعهم لاحتلال لا يلقى بالًا بقوانين دولية، ولا يعرف للإنسانية سبيلًا.

وحتى الدور المصرى المتعلق بمفاوضات التهدئة واستعادة الاستقرار، والذى أثبتت التجارب والواقع أنه لا بديل عنه، لم يسلم من الأكاذيب الإسرائيلية، رغم إدراك ساسة تل أبيب قبل غيرهم أنه لا يوجد طرف آخر إقليميًا أو دوليًا، يستطيع القيام بما تقوم به القاهرة من جهد بالغ الدقة والاحترافية والحنكة فى هذا الملف الشائك.

فى المقابل، التزمت مصر أقصى درجات الصبر والشفافية، واتبعت استراتيجية سياسية وإعلامية متزنة، لا تنجرف للاستفزاز، ولا تنساق وراء المهاترات، لكنها فى الوقت ذاته لا تصمت على حق ولا تقصر فى رد حاسم، والتزمت مصر خطابًا سياسيًا بالغ الدقة صيغت مفرداته بعناية فائقة، واتبعت كذلك دبلوماسية نشطة فى المحافل الدولية، إضافة إلى منظومة إعلامية وطنية باتت لها قدرة على الوصول إلى أرجاء الإقليم، وامتلاك أدوات جديدة لمخاطبة العالم.
الحقيقة التى لا تريد إسرائيل أن تصدقها اليوم هى أن العالم يتغير، وأن الرأى العام العالمى يتحرر ولو تدريجيًا من تأثير آليات التزييف والتضليل التى برعت فيها الدعاية الصهيونية عبر الأزمنة، والأهم الذى لا يريد ساسة تل أبيب أن يصدقوه هو أن الحقائق قادرة على البقاء مهما حاولوا إخفاءها تحت ركام الأكاذيب.